صندوق لا يعرف أحد ما بداخله
توفيق بوعشرين
2011-10-25 22:06
لأول مرة منذ الاستقلال يذهب التونسيون إلى صندوق الاقتراع للتصويت
الحر دون أن يعرفوا النتائج قبليا، كما هو سائد في كل الانتخابات التي
تجري في البلاد العربية.. يا للروعة، انتخابات تعددية يراقبها 5000 مراقب
دولي وعربي وتونسي، وتشرف عليها هيئة مستقلة وليس وزارة الداخلية سيئة
السمعة، والأكثر إثارة في المشهد أن أحدا لا يعرف نهايته. هناك توقعات،
هناك تخمينات، لكن المفاجأة واردة... من كان يتصور أن تونس التي عاشت طويلا
في جلباب الزعيم الأب المؤسس، الحبيب بورقيبة، الذي كان يعتبر نفسه أبا
لكل التونسيين، ومن ثم لم يقبل أن يضع نفسه وهيبته وأبوته محل سؤال أو
استفتاء أو انتخاب.. من كان يتوقع أن تونس التي عاشت خائفة مرعوبة في جيب
شرطي اسمه زين العابدين بنعلي، الذي لم يكن فقط يزور الانتخابات، بل لم يكن
يسمح بأقل من تزوير يعطيه 99.99 في المائة، وكان يضحك على ذكاء التونسيين
عندما يدفع بيادقه للترشح ضده فيما هم يصوتون له، ويدعون إلى ذلك علنيا في
وسائل إعلام النظام الفاسد الذي بدأ في آخر أيامه يفكر في صيغة للتوريث..
من كان يتصور قبل سنة أن تجري انتخابات حرة يشارك فيها أكثر من 100 حزب
لإنشاء مجلس تأسيسي سيعيد، ليس فقط، كتابة دستور جديد ووضع رئيس مؤقت
وحكومة انتقالية، فالمجلس التأسيسي، الذي يشارك فيه كل الطيف التونسي،
سيعيد كتابة عقد اجتماعي جديد للجمهورية الثانية.. عقد يحصد ثمار ثورة
الياسمين التي أعلنت ميلاد الربيع العربي.
تونس اليوم، ومع المشاركة الواسعة للمواطنين (إلى غاية كتابة هذه
السطور أعلنت الهيئة العليا المستقلة للإشراف على الانتخابات عن مشاركة
أكثر من 60 في المائة من الناخبين في الاقتراع) تعطي درسا جديدا للعالمين
العربي والغربي، عن أن العربي يستطيع اليوم أن يتكلم بلغة العصر وأن يخطب
يد الديمقراطية، وأن يدبر الاختلاف بين التيارات والأحزاب والعقائد
والإيديولوجيات بلا دم ولا معتقلات ولا تهديد بملاحقة الجرذان «بيت بيت دار
دار زنكة زنكة»...
تونس اليوم في مفترق الطرق، وقد قطعت نصف الطريق عندما لم تسمح للجيش
بأن يبقي السلطة في الثكنة، أو أن يقف خلف مرشح لدعمه وتقوية حظوظه، أو أن
يقصي طرفا من الأطراف التي تخيف اليسار أو اليمين أو أصحاب المصالح أو
الغرب. التونسيون شعب واع ومثقف ومتحضر في أغلبه، وإذا تركت له الكلمة فإنه
يستطيع أن يختار وأن يتحمل مسؤولية اختياره. الآن الكرة في الملعب المصري
والليبي، أما الدول التي مازالت مترددة في دخول اللعبة ومازالت ترى أن
الربيع العربي سحابة صيف عابرة، أو قوس فتح وسيغلق، فإنها تلعب بالنار،
وتأكل كل يوم حظوظها في اجتياز هذه الموجة بسلام، والتي انطلقت من تونس ولن
تقف في سوريا أو اليمن.. بل ستغمر كل الخارطة العربية، وستحمل فوق ظهرها
من يحسن العوم وستُغرق من يعيش في الأوهام.