ماذا تعني ثقافة القرآن؟كثيراً، ما تتردّد كلمة ثقافة ومثقّف، والكثير ممّن يستعملها لا يقصد بالثقافة إلاّ مجموع المعارف التي يحصل عليها الإنسان.
والمثقّف حسب هذا الفهم هو مَن حوى قدراً من هذه المعارف أو تلك.. أو هو
حامل الشهادة الدراسية، لاسيّما في مستوياتها الجامعية.. ذلك ما يفهم معظم
الناس من كلمة ثقافة ومثقّف..
ونحن نريد في هذا البحث الموجو، أن نُعرِّف بمفهوم الثقافة والمثقّف من خلال الرّؤية القرآنية..
تُعرِّف معاجم اللغة بكلمة (ثقف): فتضع أمامنا المعاني الآتية:
جاء في معجم مفردات الراغب الأصفهاني: "الثَّقْفُ: الحِذقُ في إدراك الشّيء
وفعله، ومنه استُعِيرَ المُثاقَفَة، ويُقال ثَقِفْتُ كذا إذا أدركته ببصرك
لحِذق في النظر، ثمّ يُتجوّز به فيُستعمل في الإدراك وإن لم تكن معه
ثقافة".
وجاء في المعجم الوسيط: "ثقّف الشّيء أقام المعوج منه وسوّاه، وثقّف الإنسان أدّبه وهذّبه وعلّمه".
وإذا عرفنا أنّ مفهوم الثقافة في معاجم اللغة يعني في بعض دلالاته: الذكاء
والدّقة في إستقبال المعرفة والحذق والمهارة في العلم والمعرفة والصناعة،
وتقويم المِعْوَج وتسويته، وإزالة الزّوائد منه.. فمن هذا المنطلق يجب أن
نفهم مصطلح ثقافة ومثقّف ونستعمله، فلا نُسمِّي المتعلِّم مثقّفاً ما لم
يسلك السّلوك القويم، ويُنقِّي سلوكه وشخصيّته من الإنحرافات، والهبوط
الأخلاقي..
ومن هذه المنطلق أيضاً، فإنّ ثقافة القرآن تعني تقويم السلوك الإنساني
وتهذيبه وتنظيم البنية الذاتية للإنسان على أساس القِيَم والمبادئ
القرآنيّة، ليكون شخصيّة قرآنيّة في فكره وسلوكه وطريقة تفكيره.. وهو
الإستقامة:
(إِهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيم) (الفاتحة/ 1).
(فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (هود/ 112).
ولذلك أيضاً ينهى عن الإنحراف والشّذوذ، ويستنكر هذا السلوك المِعوَج:
(.. فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى
الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا
عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ) (الأعراف/ 44-45).
إنّ القرآن يحمل إلى البشرية مشروعاً ثقافيّاً، وحضاريّاً بنّاءً ومغيِّراً.
إنّ ثقافة القرآن الفكرية التي يخاطب بها الإنسان هي ذات طابع وهدف علمي..
فكلّ فكره وثقافته هو للعمل.. حتى الثقافة العقيدية العقلية.. هي أساس
ومنطلق للسلوك والعمل.. لهذا فهو يرفض القول دون العمل. جاء ذلك في قوله
تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا
تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا
تَفْعَلُونَ) (الصف/ 2-3).
وفي مورد آخر يربط بين الإيمان النظري والعمل التطبيقي.. ويعتبر الإنفصال بينهما خسارة وضياع للإنسان.
قال تعالى: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا
بِالصَّبْرِ) (العصر/ 1-3).
ثمّ يوجِّه الإنسان للعمل، وتطبيق الفكر والثقافة النظرية على السلوك والمواقف، ويدعو إلى تجسيدها عملاً منظوراً وملموساً في الحياة.
نقرأ من هذه البيانات:
(وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ...) (التوبة/ 105).
(وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) (النجم/ 39-40).
(قَدْ أفْلَحَ مَن زَكّاها * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاها) (الشمس/ 9-10).
وهكذا فإنّ القرآن يبني ثقافة الفكر والعمل.. وليس المثقّف إلاَ مَن نقّى
وثقّف سلوكه وفكره من الإنحراف ومساوئ الأخلاق، وحرص على الإستقامة ومكارم
الأخلاق