الحرية السياسية الغربية وحق إبداء الرأي في التصور الإسلاميأكدت
الشريعة الإسلامية على ضمان حق الرعية السياسي، في إبداء الرأي في حدود ما
أجاز الشرع. وتختلف الشريعة الإسلامية بذلك جوهرياً عن حرية الرأي السياسي
في التصور الغربي، ولذلك سنقوم بإلقاء الضوء على معنى إبداء الرأي، والحرية
السياسية في الغرب، لبيان الفروق، بين مفهوم إبداء الرأي في الشرع
الإسلامي، وحرية الرأي السياسي في الفكر الغربي، وذلك قبل عرض الأحكام
الشرعية الخاصة بممارسة الحقوق السياسية في المجتمع الإسلامي.
تعرف حرية الرأي السياسي في الفكر الغربي بأنها:
قدرة الفرد على التعبير عن آرائه وأفكاره بحرية تامة، بغض النظر عن الوسيلة
التي يسلكها، سواء كان ذلك بالاتصال المباشر بالناس، أو الكتابة، أو
بواسطة الرسائل البريدية أو البرقية، أو الإذاعة، أو المسرح، أو عن طريق
الأفلام السينمائية، أو التلفزيونية، أو الصحف.
وقد نصَّت دساتير معظم الدول الغربية على كفالة حرية الرأي للمواطنين. فقد
نص الدستور الأمريكي على كفالة حرية الرأي. وكذلك أكد الدستور الإيطالي على
أن ((للجميع حق التعبير بحرية عن آرائهم بالقول والكتابة))، وكذلك الدستور
الألماني الذي أكد حرية الرأي للجميع.
ولكن المتتبع لواقع حرية الرأي في الفكر الغربي يجدها قد قيدت بيدين: يتعلق
الأول منهما بسيطرة الاحتكارات الرأسمالية الكبرى على وسائل الإعلام،
وقدرتها على توجيه الإعلام، والتحكم في مصادر الأخبار والمعلومات. أما
الثاني فيتعلق بالقيود التي تفرضها الدولة، بحجة عدم الاعتداء على حريات
الآخرين، والمحافظة على الأمن الداخلي، والتي غالباً ما تستخدم كذريعة للحد
من قدرة الأفراد على التعبير عن آرائهم.
كما عمدت الأنظمة الغربية إلى وضع قيود أخرى على حرية الرأي، منها تجريم الرأي، فعلى الرغم مما تؤكده:
النظرية الديموقراطية من أن قيود الحريات ـ ولا سيّما ما اتصل منها بحرية
الرأي ـ لا تستوحي من الاعتبارات، إلا ما كان متصلاً بحماية أمن الجماعة
ونظامها المادي، تكذبه التشريعات الديموقراطية المعاصرة، التي صارت تعاقب
على النقد، حتى ولو لم يؤد إلى الإخلال بالأمن، أو تحريض عليه. ويبرز ذلك
بصفة خاصة بالنسبة للرأي المعارض لأسس النظام الاجتماعي.
وتنبع حرية الرأي في الغرب من مفهوم الحرية، فهي تتصل اتصالاً وثيقاً
بالحرية الشخصية، وما يتفرع عنها، من حرية تكوين النقابات، والجمعيات،
وحرية الاجتماعات.
ومن قاعدة حرية الرأي، المستمدة من الحرية الفردية، تنبع فكرة الحرية
السياسية، التي تجعل للفرد حرية تبني ما شاء من آراء ومعتقدات سياسية،
وحرية تكوين الجماعات والأحزاب، حول الأفكار التي يعتنقها الأفراد. وذلك
لأن حرية الرأي تعني لدى الغرب:
حق الإنسان في أن يعتنق الآراء التي يشاء، وذلك في أي شأن من الشؤون: في السياسة، والدين، والاجتماع، والعلم، والثقافة.
