الكرخ فريق العمـــــل *****
عدد الرسائل : 964
الموقع : الكرخ تاريخ التسجيل : 16/06/2009 وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 4
| | الإضراب العام | |
|
|
تقف الثورة المصرية اليوم في منتصف الطريق، ولا شك أنها بحاجة إلى تصعيد هام يضعها في موضع أقوى في مواجهة الطبقة الحاكمة. ومن هنا، فإن مسألة الإضراب العام تحتل أهمية خاصة وتزداد إلحاحاً يوماً بعد يوم، بالأخص مع التصاعد الرهيب الذي تشهده الحركة العمالية في الوقت الراهن.
لكن ما هو الإضراب العام؟ وما دور النقابات العمالية فيه؟ وما الذي يهدف إليه الاشتراكيون من خلاله؟ وما الفرق بين الرؤية الإصلاحية والرؤية الثورية للإضراب العام؟ سنقدم في هذا الكراس الصغير إجاباتنا على هذه الأسئلة وغيرها، وذلك في سياق الأحداث المتلاحقة للثورة المصرية المستمرة إلى اليوم، وأيضاً في ضوء بعض الخبرات المستخلصة من التجارب التاريخية الهامة للإضرابات الجماهيرية.
الحاجة إلى التصعيد
في كل ثورات التاريخ، ينتفض الملايين من الكادحين والفقراء من أجل الحرية والعدالة، لكن الطبقة الحاكمة التي كانت تمارس القمع والاستغلال، لا تختفي في غمضة عين، بل أنها تسعى بكل ما أوتيت من قوة للحفاظ على سيطرتها واستعادة ما استطاعت الجماهير أن تنتزعه. لذا فهي تحارب ليس فقط من أجل وقف الثورة بأي ثمن، لكن أيضاً من أجل الانقلاب عليها من خلال شن ثورتها المضادة.
وفي المقابل، لا تقف الجماهير التي صنعت ثورتها مكتوفة الأيدي، بل تناضل هي الأخرى من أجل استكمال ثورتها وانتزاع المزيد من المكتسبات والحقوق. وهكذا فإن الثورة ليست نزهة ولا معركة قصيرة الأمد في مواجهة الطبقة الحاكمة، بل حرب طويلة بين الجماهير الفقيرة من ناحية، وقوى الثورة المضادة من ناحية أخرى.
وبقدر ما تستطيع الجماهير تنظيم صفوفها (العمال في المصانع، والطلاب في الجامعات، والفلاحين في القرى، والفقراء والعاطلين والمهمشين في أحيائهم)، بقدر ما تستطيع إحراز النصر وإلحاق الهزيمة بالطبقة الحاكمة ومخططاتها المضادة، والتقدم بالثورة إلى الأمام من خلال التصعيد الثوري والانتقال من مرحلة إلى أخرى في طريق الانتصار.
وفي مصر اليوم، لا شك أن الاعتصامات في الميادين الكبرى تعتبر خطوة إلى الأمام في مسار الثورة ضد قوى الثورة المضادة (التي يقودها المجلس العسكري وحكومته وكافة المتحالفين معهما). لكن الإضراب العام، هو بالتأكيد، يمثل خطوة أكبر في نفس المسار؛ حيث تسعى الطبقة العاملة إلى شل عملية الإنتاج وإيقاف أرباح رجال الأعمال الذين يشكلون العمود الرئيسي للطبقة الحاكمة، مما يجبر الأخيرة على تقديم التنازلات أو الرضوخ والاستجابة لبعض المطالب الهامة في الثورة.
قوة الطبقة العاملة
وبالتأكيد فإن الطبقة العاملة التي نتحدث عنها لا تمثل عمال الصناعة فقط، بل كل العاملين بأجر والخاضعين لاستغلال وسيطرة رأس المال، بما يشمل ملايين من العاملين بالخدمات والمرافق العامة وملايين آخرين من المهنيين، من أطباء وصيادلة ومحاسبين ومهندسين، إلخ.
