لقد أسعدني ردّ الدكتور عثمان
أشقرا " هابرماس وسؤال الحداثة ردّا على مقال خلدون النبواني" المنشور على
موقع الأوان بتاريخ 02/08/2008 حيث حاور فيه مقالي المعنون ‘ "هابرماس
وسؤال الحداثة: فيلسوفٌ محافظ بقناعٍ حداثويّ" الذي نُشر على موقع الأوان
بتاريخ 26/07/2008. أقول أسعدني الردّ لأنّنا بذلك نطِّور النقاش حول موضوع
الحداثة الذي لا يني يثير جدلاً واسعاً سواءً في الغرب أو في العالَم
العربيّ المتعطّش للحداثة. في مقالي سالف الذكر حاولتُ أن أقول إنّ القراءة
المتأنّية لمؤلّفات هابرماس حول الحداثة قد قادتني لأستنتج أنّ حداثته
ارتداديَّة أو معكوسة تنظر إلى الوراء بدلاً من أن تتطلّع إلى الأمام،
ولعلّ هذا الأمر الأخير هو بالضبط ما دفعني لنقد فكرة التمسّك بالتقاليد
وبالماضي التي لمحتها بين سطور هابرماس ومن خلالها لأُدافع بالتالي عن فكرة
الوعي بالزمان التي لا تتوقّف في رأيي عند عصر من العصور سواءً أكان ذلك
عصر التنوير الأوروبيّ كما في حالة هابرماس أو العصر المحمّدي كما في حالة
السّلفية الإسلامية أو أيّ مرحلة تاريخية يتمّ الوقوف عندها، وإنما تتمثل
أهمية تلك الفكرة في حملها وعياً بالجديد وتبنياً له بدلاً من الخوف منه
والتمسك بإرث الماضي الذي قرَّر ألا يمضي من حاضرنا، إذ لا زلنا نحن العرب
المسلمين نعيش على قيم الرسول والصحابة ونقتدي بما فعل أبو بكر وعمر وعليّ
كما لو أنّهم يعيشون بين ظهرانينا وكما لو أنّ قيمهم تصلح لكلّ زمان ومكان.
يخال من يقرأ ردّ السيد أشقرا أنّني أقف ضدّ التنوير وضدّ الحداثة أو
ربّما ضدّ العقل أيضاً. لماذا؟ لأنني أردت فقط استنطاق النصّ الهابرماسي
لإسقاط القناع عن التناقض الذي يقع فيه المفكر فيصل إلى الطرف الآخر من
الطريق الذي أراد الذهاب فيه. لإدراكي بجدّة الطرح الذي أقدِّمه قمت
بالتدليل على كلامي بالشواهد وبالأدلّة ولم أُطلق كلامي على عواهنه بدون
إثبات كما فعل ناقدي. أن تقرأ نصّاً لتعرف ما يُخفي وما يحجب أو لكي تكشف
النقاب عن تناقضاته الخفية بشكلٍ علميّ وتطبيق ذلك حتى على نصوصنا المقدّسة
خير من تأليه الأشخاص أو إعطائهم شهادة حسن سلوك. لم يعْنِ نقدي أنّ
هابرماس يتنكَّر طوعاً بلبوس المحافظة أو أنه يُسِرُّ غير ما يُعلِن، ولكنه
نقدٌ أراد فضح البنية اللاواعية في تفكيره. ليس نقدي لهابرماس مرَّةً
أُخرى نقداً للحداثة وللعقلانية بذاتهما، بل نقدّاً لخطاب من خطابات
العقلانية والحداثة وهي بالنهاية قراءة من جملة قراءات لنصوص هابرماس ولا
تحمل أحداً عليها أو تلزم شخصاً بنتائجها. لقد قدّم هابرماس خطاباً في
الحداثة وليس خطاب الحداثة وخطاباً في العقلانية وليس خطاب العقلانية. ولو
اعتمدنا مفردات هابرماس نفسه لقلنا بأنه قد طرح دعوة من دعوات الصدق أو
الصلاحية وترك لنا أن نثبت مدى جدارتها من خلال مناقشتها ومداولتها على
نحوٍ حرّ. لا، لا أرى شخصياً في هابرماس ذلك البطل الأسطوريّ كما تصفه
ألفاظ عثمان أشقرا التي تنفخ في النفس الأسطوريّ "وهنا سوف ينتصب شامخا
المشروع الهابرماسي حاملا لواء عقلنة التحديث وتحديث العقلنة واستمرار
المراهنة على قيم التنوير الأصلية والأصيلة". يبدو أننا نحن العرب وبسبب
عدم فاعليتنا الاجتماعية والسياسية متمسّكون بفكرة المخلّص أو البطل المنقذ
أو المستبدّ العادل من هنا التعبير بألفاظ مضخمة تستمدّ مفرداتها من
الملحمة والأسطورة "ينتصب شامخاً"، ثم ما هي قيم التنوير الأصلية والأصيلة؟
أرجو من الناقد الكريم أن يخبر الغرب بذلك وبالسرعة القصوى ليساعده في حسم
أمره إذ أنّ الجدل لا يزال مُحتدماً هنا حول هذا الموضوع.
