كيف تهزم الفقر؟تعتبر
تجربة مكافحة الفقر في ماليزيا من أبرز التجارب التي كُللت بالنجاح على
مستوى العالم الإسلامي الذي يعيش 37% من سكانه تحت خط الفقر، فقد استطاعت
ماليزيا خلال ثلاثة عقود (1970-2000م) تخفيض معدل الفقر من 52.4% إلى 5.5%؛
وهو ما يعني أن عدد الأسر الفقيرة تناقص بنهاية عقد التسعينيات إلى أكثر
من ثلاثة أضعاف عما كان عليه الحال في عقد السبعينيات.
ويتوقع إذا استمرت جهود الحكومة في محاربة الفقر على نفس الوتيرة أن يصل
معدل الفقر بحلول العام 2005 حوالي 0.5%، ويكون الفقر المدقع قد تم القضاء
عليه قضاءً مبرماً.
واللافت في تجربة ماليزيا أن الحكومة وجهت برامج تقليل الفقر التي تم
تنفيذها لتقوية الوحدة الوطنية بين الأعراق المختلفة المكونة للشعب
الماليزي، واستخدمت هذه البرامج كوسيلة سلمية لاقتسام ثمار النمو
الاقتصادي، حيث كان التفاوت الكبير في الدخول، وعدم العدالة في توزيع
الثروة سبباً في وقوع اشتباكات دامية بين الملايو (يشكلون الأغلبية 55%)
والصينيين (يشكلون الأقلية 25%) في مايو 1969.
وبذلك ساهمت جهود تقليل الفقر بجدارة في تقليل التوترات العرقية وترسيخ
الاستقرار السياسي والاجتماعي الذي صار عنواناً لنهضة ماليزيا وازدهارها
الاقتصادي.
فلسفة مكافحة الفقر
تقوم فلسفة التنمية في ماليزيا على فكرة أن "النمو الاقتصادي يقود إلى
المساواة في الدخل"، وعليه فإن مكاسب التطور الاقتصادي يجب أن تنعكس
إيجابياً على المواطنين في تحسين نوعية حياتهم بما يشمل توفير الضروريات من
الغذاء والعلاج والتعليم والأمن، وأن يكون أول المستفيدين من هذا النمو
الاقتصادي هم الفقراء والعاطلون عن العمل والمرضى والمجموعات العرقية
الأكثر فقراً في المجتمع والأقاليم الأقل نمواً.
ولا شك أن الإيمان بهذه الفلسفة دافعه الأول أن العلاقة بين زيادة النمو
وتقليل الفقر طردية موجبة؛ لأن وصول الفقراء إلى تعليم أفضل، وإلى صحة أفضل
ساهما بفعالية في عملية تسريع وزيادة معدلات النمو الاقتصادي.
وفي دول جنوب شرق آسيا عامة وماليزيا خاصة، أدت زيادة النمو بمعدل نقطة
مئوية واحدة إلى تقليل عدد الفقراء بنسبة 3% أو أكثر، وهي أعلى زيادة تم
تحقيقها بين الدول النامية.
السياسات والتوجهات
وقد تُرجمت فلسفة التنمية في السياسات الاقتصادية التي وضعتها الحكومة بين
عامي (1971-1990)، والتي وُضعت جراء الاشتباكات العرقية الدامية في 16 مايو
1965، وركزت على هدفين: الأول تقليل الفقر، والثاني إعادة هيكلة المجتمع.
وحددت هذه السياسة إستراتيجيات معينة لتقليل الفقر، مثل زيادة امتلاك
الفقراء الأراضي ورأس المال المادي ورفع مستويات تدريب العمالة وزيادة
الرفاهية العامة.
وتم التركيز على تحسين الزيادة النوعية والكمية في عوامل الإنتاج المتاحة
للفقراء، وكانت هناك مجموعات عديدة من السكان الفقراء في الريف والحضر محل
عناية خاصة باعتبارها الأشد فقراً.
كما تزايد الاهتمام القومي بمشكلة الفقر في 1974 عقب احتجاجات طلابية نتيجة
تدهور أوضاع صغار مزارعي المطاط نتيجة انخفاض الأسعار وزيادة تكلفة
الإنتاج.
