الإسلام وسياسة التسلّطنرى في
ضوء الفلسفة السياسيّة للإسلام أنَّ ظاهرة التسلّط، والاستعمار،
والاستغلال تنبع من باطن الإنسان، وما لم يكن فيه جنوح باطنيّ للتسلّط أو
لقبول التسلّط، فإنَّ هذه الظواهر لا تطرأ في المجتمع البشري.
ويعرض الاستكبار بوصفه الباعث المهمّ على مقاومة المنحرفين لدعوة الأنبياء.
قال جلّ من قائل: أفكلّما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم.
والسبب الرئيس لإدانة المعارضين لدعوة الحقّ والآيات الإلهيّة هو الحسّ
الاستكباري المهيمن على عقولهم. قال جلَّ شأنه: أفلم تكن آياتي تتلى
فاستكبرتم وكنتم قوماً مجرمين.
ويطلق القرآن على القوى التي تجهد لمحق دعوة الأنبياء صفة الاستكبار، فقد
عزَّ من قائل: ثمَّ أرسلنا موسى وأخاه هارون وبآياتنا وسلطان مبين إلى
فرعون وملأه فاستكبروا وكانوا قوماً عالين. ومن منظور قرآني فإنَّ
المستكبرين هم السبب في استضعاف الشرائح المظلومة دائماً بسبب روح التسلّط
التي يحملونها بين جوانحهم. قال تعالى: وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة
منهم.
وهم السبب في ضلال المستضعفين، والعقبة التي تحول دون وعيهم وتناميهم،
والعائق الذي يقف بوجه حركاتهم التحرّريّة. قال جلّ شأنه: يقول الذين
استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنّا مؤمنين.
وفي تطبيقه لسياسة التسلّط والاستغلال، يُثبّط الاستكبار عزيمة المستضعفين،
ويقلّل سرعة حركتهم التحرّريّة، حتّى عن طريق إثارة الشكّ والنفاق أيضاً.
قال تعالى: قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لم آمن منهم
أتعلمون أنّ صالحاً مرسل من ربّه.
إنَّ سياسة التصفية والتطهير المتّبعة ضدّ القوى التحرّريّة الحركيّة
الواعية التي تسعى لكشف هويّة المستكبرين وتبثّ الوعي بين المستضعفين،
وسياسة فصل الناس عن قادتهم المخلصين، هما من أكثر أساليب الاستكبار
مبدئيّة، ويمثّلان ركيزة لمؤامرات المستكبرين المعادية للشعوب. ويحذّر
القرآن من ذلك بذكر بعض الأمثلة والنماذج في هذا المجال، فقد قال عزَّ من
قائل: قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنّك يا شعيب والذين أمنوا معك
من قريتنا أو لتعودنّ في ملّتنا قال أو لو كنّا كارهين.
ويؤكدّ القرآن على نقاط أُخرى بعد الكشف عن هويّة الاستكبار:
1- يخلص الاستكبار في آخر المطاف إلى تيّار سلطويّ وقدرة طاغية، ويتطاول
على بقاع أكثر من الأرض متسلّطاً على هذه البقاع وأهلها بغير حقّ. قال
تعالى: واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحقّ وظنّوا أنّهم إلينا لا
يرجعون.
2- السياسة التسلّطيّة تدفع المستكبرين إلى امتهان الناس، وسلبهم هويّتهم
الإنسانيّة وشخصيّتهم لكي يطوّعوهم للانضواء تحت نيرهم، ويصنعوا منهم
أُناساً عديمي الإرادة، فاقدي الفكر والتشخيص. قال عظمت قدرته: فاستخفّ
قومه فأطاعوه أنّهم كانوا قوماً فاسقين.
3- لا يكشف الاستكبار عن وجهه أبداً، وتمارَس السياسات الاستكباريّة دائماً
على شكل مؤامرات شيطانيّة خفيّة بأقنعة خادعة. فاليقظة، والتعامل الواعي،
والتعرّف على المكايد المتنوّعة والمعقّدة للمستكبرين بغية التخلّص من
شراكهم، وكلّ أُولئك ضرورة لابدّ منها، والغفلة في كلّ مرحلة تمكن أن توصد
طريق الخلاص، أو تجعله أكثر تعقيداً على الأقلّ. بينما نجد أنَّ اليقظة
والوعي والتعرّف الصحيح على مكايد الاستكبار، كلّ ذلك يمكن أن يكون مفيداً
إلى درجة فيها المؤامرة المستكبرين وبالاً عليهم.
4- يعتبر التاريخ شاهد صدق على فشل الاستكبار المذلّ، ودرساً للظفر بطرق
الخلاص من السياسات العدوانيّة للمستكبرين. وأنَّ دراسة سنن الحياة
الاجتماعيّة ووجود القوانين الإلهيّة المهيمنة على التاريخ والمجتمع يمكن
أن ينيرا طريق الحياة القادمة لكلّ جيل وفي كلّ عصر.
إنَّ الرؤية التي يظفر بها المستكبرون عبر هذا الطريق تجعلهم يفكّرون بمآل
هذا الطريق وعاقبته المخزية، وهم إذ يشعرون في باطنهم بانجذاب نحو هذا
الطريق، ينبرون إلى إصلاح أنفسهم، وتتخلّص الجماهير من شراك الاستكبار
أيضاً من خلال هذا الوعي. قال تعالى: فهل ينظرون إلاّ سنّة الأوّلين فلن
تجد لسنّة الله تحويلاً* أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة
الذين من قبلهم وكانوا أشدّ منهم قوّة وما كان الله ليعجزه من شيء في
السماوات ولا في الأرض أنّه كان عليماً قديراً.
تدلّ دراسة الأُسلوب الذي ينتهجه الإسلام حيال الاستكبار على أنَّ الأمن ـ
في ضوء الرؤية الإسلاميّة ـ لا يستقرّ في ربوع الأرض ما دامت الأجواء
الظالمة هي السائدة في العالم، وما دامت الجماهير الغفيرة من سكّانه تحت
سيطرة القوى الأجنبيّة محرومة من حقوقها الأوّليّة، ومن نيل الحرّيّة،
والاستقلال والسيادة على مصيرها. والاستكبار ـ في أشكاله كلّها ـ هو المصدر
الأصلي للتوتّر والنزاع على الصعيد الدولي، إذ يهدّد الأمن باستمرار.