هذه الملايين، والتي تشكل معاً ما نعنيه بالطبقة العاملة بمفهومها الواسع، هم منتجي الثروة الحقيقيين ومن دون عملهم وجهدهم لا يستطيع الرأسماليون مراكمة أرباحهم وجني كل تلك الثروات التي تتكدس في خزائنهم. وبالتالي فإن هؤلاء يمكنهم، باستخدام سلاح الإضراب الجماهيري العام، شل المجتمع الرأسمالي الذي يقوم على استغلال العمل المأجور، وإعادة تشكيل هذا المجتمع وتسييره بحسب مصالح الأغلبية العظمى منه، وليس لصالح الأقلية المترفة فيه.
والإضراب العام ليس أمراً جديداً على الطبقة العاملة في مصر؛ فلقد استطاعت الطبقة العاملة إضفاء زخم هائل على ثورة 1919 ودفعها خطوات كبيرة للأمام في مواجهة الإقطاع والاحتلال البريطاني. وبجانب مظاهرات الطلاب وسكان الأحياء الفقيرة، كانت هناك إضرابات واسعة الانتشار في الترام والسكك الحديدية والبريد والكهرباء والجمارك، إلخ. واستطاعت الطبقة العاملة تكرار نفس التجربة بالإضرابات الضخمة التي خاضتها أثناء الانتفاضة الجماهيرية في 1946 ضد الاحتلال.
وفي الأسبوع الثالث من الثورة، وقبل سقوط مبارك بثلاثة أيام، أظهرت الطبقة العاملة قوتها الحقيقية عندما خاضت قطاعات واسعة منها سلسلة من الإضرابات الجماهيرية التي حسمت الصراع مع مبارك وسددت الضربة القاضية له وأجبرته على الرحيل، وافتتحت بذلك طريق الثورة المصرية التي تحمل أبعاداً سياسية واقتصادية واجتماعية أكثر عمقاً بكثير من مجرد إسقاط رمز النظام.
ولم تتوقف إضرابات العمال منذ إسقاط مبارك، لتحقيق العدالة الاجتماعية وتطهير المؤسسات من رموز النظام السابق رغم كل الضربات الإعلامية والعسكرية التي تتلقاها من المجلس العسكري. ففي شهر فبراير نظم العمال 489 احتجاج، ما بين إضرابات واعتصامات ووقفات احتجاجية ومظاهرات، و122 في مارس، و90 احتجاج في أبريل، لتتصاعد الاحتجاجات العمالية لتبلغ 97 احتجاج عمالي في يونيو، ومن ثم 75 في يوليو و65 في أغسطس، وصولاً إلى الإضرابات الواسعة للمعلمين (حوالي 750 ألف معلم على مستوى الجمهورية) والنقل العام (40 ألف عامل) بالإضافة إلى الأطباء وعشرات الآلاف غيرهم من مختلف القطاعات الخدمية والصناعية.
وفي المقابل، تعمل الطبقة الحاكمة على نظم صفوفها بدقة من أجل تكبيل قوى الثورة وكبح جماح الجماهير، متسلحة في ذلك بترسانة من القوانين القمعية مثل قانون تجريم الإضرابات والاعتصامات وقانون الطوارئ، ومحاكمات عسكرية للمدنيين، وإعلام فاسد يبث دعايته المضادة للثورة بشكل صريح. لذا فإن هذا النشاط العفوي والطاقة الجبارة لدى الطبقة العاملة، وبالذات القطاعات المتقدمة منها، بحاجة إلى درجة عالية من التنظيم والوحدة، ليس فقط من أجل الدفاع عن مطالب الثورة، لكن أيضاً من أجل الاستعداد للهجوم الثوري مرة أخرى كما فعلتها مع مبارك واستطاعت إسقاطه. والإضراب العام يمثل خطوة كبيرة في هذا المسار.
تشابك الاقتصاد والسياسة
هناك أطروحتان أساسيتان تروّج لهما الطبقة الحاكمة بحماسة شديدة، ليس في مصر فحسب بل في كافة أرجاء العالم. وتستخدم الطبقة الحاكمة هاتان الأطروحتان من أجل الحول دون تقدم الحركات والثورات الجماهيرية ومن أجل ضمان السيطرة على مجريات الأمور في المجتمع.