واستمر هدف مكافحة الفقر في الخطط القومية للتنمية حتى إنه تم تعديل تعريف
خط فقر الدخل عام 1986 في النصف الثاني من الخطة الخمسية الخامسة
(1984-1990) ليأخذ في حسبانه إلى جانب احتياجات الحياة الضرورية من الغذاء
وغير الغذاء، ما يجب أن يحصل عليه الفقراء من الملكية العقارية وصافي
التحويلات المالية، وذلك حتى يعكس المؤشر الأبعاد المتعددة لطبيعة الفقر
ونوعية الاحتياجات الأساسية (الغذاء والمسكن والملبس والخدمات الأساسية من
مياه الشرب النقية والصحة والتعليم والمواصلات...) وفرص المساهمة الإيجابية
المتاحة أمام الفقراء ومحدودي الدخل في عملية التنمية الاقتصادية.
من جهة أخرى تم تبني إستراتيجية لتوزيع الدخول في كل السياسات والخطط
التنموية المشار إليها، هدفت مكافحة الفقر المدقع وإعادة هيكلة العمالة
وزيادة تنمية الأعمال التجارية والصناعية للأغلبية الفقيرة من السكان
الأصليين؛ مما أفضى إلى نتائج مهمة، منها انخفاض معدلات الفقر وتناقص فوارق
الدخول بين المجموعات السكانية المختلفة.
في الوقت نفسه تضمنت السياسة الضريبية في ماليزيا بعداً اجتماعياً يستفيد
منه الفقراء؛ وذلك بتأكيد مبدأ التصاعدية في ضريبة الدخل، حيث يبلغ الحد
الأدنى من الدخل الخاضع للضريبة حوالي 658 دولار أمريكي في الشهر، وتؤخذ
الضريبة بعد خصم أقساط التأمين الصحي، ونسبة عدد الأطفال، ونفقات تعليم
المعوقين من الأطفال ومن يعول من الوالدين، ومساهمة صندوق التأمين
الإجباري.
كما أن الدولة الماليزية شجعت المواطنين المسلمين (أفرادا وشركات) على دفع
الزكاة لصالح صندوق جمع الزكاة القومي الذي يدار بواسطة إدارة الشؤون
الإسلامية في مقابل تخفيض نسبة ما يؤخذ في ضريبة الدخل.
برامج دعم الفقراء
نفذت الحكومة في إطار فلسفتها وسياساتها المواجهة للفقر برامج محددة أبرزها:
1-برنامج التنمية للأسر الأشد فقراً: ويقدم فرصاً جديدة للعمل المولد للدخل
بالنسبة للفقراء، وزيادة الخدمات الموجهة للمناطق الفقيرة ذات الأولوية
بهدف تحسين نوعية الحياة. وقام البرنامج بإنشاء العديد من المساكن للفقراء
بتكلفة قليلة وترميم وتأهيل المساكن القائمة وتحسين بنائها وظروف السكن
فيها بتوفير خدمات المياه النقية والكهرباء والصرف الصحي.
2- برنامج أمانة أسهم البوميبترا: وهو برنامج تمويلي يقدم قروضاً بدون
فوائد للفقراء من السكان الأصليين (البوميبترا) وبفترات سماح تصل إلى أربع
سنوات، ويمكن للفقراء أن يستثمروا بعضاً من هذه القروض في شراء أسهم بواسطة
المؤسسة نفسها.
3- برنامج أمانة اختيار ماليزيا: وهو برنامج غير حكومي تنفذه مجموعة من
المنظمات الأهلية الوطنية من الولايات المختلفة، ويهدف إلى تقليل الفقر
المدقع عن طريق زيادة دخول الأسر الأشد فقراً، وتقديم قروض بدون فوائد
للفقراء، وتقدم الحكومة من جانبها قروضاً للبرنامج بدون فوائد من أجل تمويل
مشروعاته للفقراء في مجال الزراعة ومشروعات الأعمال الصغيرة.
4- منحت الحكومة إعانات مالية للفقراء أفراداً وأسراً، مثل تقديم إعانة
شهرية تتراوح بين 130-260 دولارا أمريكيا لمن يعول أسرة وهو معوق أو غير
قادر على العمل بسبب الشيخوخة.
5- تقديم قروض بدون فوائد لشراء مساكن قليلة التكلفة للفقراء في المناطق
الحضرية. وأسست الحكومة صندوقاً لدعم الفقراء المتأثرين بأزمة العملات
الآسيوية في 1997، تحدد اعتماداته في الموازنة العامة للدولة سنويًّا، إلى
جانب اعتمادات مالية أخرى رغم تخفيض الإنفاق الحكومي عقب الأزمة المالية
وتباطؤ الاقتصاد العالمي، وذلك لصالح مشروعات اجتماعية موجهة لتطوير الريف،
والأنشطة الزراعية الخاصة بالفقراء.