والحرية الفكرية في المنظور الغربي، تبيح للأفراد تبني ما شاؤوا من
معتقدات، شريطة عدم إضرارها بالآخرين، وقد أكد ((جون ستيوارت ميل)) هذا
المعنى بقوله:
فمهما كان اعتقاد الشخص راسخاً في كذب رأي ما، بل وفي ضرر نتائجه ـ بل وفي
فساده أخلاقياً وإلحاده ... فإنه مع ذلك يدعي العصمة، إذ أحال دون الاستماع
إلى ما يقال في الدفاع عن هذا الرأي، حتى لو كان مؤيداً من الرأي العام في
بلده أو في عصره.
ومن هذا المنطلق، تصبح الحرية السياسية وسيلة، يتمكن بها المرء من إبراز
حقوقه السياسية، والفكرية، في مواجهة النظام، والحد من سلطة الحاكم، عن
طريق السماح بإبراز رأي الأفراد مطلقاً، وتكوين الأحزاب والنقابات.
أضف إلى ذلك، أن الحرية السياسية في الفكر الغربي مستمدة من كون الشعب مصدر
السلطات، وصاحب السيادة. ولذلك لا يفرق الكتاب الغربيون، بين الحقوق
السياسية الناجمة عن الاشتراك في الجماعة، مثل حق الانتخاب، والتصويت، وبين
الحرية السياسية، لأن مصدر الحقوق ومصدر الحرية واحد وهو سيادة الشعب.
فالشعب هو الذي يحدد الحقوق والواجبات، والحريات الممنوحة للأفراد والسلطة
المخولة للحكام. ولذلك ترتبط الحرية السياسية في الفكر الغربي بعدة حقوق،
منها: حق المساهمة في السيادة الشعبية، وهي تنطلق من أن إرادة الشعب مصدر
سلطة الحكومة، والتي تجعل لكافة المواطنين الحق في الإسهام في إدارة شؤون
الدولة، وتقلد المناصب، بصرف النظر عن الدين، أو اللون، أو الجنس. كما
ترتبطن كذلك، بحق التصويت ومنها التصويت على القوانين، تعبيراً عن الإرادة
العامة، التي تقتضي أخذ رأي الشعب في تعديل القوانين القائمة، أو وضع
قوانين جديدة.
ومن هذا العرض لمصدر الحقوق السياسية في الغرب، يتبين خطأ جعل الحرية
السياسية قاعدة يبنى عليها السلوك السياسي في الدولة الإسلامية. فالسيادة
في الدولة الإسلامية بيد الشرع، والشعب ليس في يده صلاحية إقرار الحقوق
والواجبات لأنها مقررة شرعاً. كما أن استعارة مفهوم الحرية السياسية الغربي
يؤدي إلى خلط في المفاهيم، حيث حدد الإسلام أطراً شرعية لممارسة الحقوق
السابقة، كالبيعة الشرعية مثلاً في حق اختيار الحاكم. كما أوجب الإسلام
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبذلك ربط بين حق إبداء الرأي، وبين ما
يجب على المسلم القيام به، حين يستشعر قيام أمر مخالف للشرع، مما يؤكد
المسؤولية الفردية، ويدعم المواقف الفردية والجماعية المتصدية للانحراف عن
المنهج الشرعي. وبناءً على ذلك ميّز الإسلام في حقوق تولي المناصب السياسية
والأعمال السياسية، بين الأفراد بقدر التزامهم بالعقائد، وبالأحكام
الشرعية. ومن هنا لا يجيز الإسلام تولية الكافر، أو المسلم الفاسق الإمارة،
كما جعل الشورى حقاً للمسلمين دون غيرهم، لارتباط هذه الممارسة السياسية
بالعقيدة الإسلامية، وأجاز سماع رأي غير المسلمين، من رعايا الدولة، لدفع
أي مظلمة تقع عليهم.