يتلخص مضمون الأطروحة الأولى في أن هناك فاصلاً كبيراً بين الاقتصاد والسياسة. وبالتالي تقوم تلك الفكرة على أن جماهير العمال والفقراء الذين يناضلون من أجل حقوقهم الاقتصادية ومن أجل العدالة الاجتماعية، لا دخل لهم بالشأن السياسي ولا يستطيعون صياغة القرارات السياسية، وبالتالي لا يحق لهم المشاركة الديمقراطية في المجتمع سوى بأن يختاروا نواب عنهم يمثلونهم في البرلمان ويكونون هم المسئولين عن صياغة التوجهات السياسية والاجتماعية التي تشكل حياة الملايين من الناس.
هذه الفكرة تحاول الطبقة الحاكمة والقوى الإصلاحية على حد سواء، ترسيخها بشتى الطرق من أجل حصر حركة الطبقة العاملة في إطار المطالب الاقتصادية، وكضمانة تحول دون استخدام الطبقة العاملة لقوتها الاجتماعية الجبارة في فرض مطالب سياسية أو في تحدي السلطة السياسية للطبقة الرأسمالية بشكل عام.
بينما في الحقيقة، تعد هذه الفكرة خاطئة تماماً ولا تمثل إلا وهم كبير؛ فالمعارك الحقيقية التي تؤثر في مصير المجتمع لا تُحدد ولا تُحسم في قاعات البرلمان المغلقة، بل في المصانع وأماكن العمل والجامعات والقرى؛ أي في الحقل العملي للصراع الطبقي. والديمقراطية الحقيقية لا يمكن أن يقتصر دور المرء فيها على إلقاء ورقة في صندوق انتخابي مرة كل خمس سنوات، في حين لا يمتلك القدرة على التأثير على القرارات الاقتصادية والسياسية اليومية التي تمس حياته بشكل مباشر.
أما الأطروحة الثانية، فمفادها أن الدولة هي كيان محايد طبقياً، أي أن دورها هو تسيير أمور المجتمع دون الانحياز إلى أي طبقة في مواجهة أخرى. والغرض من ترسيخ هذه الفكرة والترويج لها هو أيضاً خلق حالة من الفصل بين النضال الاقتصادي والنضال السياسي للطبقة العاملة. بينما في الواقع نجد أن الدولة (بأجهزتها المتنوعة من شرطة ومؤسسة عسكرية وإعلام، إلخ) هي الكيان الذي يحافظ على هيمنة الطبقة المسيطرة اقتصادياً وسياسياً؛ أي الطبقة الرأسمالية. وبالتالي فإن النضال الاقتصادي الشامل للطبقة العاملة ضد الرأسمالية لا يمكن فصله عن النضال السياسي ضد الدولة التي ترعى مصالح الرأسمالية ذاتها.
وبالرغم من الخطورة البالغة لكل من هاتين الأطروحتين، إلا أن الإضراب العام للطبقة العاملة يساهم بأكبر قدر في تحطيمهما وتجاوز الطبقة العاملة لهما؛ بحيث أن الإضراب العام، لما تشهده الطبقة العاملة خلاله من وحدة وترابط، يتيح فرصة غير مسبوقة للطبقة العاملة ويؤهلها للدمج بين النضال الاقتصادي والنضال السياسي ضد الرأسمالية ودولتها.
فعندما يخوض العمال في أحد المصانع إضراباً عن العمل للمطالبة ببعض الحقوق الاقتصادية، يجدون أنفسهم في مواجهة صاحب العمل أو إدارة المصنع، كما يقف أعضاء النقابة أو اللجنة النقابية "الصفراء" بجانب الإدارة أو صاحب العمل ضد العمال. حينها تتضح الصورة عملياً وبشكل أشمل أمام العمال أنفسهم الذين يدركون أهمية النضال ضد الإدارة وضد النقابة الصفراء التي تتخلى عنهم على حد سواء.