6- توفير مرافق البنية الأساسية الاجتماعية والاقتصادية في المناطق النائية
الفقيرة، بما في ذلك مرافق النقل والاتصالات السلكية واللاسلكية والمدارس
والخدمات الصحية والكهرباء، ونجحت أيضا في توسيع قاعدة الخدمات الأساسية في
المناطق السكنية الفقيرة بالحضر في إطار إستراتيجية 2020م.
7- دعم أكثر الأدوية التي يستهلكها الفقراء والأدوية المنقذة للحياة، كما
أن إتاحة الفرصة للقطاع الخاص في فتح المراكز الصحية والعيادات الخاصة جعل
الدولة تركز على العمل الصحي في الريف والمناطق النائية، وتقدم خدمات أفضل
ومجانية في جانب الرعاية الصحية للحوامل والأطفال.
8- القيام بأنشطة يستفيد منها السكان الفقراء مثل إقامة المدارس الدينية
التي تتم بالعون الشعبي وتساهم في دعم قاعدة خدمات التعليم وتشجيع التلاميذ
الفقراء على البقاء في الدراسة.
مؤشرات تقليل الفقر
يعبر مؤشر دخل خط الفقر عن الدخل الضروري لتوفير الحد الأدنى من غذاء يبقي
على الصحة الجيدة للأفراد، ويلبي الحاجة الأساسية من الملبس والمأوى.
ويستخدم هذا المؤشر لقياس مدى الفقر، حيث يصنف الفقراء ضمن الذين تقلّ
دخولهم عن دخل خط الفقر، بينما الأشد فقراً هم الذين تصل دخولهم إلى أقل من
نصف دخل خط الفقر.
واستناداً إلى دخل خط الفقر في ماليزيا الذي يقدر بحوالي 156 دولارا
أمريكيا للأسرة الواحدة في الشهر، فإن مدى الفقر في الفترة 1990-1995، من
9.8% إلى 8.1%.
وسجل مدى الفقر المدقع انخفاضاً من 3.9% في 1990 إلى 2.1% في 1995، كما
انخفض الفقر في المناطق الريفية من 15.6% إلى 13.2% لنفس الفترة، بينما في
المناطق الحضرية انخفض مدى الفقر من 4.1% في 1995 إلى 3.8% في 1999م، وذلك
طبقا للإحصاءات الرسمية.
ومن المؤشرات الرسمية ذات الدلالة أن 94% من الفقراء في ماليزيا يتاح
لأطفالهم التعليم الأساسي مجاناً ويستفيد 72% من الفقراء من خدمات الكهرباء
و 65% منهم يحصل على مياه نقية، وارتفعت توقعات الحياة لديهم إلى 74 سنة
بدلاً من 69 سنة، وهذه النسب جميعها تشير إلى نجاحات كبيرة مقارنة بالدول
النامية (ذات الدخول المتوسطة العالية).
(انظر جدولين خاصين بانخفاض معدل الفقر، وارتفاع معدل الدخل في الفترة من 1995 حتى عام 1999)
جدول (1)
معدلات الفقر في ماليزيا خلال الفترة 1995-1999م
المؤشر (%) سنة 1995 سنة 1999
الريف الحضر الريف الحضر
مدى الفقر 15.6 4.1 13.2 3.8
مدى الفقر المدقع 0.9 3.5 2.4 0.6
المصدر: وحدة التخطيط الاقتصادي 2001م.
جدول (2)
يبين متوسط دخل الأسرة الشهري حسب الأعراق ومعدل النمو السنوي في الفترة 1995-1999.
الأعراق 1995 1999 متوسط النمو السنوي 1995-1999 (%)
البوميبترا (الملايو 422 522 5.5
والسكان الأصليون)
الصينيون 761 909 4.6
الهنود 563 711 6.0
مجموعات أخرى 338 361 1.7
المصدر: وحدة التخطيط الاقتصادي 2001م
نموذج قرية شنكال
وقامت وزارة التنمية الريفية الماليزية بالتعاون مع مؤسسة مكافحة الفقر في
ولاية كلنتان بإقناع سكان القرية والعمل سويا من أجل تحسين أوضاعهم
المعيشية، وتم تشكيل لجنة تنفيذية من أهالي القرية تعهد أفرادها بالعمل على
إحداث التغيير المطلوب، وقام معهد التقدم الريفي بمهمة تدريب أعضاء اللجنة
على تنفيذ الأعمال والمهام الموكولة إليهم.
