الصراع بين الإسلام وحداثة الغربالإسلام:
عقيدة وشريعة.. والعقيدة: تصديق إيماني قلبي، يظل سرّاً بين الإنسان وبين
الله، سبحانه وتعالى.. أمّا الشريعة، فإنّها معالم الطريق الذي يسلكه
الإنسان المؤمن في هذه الحياة، ليترجم عن الإعتقاد المستكن في القلب
والضمير.. ومن هذه المعالم: العبادات التي تنمِّي وترعى وتزكِّي طاعة
المخلوق للخالق، وحب العبد لمولاه.. ومنها: المعاملات التي تحكم علاقة
الإنسان بالإنسان، ونظم الإجتماع البشري، في مختلف ميادين هذا الإجتماع..
ومنها: منظومة القيم والأخلاق، التي تجعل الإنسان المؤمن يجسد في سلوكه
مُثُل الإسلام، بالطبع والسجية، ودونما جبر قانون أو مخافة سلطان..
فالشريعة، بهذا المعنى، وبهذه الأبعاد، هي ترجمان العقيدة الإسلامية،
ومعالم منهاج الحياة الإسلامية، الكافلة لسعادة الإنسان في الدنيا، ومن ثمّ
في الدار الآخرة، التي هي خير وأبقى..
وقبل الغزوة الإستعمارية الغربية الحديثة، لوطن العروبة وعالم الإسلام، لم
يكن أحد من علماء الإسلام يشغل نفسه بالدفاع عن الشريعة الإسلامية، ولا
يكتب ليبرهن على أنّها صالحة لكل زمان ومكان – فتلك كانت بدهية من بدهيات
العقل المسلم والحياة الإسلامية، ترسخت في الواقع، وامتحنتها تطبيقات
التاريخ عبر القرون.. وكانت إهتمامات العقل المسلم منصرفة إلى تقريب الناس
من تطبيق هذه الشريعة، وإستنباط الأحكام الجديدة التي تحكم مستجدات الواقع
المتطور في مجتمعات الإسلام..
ولن تجد، في الحياة الفكرية الإسلامية، دفاعاً عن الشريعة، وبرهنة على
صلاحيتها لكل زمان ومكان – في العصور السابقة على الغزوة الإستعمارية
الحديثة – اللّهمّ إلا إذا كان المقام مقام جدال بالتي هي أحسن مع غير
المسلمين..
أمّا بعد الغزوة الإستعمارية الغربية الحديثة، لوطن العروبة وعالم الإسلام، فلقد تغيّر هذا الحال..
فثقافة الحداثة الغربية، التي تتمحور حول الإنسان، بدلاً من التمحور حول
الله.. والتي جعلت الإنسان "طبيعياً" – أي جزءاً من الطبيعة – بدلاً من أن
يكون إنساناً ربانيّاً.. هذه الثقافة الحداثية قد أقامت قطيعة معرفية مع
الموروث الديني، ومنه الشريعة الإلهية، وذهبت – بالعلمانية – إلى عزل
السماء عن الأرض، وتحرير الإنسان والإجتماع البشري من ضوابط وأحكام ومعايير
وفلسفات الشرائع الإلهية.. وأعلنت ثورة إنزال الدين عن عرشه، وإحلال هيمنة
العقل محل شرائع السماء.. وقالت: "لقد أصبح الإنسان وحده مقياساً
للإنسان.. ومنذ الآن فصاعداً راح الأمل بمملكة الله ينزاح لكي يخلى المكان
لتقدم عصر العقل وهيمنته، وراح نظام النعمة الإلهية ينمحي ويتلاشى أمام
نظام الطبيعة"!!
وفي ركاب الغزوة الإستعمارية الحديثة جاءتنا هذه الثقافة الحداثية، تريد
عزل شريعة الإسلام عن عرشها التاريخي، وإحلال القانون الوضعي اللاديني محل
شريعتنا وفقه المعاملات الإسلامي، لا بدافع الكراهية للإسلام فحسب، وإنّما
إلحاقاً للعقل القانوني في بلادنا بنظيره العلماني الغربي، تأييداً
وتأبيداً لإلحاق أُمتنا وعالمنا بالمركزية الغربية في كل ميادين التبعية
والإلحاق..