أما في حالة إضراب عام يشارك فيه جمهور واسع من العمال في قطاعات صناعية وخدمية مختلفة، فإن العمال هنا لا يجدون أنفسهم في مواجهة أصحاب العمل الرأسماليين فقط، بل أيضاً في مواجهة شاملة مع الدولة التي تقف بجانب هؤلاء الرأسماليين وترعى مصالحهم؛ وهنا ترتسم الصورة كاملة أمام العمال ليس في إطار كل مصنع أو شركة أو مؤسسة أو هيئة على حدا، لكن صورة أوسع وأشمل للمجتمع ككل وطريقة إدارته ودور الدولة في الإبقاء والحفاظ على مصالح الطبقة المهيمنة اقتصادياً وسياسياً –طبقة الرأسماليين.
وهكذا فإن الإضراب العام يحطم الفاصل بين الاقتصاد والسياسة بحيث يدفع الطبقة العاملة لرفع مطالب سياسية مباشرة جنباً إلى جنب مع مطالبها الاقتصادية. وهذا ما شهدناه في الإضراب الجماهيري إبان تنحي مبارك، فلقد رفعت قطاعات عمالية عريضة مطلب إسقاط الديكتاتور جنباً إلى جنب مع العديد من المطالب الاقتصادية الأخرى.
أما التصاعد الرهيب في الحركة العمالية اليوم فهو يؤهل الطبقة العاملة بقوة للدمج بين المطالب الاقتصادية والسياسية. وإذا توحدت الطبقة العاملة على إضراب عام تطالب فيه بتطبيق حد أدنى للأجور لكل العاملين بأجر في مصر، فإن ذلك سيضعها في مواجهة مباشرة مع دولة العسكر الذين سيحاولون كسر إضراب العمال بالقوة، وبالتالي ستجد الطبقة العاملة نفسها مدفوعة لرفع مطالب سياسية تتحدى بها الرأسماليين والعسكر معاً.
هذا ما رأينا قدر قليل منه خلال الشهور السابقة؛ فلقد استطاعت الطبقة العاملة تحدي كافة القوانين التي سنها المجلس العسكري وحكومته للوقوف إلى جانب الرأسماليين ضد الحركة العمالي. فعندما طبقوا قانون تجريم الاحتجاجات، زادت الاحتجاجات وانتعشت الحركة بشكل غير مسبوق. وعندما ادعوا رفض التفاوض مع العمال قبل فض الاعتصامات، أجبرهم العمال على التفاوض والرضوح للمطالب. وعندما هددوا بتطبيق الطوارئ لقمع الحركة العمالية، أصبحوا غارقين في طوفان الغضب العمالي والاجتماعي.
وإذا كانت الطبقة العاملة قد استطاعت إسقاط مبارك في سلسلة إضراباتها الضخمة التي استمرت من 8 إلى 11 فبراير، وإذا كانت استطاعت أيضاً إسقاط قوانين المجلس العسكري القمعية والمعادية للثورة، فإنها ستبقى قادرة، من خلال الإضراب العام وشيك الحدوث في مصر، على تحدي السلطة العسكرية وسياسات رجال الأعمال.
هذا هو المسار الذي يرى خلاله الاشتراكيون الثوريون دور الإضراب العام في تعزيز قدرة الطبقة العاملة على فتح كافة جبهات المواجهة الاقتصادية والسياسية الشاملة ضد الرأسمالية وحكومتها ودولتها بشكل كامل.
دور النقابات المستقلة
وفي حين يجادل الاشتراكيون الثوريون على الدوام حول أهمية ومركزية الإضراب الجماهيري في قلب الحراك الثوري في مصر، فهم يهدفون أيضاً إلى وحدة حركة ونضال الطبقة العاملة وتنظيماتها القاعدية المناضلة كضمانة أساسية لنجاح الإضراب العام وتصعيد الموجة الثورية إلى الأمام. ولا شك أن النقابات العمالية المستقلة يمكنها أن تلعب أكثر الأدوار حيوية في نضالات العمال وصولاً إلى الإضراب العام.