وتم شرح أهداف برنامج حركة الرؤية الريفية الذي تعمل من خلاله الوزارة على
تقليل الفقر، وأن عملهم يتركز في تقليل عدد الأسر الأشد فقرا، وتقليل معدل
البطالة من خلال توفير فرص العمل المنتج، وتطوير حقول الخضراوات والفواكه
إلى مزارع تجارية، وزيادة وعي الشباب بأهمية التعليم (التعليم مجانا إلى
المرحلة الثانوية)، وفوائد تقنية المعلومات، ومحو أمية استخدام الكمبيوتر.
الجدول التالي يوضح أهداف البرنامج حسب المجموعة المستهدفة في الأسرة الواحدة:
المجموعة المستهدفة الأهداف المبرمجة
الأسرة الواحدة تغيير الأنشطة الزراعية التقليدية الى مزارع تجارية حديثة
ربات البيوت (النساء) تحسين مهاراتهن الإدارية
الأولاد تحسين تحصيلهم الدراسي ، زيادة معرفتهم بالكمبيوتر ، تنمية مهارات التفكير السديد
تحسين مخاطبتهم باللغة الإنجليزية (لغة التجارة والصناعة في البلاد)
الإستراتيجيات العملية
اتُّخذت جملة من الإستراتيجيات العملية لتحقيق الأهداف المحددة، أبرزها:
- تأسيس شبكة عمل مع مؤسسة مكافحة الفقر في الولاية وإنشاء روابط مع
الوكالات الحكومية المعنية بالتنمية والتطوير الريفي؛ وهو ما أتاح الفرصة
أمام أهالي القرية للتعلم من تجارب الآخرين وتطوير قدراتهم ومهاراتهم إلى
جانب تقوية شعورهم بأهمية العمل الجماعي في مواجهة مشكلة الفقر.
- التركيز على التحول إلى الأنشطة الزراعية والتجارية التي تلبي طلب
الأسواق المحلية في القرى والمدن المجاورة من خلال إدخال تقنية إنتاجية
جديدة وزيادة إنتاجية المشروعات الزراعية والمنشآت التجارية.
- تشجيع الفلاحين على المشاركة في أنشطة اتحاد الفلاحين في المنطقة من أجل
حشد الموارد المحلية، وتعبئتها لخدمة سكان المنطقة، وتهيئة إطار تنظيمي
وتعاوني بين الفلاحين يهتم بقضاياهم في المنطقة.
- إقامة حلقة عمل لمجموعة الأسر الأشد فقراً (50 أسرة)، يتم فيها مناقشة
البرنامج واختيار الأسرة التي تبدي رغبة في الاستفادة من البرنامج واتباع
الخطوات المرسومة لتنفيذه.
الخطوات التنفيذية
يتم تقسيم الأسر التي توافق على البرنامج إلى مجموعات عمل تنتخب كل مجموعة
رئيسا لها، وتخضع لدورة تدريبية يتم فيها شرح طريقة عمل البرنامج والخطة
التفصيلية والوسائل العملية وتقسيم الأدوار، وتقوم الحكومة والجهات الراعية
للبرنامج (المصانع التي لها استثمارات في ماليزيا) بتوفير التمويل
والتقنية الإنتاجية والتسويق، بينما يقوم الفلاح بالعمل على الأرض، وتقدم
الهيئة الحكومية لمكافحة الفقر في الولاية الأرض الصالحة للزراعة.
يُذكر أن اللجنة التنفيذية المكونة من الأهالي يتم توزيع أعضائها حسب
الحاجات المحلية للسكان بحيث تشمل الأرض والأعمال الزراعية، ورعاية الأسر
الأكثر فقرا، والصحة والتعليم والبيئة، وتطوير المجتمع، والشؤون الدينية.
هذا إلى جانب مشاركة الوكالات الرسمية والمنظمات الشعبية في عملية التوجيه
والمتابعة في إطار شبكة عمل واحدة.
* لقد نجحت التجربة وسارعت كثير من الأقاليم الفقيرة الماليزية والمناطق
الريفية الأقل نموا في تطبيقها والاحتذاء بها. ولعل العالم الإسلامي يجد في
هذه التجربة ما يفيده.