فبدأت في مصر علمنة القانون – جزئياً – مع تزايد النفوذ الأوربي في النصف
الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي.. عبر المحاكم القنصلية.. والمحاكم
المختلطة سنة 1875م. ثمّ عمَّت بلوى هذه العلمنة القانونية، في ظل حراب
الإستعمار الإنجليزي – سنة 1883م..
ونفس الشيء حدث ببلاد المغرب العربي، عندما سعى الإستعمار الفرنسي إلى
"الفصل بين الإسلام والإستعراب.. ودمج العادات والأعراف في القانون
الفرنسي، بدلاً من إندماجها في القانون الإسلامي.. ليتم التمدن خارج دائرة
الإسلام.. وفي إتجاه فرنسي خالص"!
ورغم أنّ علماء الأُمّة قد تصدوا لهذه الحداثة العلمانية اللادينية – فهاجم
رفاعة الطهطاوي [1290-1216هـ - 1801-1873م] إحلال العقل محل الشرع –
لأنهما متزاملان في المنهاج الإسلامي – وقال: "إنّ تحسين النواميس الطبيعية
لا يعتد به إلا إذا قرره الشارع.. وليس لنا أن نعتمد على ما يُحَسِّنُه
العقل أو يُقبِّحُه إلا إذا ورد الشرع بتحسينه أو تقبيحه.. فكل رياضة لم
تكن بسياسة الشرع لا تثمر العاقبة الحسنى. ولا عبرة بالنفوس القاصرة، الذين
حكّموا عقولهم بما اكتسبوه من الخواطر التي ركنوا إليها تحسيناً وتقبيحاً،
وظنوا أنّهم فازوا بالمقصود، بتعدي الحدود. فينبغي تعليم النفوس السياسية
بطرق الشرع، لا بطرق العقول المجردة..".
إلا أن ثقافة الحداثة اللادينية مضت تكسب لها مواقع في عقول نفر من مثقفينا..
وعندما بدأ القانون الوضعي العلماني يتسلل – في استحياء – إلى بعض مجالس
التحكيم التجاري في بعض الموانئ الإسلامية، نبّه الطهطاوي على هذا الخطر،
ولفت الأنظار إلى وفاء الشريعة الإسلامية بكل شؤون المعاملات.. وقال: "لقد
أخذت تُرتب الآن، في المدن الإسلامية، مجالس تجارية مختلطة لفصل الدعاوى
والمرافعات بين الأهالي والأجانب، بقوانين في الغالب أوربية، مع أنّ
المعاملات الفقهية لو انتظمت، وجرى العمل بها، لما أخلّت بالحقوق.. ومن
أمعن النظر في كتب الفقه الإسلامية، ظهر له أنّها لا تخلو من تنظيم الوسائل
النافعة من المنافع العمومية.. إنّ بحر الشريعة الغرّاء، على تفرع مشارعه،
لم يغادر من أُمّهات المسائل صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وأحياها بالسقي
والري، ولم تخرج الأحكام السياسية عن المذاهب الشرعية، لأنّها الأصل، وجميع
مذاهب السياسات عنها بمنزلة الفرع..".
ومع ذلك، مضى الإستعمار يفرض علمنة القانون، ويعزل الشريعة الإسلامية عن
عرشها، بقوة سلاح الإستعمار.. وبعبارة "القانوني" الفرنسي "جورج سوردون":
"فإنّ الأسلحة الفرنسية هي التي فتحت البلاد العربية، وهذا يخولنا إختيار
التشريع الذي يجب تطبيقه في هذه البلاد.."!
وعلى درب المقاومة – الذي ارتاده الطهطاوي – سار علماء الإسلام.. ومؤسسات العلم الإسلامي.. وجماهير الأُمّة.
فكتب جمال الدين الأفغاني [1254-1314هـ 1838-1897م]: "إنّ علاج الخلل إنما
يكون برجوع الأُمّة إلى قواعد دينها.. فهذا هو السبيل لبلوغ منتهى الكمال
الإنساني.. ومن طلب إصلاح الأُمّة بوسيلة سوى هذه، فقد ركب بها شططا، وجعل
النهاية بداية، وانعكست التربية، ونظام الوجود، فينعكس عليه القصد، ولا
يزيد الأُمّة إلا نحساً، ولا يكسبها إلا تعساً..".