فالنقابات تعد من أهم الأشكال التنظيمية التي توصل إليها العمال عبر نضالهم وتطور وعيهم، وكانت دائماً حصناً يحتمي به العمال من سطوة رأس المال. فعلى مستوى النضال المصنعي، أو النضال داخل المنشآت، تلعب النقابات –المستقلة عن سلطة وهيمنة الدولة- أدواراً حاسمة في صراع العمال مع أصحاب العمل حول المطالب الاقتصادية. ولا شك أن موقف العمال التفاوضي وقوة إضرابهم بشكل عام يختلف كثيراً في حالة امتلاك العمال لنقابة، وما إذا كانت هذه النقابة تعبر عن مصالحهم أم نقابة صفراء تقف إلى جانب أصحاب العمل ضد العمال.
وعلى المستوى السياسي أيضاً، لا يمكن أيضاً إنكار الدور الهام للنقابات العمالية في حال تدخلها في الصراع السياسي عندما تعبئ هذه النقابات العمال في إضراب عام للضغط على السلطة السياسية وإجباها على تقديم التنازلات.
ويشهد التاريخ أنه من دون النقابات العمالية المناضلة لما كان من الممكن تنظيم الإضرابات العامة التي زلزلت العالم وأسقطت العديد من النظم الديكتاتورية التي استمرت راسخة لعقود من الزمن. ففي بولندا لعبت نقابة "تضامن" العمالية دور رأس الحربة في المعركة ضد النظام القمعي الموالي للاتحاد السوفيتي إلى أن أسقطته في الإضراب العام 1989. وفي جنوب أفريقيا، مثلت النقابات العمالية بؤرة حيوية وحاسمة في الإطاحة بنظام الفصل العنصري. والحال نفسه في الثورة التونسية، عندما كان اتحاد الشغل التونسي حاسماً في الصراع مع بن علي، وذلك بالرغم من سيطرة القيادات الإصلاحية على الاتحاد.
وبينما تستمر الموجة الثورية في مصر والمنطقة العربية، تهتز ربوع القارة الأوروبية، من اليونان إلى اسبانيا والبرتغال وفرنسا، بالإضرابات العامة التي تحشد لها نقابات العمال من أجل مطالبهم الاقتصادية ولإيقاف خطط التقشف التي تطبقها الحكومات الرأسمالية هناك.
إلا أن النقابات المستقلة والتي تعبر بحق عن العمال وتدافع عن حقوقهم، لا تولد إلا من قلب النضال، مثلها في ذلك مثل كافة الأشكال التنظيمية الأخرى للعمال، من لجان وروابط وغيرها، والتي يبنيها العمال حينما يجدون أنفسهم بحاجة لتنظيم صفوفهم أثناء النضال.
هكذا مثلت النقابات المستقلة واحدة من السمات المميزة لحركة الطبقة العاملة المصرية على مدار تاريخها. فمنذ مطلع القرن الماضي، كان كل احتجاج عمالي يصاحبه تأسيس رابطة أو نقابة عمالية، حتى وصلت وتيرة الاحتجاجات العمالية إلى أوجها مع اندلاع ثورة 1919 إلى أن بلغ عدد النقابات العمالية 90 نقابة عام 1921، وظهر وقتها أول اتحاد عمالي في مصر، والذي حلته حكومة الوفد في 1924.
وتكرر الأمر على نحو أكثر اتساعاً حينما خاضت الطبقة العاملة موجة عاتية من النضالات تحت ضغط واقع اقتصادي يُرثى له متأثراً بجراح الحرب العالمية الثانية، وكان من الطبيعي أن تتزامن هذه الموجة مع تزايد عدد النقابات العمالية الذي تجاوز الـ 500 نقابة عام 1949.
وحينما اعتلت حركة الضباط الأحرار سدة الحكم، أمر جمال عبد الناصر بإنشاء الاتحاد العام لنقابات عمال مصر، ليكون بمثابة ثكنة عسكرية تتخفى وراء رداء عمالي. ومنذ تأسيسه في يناير 1957، وقف الاتحاد العام موقفاً معادياً لمطالب العمال وتحركاتهم فأدان الإضرابات والاعتصامات وأصبح وثيق الصلة بجهاز أمن الدولة، وكان الهدف من كافة تدخلاته هو مساعدة الحكومة ورجال الأعمال على تهدئة الأوضاع. وبالطبع أدى ذلك الوضع إلى عرقلة الحركة النقابية المناضلة لعقود.