في خاتمة مقاله يُلَمِّحُ الناقد إلى أنني خصمٌ من خصوم هابرماس الذي
يحاول السيد أشقرا التذكير بمفاخره وأمجاده ليقلب بالتالي السّحر على
السّاحر وليظهر نصّي نصّاً محافظاً يتقنّع بالحداثة كما يُلَمِّحُ في خاتمة
مقاله، كما يؤكّد الناقد على أهمية صورة هابرماس بالنسبة للمثقف التنويريّ
العربيّ. يقوم تصوّري المتواضع على أنّ حداثتنا العربية لا تتأتّى من
استعارة هذا النمط الفكريّ أو ذاك أو احتذاء هذا المفكر الفرنسيّ أو ذاك
الفيلسوف الألمانيّ، بل من الاشتغال على مقولاتنا الخاصة ورؤانا وأوهامنا،
وكسر أصنامنا وقناعاتنا الراكدة منذ غابر التاريخ. يجب أن نمتلك الجرأة على
التفكير وألا ننساق لقيادة أحد كما ذهب إلى ذلك كنط. من يقرأ هابرماس
جيداً يعرف تماماً أنه يشتغل على ثقافةٍ غربية ديمقراطية ما بعد صناعية ليس
لها نفس السياقات التي نعيشها نحن في العالم العربيّ كما أنّه لا يتناول
مسائل العالَم الثالث أو العالم العربيّ لا من قريب ولا من بعيد (باستثناء
حواره حول الإرهاب حيث أجاب باقتضاب على بعض الأسئلة التي تتناول موضوع
الإرهاب في العالم العربيّ). لقد انتبه إلى تلك المشكلة المفكّر الراحل
إدوارد سعيد حين كتب في كتابه الثقافة والإمبريالية: "إن العديد من
الماركسيات الغربية متعامية في دراساتها الجمالية والثقافية على نحو متماثل
عن مسألة الإمبريالية. فعلى الرغم من النظرة الثاقبة والأصيلة للنظرية
النقدية لمدرسة فرانكفورت حول العلاقة بين الهيمنة، والمجتمع الحديث، وفرص
التحرّر عبر الفن بوصفه نقداً، إلا أنها صامتة على نحوٍ مذهل عن النظرية
العرقية وعن المقاومة ضد الامبريالية وعن ممارسة المعارضة في الإمبراطورية.
وهناك أيضاً الخوف من تأويل ذلك الصمت على أنه سهو غير مقصود، فها هو
اليوم مُوّجِّه مدرسة فرانكفورت المنظِّر يورغين هابرماس يشرح في أحد
لقاءاته الصحفية أنّ الصمت هو امتناعٌ عن التشاور: لا بل إنه يقول، "ليس
لدينا شيء لنقوله في الحقيقة حول الصراع ضدّ الإمبريالية وضدّ البرجوازية
في العالم الثالث"، حتى ولو أنه يضيف "أنا على وعي بحقيقة أنّ هذه وجهة نظر
محدودة للمركزية الأوروبية""1.