ومن هذا المنطلق، يتضح أن إبداء الرأي ليس منطلقاً من حرية فردية، تدفع
المرء إلى تبنيه أو رفضه، لكونه مرتبطاً بالشرع الموجب للأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر. ولعل هذا يفسر جرأة الصحابة رضوان الله عليهم على قول حق
دون تحفظ، حيث استوعب الصحابة الإطار الشرعي، المنظم لإبداء الرأي في حدود
واجب الأمر بالمعروف، والمناصحة للحكام، واتخذوه منهجاً، ووسيلة، لتقويم
الحاكم والمحافظة على القيم الإسلامية، والأحكام الإسلامية، مطبقة في واقع
الحياة. ولقد أكد الصحابة رضوان الله عليهم هذا المعنى، فقد جاء عن أبي بكر
(رض) قوله في أول خطبة له بعد توليه الخلافة:
يا أيها الناس، إنما أنا مثلكم، وإني لا أدري لعلكم ستكلفوني، ما كان رسول
الله (ص) يطيق، إن الله اصطفى محمداً على العالمين، وعصمه من الآفات، وإنما
أنا متبع ولست بمبتدع، فإن استقمت فتابعوني، وإن زغت فقوّموني.
لقد كان الصحابة رضوان الله عليهم، يدركون حدود الشرع المنظم لأمر الدولة،
الذي دفع أبا بكر (رض) إلى قوله: ((إنما أنا مثلكم))، وإلى طلبه من الصحابة
أن ((يطيعوه)) إن هو التزم الشرع منهجاً، وأن ((يقوّموه)) إن زاغ عنه،
لتتحقق سيادة الشرع على الحاكم والمحكوم.
ومن الجرأة على قول الحق ما ذكره الطبري من أن عمر (رض) سأل سلمان الفارسي
(رض): ((أملك أنا أم خليفة؟))، فأجابه سلمان بكلمة حق بقوله: ((إن أنت جبيت
من أرض المسلمين درهماً أو أقل أو أكثر، ثم وضعته في غير حقه، فأنت ملك
غير خليفة)).
ومن الأمور الدالة على أن إبداء الرأي مرتبط بالإطار الشرعي، ما ذكره الطبري من أن عمر (رض) قال للصحابة يوماً:
أما والله لوددت أني وإياكم في سفينة في لجة البحر، تذهب بنا شرقاً وغرباً،
فلن يعجز الناس أن يولوا رجلاً منهم، فإن استقام اتبعوه، وإن جنف قتلوه،
فقال طلحة: وما عليك لو قلت: إن يعوج عزلوه، فقال: لا، القتل أنكى لمن
بعده.
يتضح من ذلك، أن الصحابة رضوان الله عليهم، عرفوا حق الأمة في اختيار
الإمام، وتوليته المنصب، ومراقبته، ومحاسبته، وفقاً للإطار الشرعي المنظم
لذلك، استجابة للشرع، المؤكد على ضرورة المناصحة، والأمر بالمعروف، والنهي
عن المنكر. ولذلك لا يجوز الربط بين إبداء الرأي في الإسلام، ((والحرية))
التي قد تدفع المرء إلى قول الحق، أو عدمه، وإلى تبني الخير، أو رفضه، من
منطلقات فردية مصلحية. ويؤكد هذا المعنى أن الإسلام لم يأت مطلقاً بحكم
((الحرية السياسية))، وإنما أتى بأحكام ثابتة، كالوجوب، والحرمة، والندب،
والإباحة، تتعلق بالأطر والممارسات السياسية في المجتمع الإسلامي. والأصل
في الأفعال أنها مقيدة بالشرع، قال تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك
فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً)
النساء/ 65.
ولذلك فإبداء الرأي الذي أباحه الشرع مقيد بالأطر الشرعية، التي وضعها
الإسلام، والتي لا يجوز للمسلم تجاوزها. وعليه فالحرية السياسية، التي تبيح
للمرء من منطلق الحرية الشخصية، إبداء رأيه، وفق معتقداته الذاتية، مرفوض
أصلاً، لكن الإنسان في الإسلام مقيد بالشريعة، ولا يسمح له مطلقاً
بالمناداة بآراء كفر، كالشيوعية، والإلحاد، وما شابهها، من أحكام كفر. ومن
هذا المنطلق أيضاً، لا يجيز الإسلام تكوين الجماعات، والأحزاب السياسية
التي تبنى على مفاهيم عقائدية مخالفة للشرع.