واليوم، وفي حين حظت الطبقة العاملة بأربعة نقابات مستقلة فقط قبل الثورة، فإن ساحة النضال العمالي تشهد اليوم عاصفة من النقابات المستقلة الحديثة التي تنشأ من قلب النضال لتصل إلى أكثر من 100 نقابة مستقلة حتى الآن. هذه النقابات المستقلة وغيرها مما يتشكل في مجرى النضال العمالي، بالتأكيد ستضع الإضراب العام موضع التنفيذ في المستقبل القريب.
نحو سلطة اجتماعية بديلة
وبالرغم من الأهمية الكبيرة للنقابات العمالية في النضالات الاقتصادية وفي الإعداد للإضراب العام، إلا أنها وحدها لا تكفي للقضاء على الرأسمالية. فالنقابات في آخر المطاف تسعى لتحسين الشروط والظروف "الاقتصادية" التي يعمل العمال وفقها في ظل الرأسمالية. أما الهدف من الإضراب العام –من وجهة نظر الثوريين- فهو التشابك بين المطالب الاقتصادية والسياسية وبدء الهجوم على الرأسمالية والسلطة السياسية التي تمثلها من أجل القضاء عليهما وليس من أجل التوصل لحلول وسط للتعايش معهما.
لكن ذلك لا يعني على الإطلاق أن يتجاهل الثوريون العمل في النقابات العمالية؛ فكما رأينا من قبل فإن النقابات من أهم الأشكال التنظيمية التي تستطيع تعبئة العمال على حقوقهم الاقتصادية، وعلى الثوريين أن يسعوا بكل دأب لدعم العمال في إنشاء نقاباتهم المستقلة، وللاندماج في هذه النقابات من أجل توسيع المشاركة العمالية فيها، وأن يضغطوا باستمرار من أجل تبني مواقف أكثر جذرية في مواجهة أصحاب العمل.
لكننا في نفس الوقت لا نعتبر النقابات بديلاً عن الممارسة الجماعية والنضال المشترك لجماهير العمال. وواجبنا هو دفع الممارسة الذاتية المستقلة للقواعد العمالية في كل الأوقات.
كما لا يمكن أيضاً استبدال الحزب الاشتراكي الثوري بالنقابات مهما كانت مناضلة؛ فهذا الحزب هو الأداة السياسية للعمال، نقابيين وغير نقابيين، للصراع مع الطبقة الرأسمالية ودولتها على كافة الجبهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وليس على المستوى الاقتصادي فقط. ولا يمكن إحراز الانتصار النهائي للطبقة العاملة على سلطة رأس المال من دون هذ الحزب الثوري.
وهنا يبرز الفارق الكبير بين الرؤية الاشتراكية الثورية ووجهة النظر الإصلاحية التي تتبناها الكثير من القوى السياسية اليوم في مصر تجاه الإضراب العمالي العام. فالإصلاحيون يرون في الإضراب العام وسيلة جيدة فقط للضغط من أجل بعض المطالب مثل الحد الأدنى للأجور أو التوقف عن محاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية، أو التعجيل بالانتخابات وتسليم السلطة للمدنيين، إلخ.
وبالرغم من أهمية الضغط من أجل مثل تلك المطالب، إلا أن الاشتراكيين الثوريين يرمون بالتأكيد إلى ما هو أبعد من ذلك. فالإضراب العام قد يمثل مقدمة ناجحة ليس فقط لإسقاط السلطة العسكرية القائمة، لكن أيضاً سلطة الطبقة الرأسمالية بشكل عام -هذه السلطة التي تحتمي وتختبئ خلف حكم العسكر- والشروع في بناء سلطة اجتماعية بديلة تنحاز للعمال والفقراء لا للرأسماليين والأغنياء.
وهنا يكمن مربط الفرس، فخلال الإضراب العام يتواجد العمال في أماكن عملهم يتناقشون فيما يمكن فعله وحول خطوات التصعيد، ينظمون صفوفهم، ويصوّتون على كل القرارات، ينتخبون ممثليهم القاعديين، ويخلقون بأنفسهم أشكالهم التنظيمية القاعدية التي تعبر عن مصالحهم، ويديرونها بديمقراطية وشفافية.