لقد تناولتُ في مقالي ذاك هابرماس من وجهة نظر نقدية، ولكن لا يعني ذلك
البتة أنني لا أرى فيه إلا فيلسوفاً محافظاً وهو كذلك أو مجرد جوانب سلبية،
ولكنني لا أرى فيه بالمقابل منقذاً ولا نبياً. تكتب الكثير من الأقلام
العربية عن مدى أهمية هابرماس فما الضير إذا ما كتب أحدنا نقداً عنه وهو من
أكثر الفلاسفة الذين أثاروا جدلاً في عالمنا المعاصر؟ أم أنّ لهابرماس
سلطة قادتنا السياسيين ويقع بالتالي خارج إطار النقد؟ لقد كرَّست لهابرماس
سنوات لإحساسي بأهميته فقد اشتغلتُ في الماجستير على جدل الحداثة
والعقلانية في فلسفته وفي الدكتوراه عن مسألة عصر التنوير بينه وبين ديريدا
وكان هناك حصيلة عمل وددتُ أن أشارك بها القارئ العربيّ المثقف والمهتمّ
كانت إحدى نتائجها انتباهي إلى الجانب المحافظ في خطابه الذي يختفي خلف حجب
الحداثة.
سأحاول الآن الإجابة على الانتقادات التي وجّهها لي الأستاذ أشقرا:
1- يرى الناقد أنّ لديّ خلطا في المصطلحات بين الحداثة الجمالية Le
Modernisme وبين الحداثة بمعنىLa Modernité وأخيراً بين التحديث بمعنى La
Modernisation. في الحقيقة لا أعرف كيف استنتج الناقد ذلك فهو يشرح
المصطلحات دون أن يشير إلى مواضع الخلط الذي وقعتُ فيها. أدين بالتمييز بين
هذه المصطلحات الثلاثة إلى سنوات الدراسة الجامعيّة الأولى في نهاية
التسعينات وإلى الكتاب الممتاز لأستاذي الدكتور صادق العظم دفاعاً عن
المادية والتاريخ2 الذي يوضِّح فيه هذه الفوارق، وقد كنتُ قد ألمحتُ في
مقالتي السابقة إلى الاختفاء شبه الكامل للأبحاث حول الفن وعلم الجمال في
مؤلفات هابرماس الغزيرة بعد أن كانت محوراً مركزياً عند الجيل الأول لمدرسة
فرانكفورت وبشكل خاص عند أدورنو وبنيامين، هذا وقد قدمت ورقة عمل حول هذا
الموضوع بالذات منذ أشهر قليلة في جامعة السوربون باريس 1 بعنوان:
Habermas vis-à-vis du modernisme : quand la modernité écrase
le modernisme. ( هابرماس في مواجهة الحداثة الجمالية: عندما تسحق الحداثة
الحداثة الجمالية) ومن طرائف الأمور أنّني وجّهت نفس هذا النقد إلى هابرماس
الذي يستخدم هذه المصطلحات أحدها مكان الآخر دون أن يشير إلى ذلك. وسأعيد
كتابة هذا المقال بالعربية إذا اتّسع صدر موقع الأوان والقراء لهذا العمل.
2- لن يجد القارئ في مقالي السابق إشارة واحدة تقول بأنني جعلتُ بودلير
أقدم تاريخياً من هيغل أو مؤثراً على تصوره للحداثة. كل ما في الأمر أنني
اتبعتُ الترتيب الذي رسمه هابرماس لمخطط كتابه الخطاب الفلسفي للحداثة
والذي تحدث فيه عن الوعي الجماليّ بالزمان عند بودلير في الفصل الأول
(ابتداءً من الصفحة 10 في الترجمة الفرنسية3) قبل أن يتحدث بالتفصيل عنه
لدى هيغل في الفصل الثاني المعنون ‘ "مفهوم الحداثة عند هيغل" (من الصفحة
20 وحتى الصفحة 60 بالنص المترجم إلى الفرنسية) ولا يعني هذا خلطاً
تاريخياً لا عندي ولا عند هابرماس.
3- إنّ اعتمادي على نصّ البيان الشيوعيّ كأحد الخطابات التي تجلّى فيها
الوعي بالزمان الحديث، ليس إلا استشهاداً بنفس النص الذي اعتمده هابرماس في
تبيان الحداثة عند ماركس والذي قال عنه هابرماس بأنه قد تحول عنده "إلى
نشيد" ويكفي القارئ أن يعود إلى الصفحة 73 من الخطاب الفلسفي للحداثة بالنص
الفرنسي حتى يتأكد من ذلك بنفسه، ونصّ ماركس وانجلز ذاك هو نصٌ حداثوي
بامتياز ولا يضيره صفته السياسية.