وعلى ذات الدرب، سار محمد عبده [1265-1323هـ 1849-1905م]، فأعلن: "أن سبيل
الدين، لمريد الإصلاح في المسلمين، سبيل لا مندوحة عنها، فإن إتيانهم من
طرق الأدب والحكمة العارية عن صبغة الدين، يحوجه إلى إنشاء بناء جديد، ليس
عنده من مواده شيء، ولا يسهل عليه أن يجد من عمّاله أحداً. وإذا كان الدين
كافلاً بتهذيب الأخلاق، وصلاح الأعمال، وحمل النفوس على طلب السعادة من
أبوابها، ولأهله من الثقة فيه ما ليس لهم في غيره، وهو حاضر لديهم، والعناء
في إرجاعهم إليه أخفّ من إحداث ما لا إلمام لهم به، فلم العدول عنه إلى
غيره؟!..".
لكن حراب الإحتلال الإستعماري، استطاعت – بالترغيب والترهيب – وبالغواية
التي بهرت نفراً من مثقفينا.. وبالعمالة الحضارية – التي وظّفت قوماً آخرين
– استطاعت أن تبلور – في الحاكمين والمحكومين – تياراً يرى في الشريعة
الإسلامية "منظومة قانونية تاريخية"، كانت صالحة للإعمال في الزمن الغابر،
لكنها لا تستطيع أن تلبي إحتياجات هذا العصر الحديث.. بل وأن يرى في
الإسلام صورة للنصرانية، تقف عند العقيدة والروحانية ومملكة السماء، ولا
شأن لها بالسياسة والإجتماع والإقتصاد والنظم والحكومات..
حدث هذا – بدرجات متفاوتة – في دوائر الفكر.. والحكم – بوطن العروبة وعالم
الإسلام.. الأمر الذي جعل – ويجعل – من الحديث عن صلاحية الشريعة الإسلامية
لكل زمان ومكان، فريضة من فرائض العقل المسلم، وقياماً بواجب من واجبات
الإسلام، الذي لا تغنى عقيدته عن شريعته، لأنّ الشريعة فيه هي ترجمان
الإعتقاد، والمنهاج الذي يسلكه المسلم إلى تحقيق هذا الإعتقاد..
هكذا خاضت الشريعة الإسلامية – ولا تزال تخوض – صراعاً حضارياً وفكريّاً مع
الحداثة الغربية، المتمثلة في القانون الوضعي الغربي، وفي منظومة القيم
الوضعية الغربية.. واللذين لا يلتزمان – كما تلتزم الشريعة الإسلامية –
بحاكمية الوحي الإلهي في تدبير دنيا الإنسان..
وإذا كنا، رغم ظهور الآثار المدمرة لعلمنة الحياة والمجتمعات، ورغم ظهور
الآثار القاتلة في بنية النموذج العلماني للحضارة الغربية، إذا كنا لا نزال
نواجه الدعوات الشرسة والمحمومة لعزل الشريعة الإسلامية عن عرش العدل
والحقوق والقضاء والمعاملات.. بل ونشهد "غلوَّا علمانياً" يجحد وجود حاكمية
لهذه الشريعة عبر تاريخ الإسلام.. حتى ليصل هذا الغلو بواحد من رموزه، إلى
الإدعاء بأنّ الحكم بما أنزل الله كان خصوصية لرسول الله (ص)، وأنّ
الأُمّة قد احتلت عرش التشريع بدلاً من الله منذ وفاة الرسول!.. فبوفاة
الرسول – بنظر هذا الغلو اللاديني – انتهت الشرعية الإلهية، وحلَّت محلها
الشرعية البشرية.. فيقول:
"إنّ قبول المؤمنين للتشريع – على عهد الرسول (ص) – انبنى أساساً على
الإيمان بالله – سلطة التشريع – وبعد وفاة النبي (ص)، انتهى التنزيل.. مع
إنعدام الوحي.. والوقف الحديث الصحيح، فسكتت بذلك السلطة التشريعية التي
آمن بها المؤمنون.