ومما سبق يتبين خطأ ما يؤكده بعضهم من منطلق الحرية السياسية الغربي، بأن
الأمة في الإسلام مصدر السلطات، وأن ((أهم الحقوق التي يجب أن تمنحها الأمة
حتى تكون مصدراً للسلطات، أن يكون لأفرادها الحق في اختيار الحاكم، والحق
في مراقبته ومحاسبته)) وكذلك يظهر عدم صحة الرأي القائل بأن النظام السياسي
الإسلامي يجعل:
معنى الحرية السياسية: أن يكون الشعب، هو صاحب الكلمة العليا في شؤون
الحكم، ويتم ذلك بالمشاركة في مسؤولية الحكم ـ سواء بطريق مباشر أو عن طريق
ممثليه ـ ويتمثل ذلك في حق الأمة في اختيار الحاكم، وفي مراقبته ومحاسبته
على أعماله، وفي مشاركته في الحكم، وفي عزله إذا حاد عن الطريق القويم، أو
إذا خالف ما فوضته الأمة فيه.
حيث بنيت الآراء السابقة على افتراض أن الأمة مصدر السيادة، وعلى فكرة
الديموقراطية الغربية، سواء المباشرة، منها أم النيابية. في حين جعل
الإسلام السيادة بيد الشرع، وقرر للأفراد حقوقاً، وألزمهم بواجبات محددة،
وجعل من ضمن الحقوق السياسية للأفراد حق اختيار الحاكم ومراقبته ومحاسبته.
كما يظهر جلياً خطأ مَن يؤكد بأن الحرية السياسية جزء من الدين حيث أكد
سعدي أبو جيب بأن الحرية السياسية في الإسلام لا حد لها إلا قيدين: عدم
الخروج على أحكام الشرع، وعدم الإضرار بمصلحة الجماعة أو الدولة، ومع ذلك
يقول:
ولكن الذي أحب أن أنوه به في هذا المقام، أن القيود التي تفرض على ممارسة
الحرية السياسية، رعاية لمصلحة الأمة والدولة، إنما هي قيود عارضة وطارئة،
لأنها لم تفرض أصلاً إلا بمقتضى قاعدة الضرورة، ودفع أشد الضررين ... وكلها
قواعد استثنائية ...
والذي نود تأكيده في هذا المقام، هو أن القاعدة التي تبنى عليها الحياة
السياسية والاجتماعية والاقتصادية في الدولة الإسلامية، مقيدة بالشرع،
وليست منطلقة من فكرة الحرية السياسية، وذلك لأن الحرية السياسية تفترض
سيادة الشعب، والتي يرفضها الإسلام، حيث يجعل السيادة بيد الشرع. هذا
بالإضافة إلى أن إبداء الرأي الذي أباحه الشرع، وأوجبه في بعض الحالات،
يختلف في شكله ومضمونه عن الحرية الفكرية، في المنظور الغربي، التي تبيح
للأفراد تبني ما شاؤوا من معتقدات، شريطة عدم إضرارها بالآخرين.
حيث إن إبداء الرأي في الإسلام هو واجب شرعي على المسلم، وحق له كذلك. كما
أن الإسلام يقرر أحكاماً شرعية، تنظم الممارسات السياسية، أهمها: جعل الأمر
بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الخير، فرض على المسلمين أفراداً
وجماعات، وأوجب على الدولة تمكينهم من مزاولتها، ومنع التقصير فيها، وأن
تضمن لهم حق إبداء الرأي في حدود ما أجاز الشرع. ومن هذا المنطلق تمتاز
الدولة الإسلامية بكونها الدولة الوحيدة، التي ينص دستورها الشرعي على
الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر،كأمر وجوبي، فضلاً عن كونه حقاً سياسياً
للمسلمين.