* تكمنُ البداية في البحث عن الذات في التأثر
المتكرر الذي يجد من خلاله الباحث عنصراًَ مفقوداًَ من تكوينه طالما ظل
يحلم به دون معرفته أو الشعور بالحاجة إليه.
* ربما كان صدىً رديئاً لذلك العنصر، لكنه لن
يخلو من اكتساب جزئيات تجعله يكتفي بهذا العنصر عند اكتمال نصابه والكفِّ
عن مؤونة البحث عن عناصر أخرى لإحساسه ببلوغ المرتبة التي كان ينشدها قبل
أن يتحصِّل عليها.
* الذات في
جوهرها تعني التفرد، وهذا لا يتأتى إلاَّ عن طريق الاستقلال التام الذي لا
يحتاج معه إلى تقمُّص الأدوار التي يجد في كلٍّ منها جزءاً من تلك الذات
التي إن فُقـِدتْ أو بُعـثرتْ في عـدة أشخاص ،ففاقدها بحاجة إلى عدَّة
أوجهٍ تعمل على تجميعها ، وربما استساغ البقاء كعدَّة أشخاص لا يجمعهم إلا
النوم..
وبذلك لا يكون « هو » إلاَّ عندما يكون في حالة من اللاوعي
التام الذي يمتزج بهلام وكوابيس تفرض عليه إتاوات نرجسيته التي ينساها
حيناًَ من الدهر، فيتجه إلى تقليد أصوات غريبة لمخلوقات لم تخلق بعد ،أو
التي خلقت في أطوار أخرى لا تمت إلى الإنسانية بصلة ، يجد فيها نفسه كلما
استجاب لصوت البديهة ، ولولا الكُلفة التي يقتات من خبزها كل يوم ليقيم
أوَدَه لما كان لنفسه أن تنطلق بعد أن قيَّدها بالرياء.
* هناك الكثير ممن يقتاتون على ما تساقط من موائـد الآخرين..
فيعيشون في غربة تامة بين الـ "أنا " والـ" آخر " ، وربما شعروا بتلك
الغربة، لكن قلق التفرُّد والاستقلال لم يسكنهم قَطْ ،فيرحلون من هذه
الدنيا كما جاءوا إليها، فلم يشعر أحد برحيلهم الذي كان أشبه بسحابةٍ
عقيمةٍ تلاشت على صدر الفضاء أو تكسَّرت على قمم الجبال ،وما أكثر السحاب .
وهناك القليل فقط هم أحسن حالاًَ من سابقيهم ،إذ أنهم يرون
أنفسهم ويحاولون النفاذ إليها، لكنها رؤية ينقصها اكتمال الدراية، فلا
يجدون سبيلاًَ إلى سَبْر أغوارها والوصول إلى كنهها..
تماماًَ كالصوفي الذي يقف أمام البحر الزاخر فيحسُّ به وبما
فيه ، ويستشعر كل موجة تتكسر عند قدميه ، وأقلَّ ما يستخلصه أن هذه الموجة
المتكسِّرة كالوقت لا تتكرر ،فيظل صامتاًَ لعجزه عن استنطاق نفسه.
* ربما تكون المقولة:" كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة "
مبرراً لذلك العجز/ القيد الذي يجعل المرء عازفاًَ عـن التفكير بالخروج من
قوقـعته
- التي وجد نفسه بداخلها منذ نعومة تفكيره- والبحث عن ذاته،
لكنه مبررٌ كافٍ إذا أخذنا في الاعتبار أن للعقل حدوداً لا يستطيع تجاوزها ،
لكن هذا المبرر لا يحتاج إلى مثل هذا الاعتبار كون المبرر في الدرجة
العاشرة والاعتبار في الدرجة الألف .
فقط يحتاج الواحد منا إلى لحظة جديدة لم تخطر على بال
التقاويم ليرى نفسه في المرآة بكل وضوح بعد أن حلَّت الـ" أنا " محل الـ«
هو» أو الـ«هم».
* لا أدري لماذا أثرثر في حضرتكَ - وكأن أمري يعنيك- كلما
اكتشفتُ دهليزاً جديداً في أعماقي المليئة بطلاسم تشبه في تفاصيلها خريطةً
بكراً لعالمٍ لمْ تطأه مخيلتي من قبل، فلم تقم خواطـري -التي كانت لا تؤمن
إلاَّّ بكل ما يطفو على السطح- برحلة استكشافية للغوص في هذا العالم
والتعرف على مجاهله إلاّ بعد غربةٍ روحيةٍ جَعَلَتْني أرفع شعار «العودة
إلى الذات».
وكأني بك تتوسل إليَّ أن أُوقف هذه الثرثرة التي أبلِّلُك
بها ليقينك أن المظلَّة لن تقيك غزارتها.
* ربما وجدتكَ الوجه الآخر لدينارٍ مسكوكٍ في أعماقي يلازمني
منذ نعومة حقيقتي وانبلاج مداركي..ولم أجرؤ يوماً على تداوله قبل إيجاد
وجهه الآخر كي لا أُتَّهَمَ بالزيف،لأنني ما طمحت إلى العيش بوجهين.. لكن
الضرورة الجوهرية للدينار تُحَتِّم عليه ذلك.
* إن ثرثرتي ليست إلاَّ أعراضاً لمداهمة ذلك الكائن الخرافي
الذي جهله الناس فكنَّوه بـ«القصيدة» ليصموا كل مسكونٍ بحقيقتها بما يحلو
لهم من الألقاب.. حيث يحتل الجنون المنزلة الرفيعة في هذه القائمة "
اللَّقَبيَّة " التي تؤطر الشاعر.
* إنها القصيدة.. تأتي فتحيل المساء كتاباً من الغموض
والألغاز والأساطير، وتنفخ في رئتي "كِيْر" المعرفة وستأتي في الليلة
التالية لتعاود نفخها اللذيذ في رئتي المُدمنة، لعلمها مسبقاً باستسلامي
المطلق وانتظاري للَّحظة التي سأشتعل فيها باليقين.
* وبما أنها تحيل المساء إلى كتاب من الغموض والألغاز
والأساطير، فإنها تَمْسَخني كتاباً مفتوحاً لا يجد مَنْ يحميه مِنْ عيون
السابلة التي تتقافز على صفحاته كالضفادع، وربما تجهل تلك العيون أن صفحة
واحدة تكفي لإصابتها بعسر الهضم.
* ولم تكن استحالتي إلى كتاب مفتوح من دواعي ثرثرتي -كما قد
يعتقد الصامتون- ولكن لمحبتي المفرطة في إضاءة القناديل المهجورة في أطلال
جماجمهم.
علِّي أوصلهم من خلال صفحاتي إلى الفهرس الفضائي المليء
بالكواكب الروحية
لأستأنس بهم فقط..
الأربعاء مايو 26, 2010 3:06 pm من طرف هشام مزيان