4- ينصحني الناقد بالعودة إلى كتاب هابرماس المعرفة والمصلحة (الذي يسبق
مرحلة اهتمام هابرماس بسؤال الحداثة بعشر سنوات على الأقل) أو يأخذ عليّ
إهمالي لشرح كيفية تجذير هابرماس لنقد هيغل الجذريّ لكنط، ثم انتقاله
للحديث عن نقد هابرماس للمادية وكتابه مابعد ماركس (الذي يعود لعام 1976)
ثم الحديث عن مؤلفات أدورنو وهوركهايمر والبكاء على بنيامين المنتحر.
أتساءل ما علاقة كل هذا بالنقطة التي ركَّزت عليها في بحثي وهي معالجة
موضوع الوعي بالزمان الحديث وعلاقة الماضي بالحاضر وذلك من خلال قراءتي
لنصوص محدَّدة تناول فيها هابرماس الحداثة في مقالٍ راعى كونه مقالاً
نقدياً يعالج نقطة محدّدة، كما كان لزاماً علي كذلك احترام المساحة التي
يسمح بها هذا الموقع الفكريّ للمقال الواحد. لقد أدى الإسهاب غير
المُبَرَّر للناقد أشقرا إلى خروجه عن الموضوع ودورانه حوله دون الاشتباك
مع نصوصه (الموثَّقة) ويعود هذا برأيي إما إلى الرغبة في الاستعراض
المعرفيّ وكتابة كلّ ما يعرفه (أو يظن أنه يعرفه) عن الفلسفة في مقالٍ
واحد، وإما إلى التوهان وعدم القبض على الموضوع جيداً وإما أخيراً وكالعادة
يكون التعميم هرباً من الدخول بالتفاصيل التي يمكن أن تفضح النقص المعرفي
الفادح لمن يتكلم جزافاً. الطريف بالموضوع أنني حاولت بقدر الإمكان (وعلى
خلاف السيد أشقرا) أن أثبت كلامي بالاستشهادات الموثَّقة وأن أُجري مقارنات
علمية اعتدنا عليها في الوسط الأكاديميّ بدلاً من تقريظ المدائح وتدبيج
الخطابات، لأُتّهم بعد هذا كله بأنني أقدِّم شعارات من قبل الناقد الذي رأى
أن حديثه هو واضحٌ بذاته ولا يحتاج إلى إثباتات أو توثيق علمي أو غير علمي
وكأنه لا ينطق عن الهوى ثم ليطالبني بعد ذلك بالدّقة المعرفية
والتاريخية!! لو قُّدِّم ناقدنا الكريم طرحاً ارتجالياً عرمرمياً كهذا لا
يقوم على الحجة إلى هابرماس نفسه لرفضه هذا الأخير ولاعتبره تواصلاً
مشوَّهاً ولطالبه بتبرير أقواله.
مرَّة أُخرى أعود بالشكر للنقد وللناقد ولموقع الأوان معاً الذين أتاحوا لي
الفرصة من جديد للبحث في هذا الموضوع الذي يهمّنا جميعاً وهو موضوع
الحداثة الذي ربما يكون رهاننا الأخير. وسأختم بالتذكير أن هابرماس قد حاور
عصره وانتقد أفكار معاصريه كما أنه قد انتُقِد بقسوة أيضاً وبالتالي إذا
ما كان هناك من فضيلة أولى عند هابرماس فهي امتهانه النقد وإصراره على
التحاور مع الآخر وهذا هو حال نقاشنا الآن، أما فضيلته الأُخرى فتكمن في
رفضه لفكرة البطولة وتمجيد الآخرين مع أن هناك، وبخاصة في عالمنا العربيّ،
من يمجّد ويؤلّه الرّئيس والنبيّ والعالِم الخ ومن يجعل من هابرماس أسطورةً
وبطلاً ومنقذاً.
في ختام حواره مع الفيلسوفة الإيطالية جيوlانا بورادوري في كتاب الفلسفة
في زمن الإرهاب يقدِّم هابرماس رأيه في موضوع البطولة بقوله: "يبدو لي أنه
كلّما يشرَّفُ "الأبطال" يقفز السؤال إلى الذهن: من يريد هؤلاء الأبطال
ولماذا؟ حتى بالمعنى الرخو للمصطلح فإننا نستطيع أن نفهم إعلان برتولد
بريخت: "واأسفاه على أمّةٍ تحتاج أبطالاً"4