هذه الأشكال التنظيمية، في حال تنسيقها وتوحيدها، يمكنها أن تمثل بديلاً اجتماعياً وسياسياً عن المؤسسات الراهنة للدولة الرأسمالية. بحيث يستطيع العمال اختيار مندوبيهم القاعديين الذين لا يتميزون عنهم، وسيكونون قادرين -في حال سيطرتهم على أدوات الإنتاج في المصانع وأماكن العمل- على إدارة عملية الإنتاج الاجتماعي بشكل ديمقراطي يضع أولوية الإنتاج لسد وإشباع احتياجات الجماهير وليس للأرباح الرأسمالية.
لقد رأينا ذلك في الكثير من تجارب الإضراب العام عبر تاريخ الطبقة العاملة، في روسيا 1905 عندما توحدت المجالس العمالية التي أنشأها العمال خلال الإضراب العام في كافة مصانع العاصمة لتشكيل ما سُمي بسوفييت بتروغراد. وفي ثورة 1917 الروسية عندما استطاعت الطبقة العاملة تتويج نضالها الثوري بتوحيد مجالس العمال (السوفيتات) عبر كل روسيا والاستيلاء على السلطة السياسية لتشكيل أول حكومة عمالية ديمقراطية في التاريخ في أكتوبر 1917.
ذلك إلى جانب عدد كبير آخر من التجارب الأخرى التي أثبتت فيها الطبقة العاملة قدرتها على خلق البديل السياسي والاجتماعي من أسفل خلال إضراباتها العامة، مثلما حدث في إيطاليا 1920: مجلس عمال تورينو، والمجالس العمالية في ثورة المجر 1956، وإيران 1979: مجالس شورى العمالية قبل أن يسحقها الخوميني عندما قفز على الثورة واستولى على السلطة.
واليوم في مصر، فإن نضالات الطبقة العاملة التي لا تهدأ وسيرها بثبات نحو الإضراب العام، يمنحنا قدر هائل من الثقة في قدرة الطبقة العاملة على خلق أشكالها التنظيمية القاعدية، وستتبلور الموجة العاتية من النضالات العمالية الراهنة في صورة لجان ونقابات ومجالس لا حصر لها، تتحد لتضع الثورة في مسارها الصحيح وتنتزع السلطة من بين أيدي الرأسمالية لبناء سلطة اجتماعية جديدة تُرسي مبادئ الحرية والعدالة والمساواة.. وتفتح الباب أمام بناء المجتمع الاشتراكي الجديد.
خاتمة
إن كافة مؤشرات الصراع الطبقي والنضال الاجتماعي اليوم تدل على أن الطبقة العاملة المصرية على أعتاب إضراب عام وشيك.. ستستطيع الطبقة العاملة أن تخوض هذه المرحلة ببسالة وجرأة وحسم.. وستستطيع جذب كافة حلفائها من الفقراء والعاطلين والمهمشين إلى النضال.. وسيكون هذا الإضراب العام بمثابة الجسر الواصل بين اللحظة الراهنة من النضال إلى الثورة الاجتماعية الشاملة والقضاء على السلطة الرأسمالية لبناء مجتمع جديد على أسس الحرية والعدالة.
والطبقة العاملة في حاجة لرأس حربة ترشد نضالها الذي سيدخل مرحلة الحسم بدءاً من الإضراب العام.. وهي في حاجة إلى كافة المناضلين الثوريين، المؤمنين بهذه الرؤية التي عرضناها، للاصطفاف بجانبها والانغراس بداخل نضالاتها.. ستحتاج إلى الآلاف وعشرات الآلاف من هؤلاء الثوريين لبناء الحزب الاشتراكي الثوري الذي لا غنى عنه لإحراز الانتصار النهائي للطبقة العاملة المصرية في معركتها الحاسمة مع سلطة رأس المال.. فشاركونا وانضموا إلينا..
|
| |
|