(إلى أصحاب الفكر الحُرِّ، رغم كُلِّ أشكال المُجابهة) [1]
ـ حين تكونُ مُخَالِفاً لي، هل يعني هذا أنَّكَ عَدَوِّي !
ـ أو حين تكونُ رؤيتي للأشياء، هي غير رؤيتك لها، فهل أنا مُلْزَمٌ بأن أجعلك تُفَكِّرُ كما أُفَكِّر، أو ترى كما أرى !
ـ هَل تعرف أنَّ الفرق بيني وبينَكَ، أنني أُتِيح لغيري أن يكون نقيضي،
و أن يُدْلِي برأيه، وفق ما يراه، و أنني حين أُخالفه الرأيَ، أُوَجِهُه
بالحُجَّة، و بالحوار، دون أن أُصَاِدرَ على أفكاره، أو أَحْشُرَهُ في
زُمْرَةِ المارقينَ، وأنَّك لا تَسْتَسِيغُ رأيَ غيرك، و تعتَبِر مَنْ
يُخَالِفُكَ، لا مكانَ له في فِكْرِكَ، ولا في قلبِكَ، ومن هنا يأتي
كُرْهُكَ لكل الذين ليسو على رأيكَ، أو يُخَالِفُونَك الرأي.
ـ في الفكر، كما في أُمُور الحياة الأخرى، أنت تتَعَصَّبُ لأفكارك، و
لا ترى فيما يأتي من غيرك حُجَّةً، أو فائدةً، وهذا ما يُعميك عن رؤية
العالم. رأْيُكَ هو ما يَحْجُبُ عنك رأيَ غيرك، ويُعْمِيك عن سماع،
المُخْتَلِفِ.
ـ أما حين يتعلَّق الأمر بالدين، فأنت لا تقبلُ أن يكون في أمور الدين
نفسها، رأْيٌ، لأنَّ الرأيَ في تَصَوُّرِكَ، هو ماتَمَّ وانتهى، وحُسِمَ
أمرهُ منذ مع مَنْ تَراهُم سَلَفاً، وأنتَ خيرُ خَلَفٍ لخير سَلَفٍ،
وغيرُك شَرٌّ، ما دام يَصْدُرُ عن غير ما تَصْدُرُ عنه.
ـ ثمَّة مسافة، إذن، بيني و بينكَ، ما يعني أنَّ الحوار بيننا انقطعَ،
وأنَّك أقْفَلْتَ على نفسك داخل غُرْفَةِ مُغْلَقَةٍ، بلا نوافذ، بلا
هواء، أي أنَّكَ اخْتَرْتَ الظلام بَدَلَ الضوْءِ. هذا ما جعلَكَ تعتبر
الضَّوْءَ الوَفِدَ عليكَ، هُجُوماً، ما يَدْفَعُكَ لاختيار
المُجَابَهَةِ، بَدَلَ المُواجَهَةِ، أي أنَّك تستعمل ما في يَدِكَ من
أسْلِحَةٍ، لِمُجَابَهَة هذا الضوء القادم من شُقُوقٍ، لم تَعُد قادراً
على النَّظر فيها. [2]
إنَّ أخطرَ الأسلحة التي أصبح يحملها مثل هؤلاء اليومَ، هي أسلحة
الدَّولَة، أو ما يصير في يَدِهِم من مؤسسات الدَّوْلَةِ. البرلمانات، أو
مجالس الأمة، مثلاً.
لا أفهمُ كيف يمكن لشخص، يُشارك في انتخاباتٍ، يُطالب فيها بالنزاهة،
وبالشفافية، ويخرج للشارع لِيُدْلي برأيه أمام آراء ومواقف الآخرين، وحين
يمتلك زمام الأمور في يَدِهِ، بالأغلبية، أو بغيرها، يعمل على إبعاد الرأي
الآخر، وعلى استعمال هذه المؤسسات، لِمُحاكَمَة مَنْ لا يؤمنون بنفس
أفكاره.
فحين يلتجئ مثل هؤلاء إلى استعمال البرلمان، أو مجلس الأمة، لرفض سماع
الرأي الآخر، في الدين، كما في السياسة، و في غيرهما من شؤون الفكر، فهذا
ما يجعل من استعمال مؤسسات الدولة أخطر سلاح في يَدِ هؤلاء. بالأمس
صُودِرَ الرصافي، حتى وهو في الحَشْرِ، و اليوم نصر حامد أبو زيد وهو على
قيد الحياة. المُصادرة تأتي دائماً، من إحدى أهم مؤسسات الدولة، و تأتي في
أمور لها صلة بالدين. أليس هذا أحد مظاهر الشِّلَل الفكري التي باتت
تُهَدِّدُ الفكر الحُرَّ، وتصادرُ مَنْ يُمَثِّلُونَهُ..
إلى اليوم، ما زال طه حسين، مثلاً، لا يُدَرَّسُ في عدد من الجامعات
العربية، وما زالت آراؤه و كُتُبُه تُقرأ بمعياريْ الإيمان والكُفْر، وليس
بمعياريْ المعرفة و العقل. وهو نفسه، ما يُعَرِّضُ المعرفةَ النقديةَ إلى
المَنْعِ، والتَّعْتِيم.
[3]
مُواجَهَة الفكرة بالفكرة، هذا هو أساس المعرفة، و أداتُها في التعامُل
مع ما يُخالفها. لا فِكْرَةَ تعلو على أخرى، كُل ما يَحْدُثُ بالفكر
والتأمُّل، قابل للمراجعة، و المواجهة. الدَّلِيلُ والحُجَّة، و ليس
المجابهة بالقتل، أو بالرفض و المصادرة. فما عَتَّمَتْ عليه أفكار الماضي،
أو من كانوا يملكون أمور الدُّوَل و الإمارات بالأمس، ها هو اليوم
يَخْرُجُ إلى الناس، وتَتِمُّ مُساءَلتَهُ، في ضوءٍ جديد، وبرؤى، وأفكار،
غير ما كان في الماضي. هذا ما يجعل مَنْ ما زال ينامُ في الماضي، يعتبر
أنَّ مثل ما يقوله حامـد أبو زيد، ومثل ما كتبه الرصافـي، في " الشخصية
المحمدية "، وما كان حتى في الماضي من الأعمال والأفكار الجديدة،
والحُرَّة، هو من نَوْعِ الكوابيس المُزْعِجَة لهُ، لذلك وَجَبَ
اسْتِئْصَالُها!
[4]
ـ حين أقرأُكَ، فأنا أستمع إليك، وأسعى لمعرفتك.
ـ أما أنت فلا تقرأُني و لا تَجْرؤُ على قراءتي، تكتفي بما يُقَالُ
عني، وتبني حُكْمَكَ على السَّماع لا على المعرفة بما أقُولُه، أو أكتبه.
ـ أن تقرأ ما أكتبُهُ، معناه، أن تعرفَ طريقتي في التفكير، وشروط
قراءتي، وأراضي المعرفة التي منها أتيتُ، أو المرجعيات التي اعتمدتُ عليها
في قراءتي. أعني أن تعرفني، قبل أن تصادرَ رأيي.
ـ إذا كُنْتَ أنت لا تفعلُ هذا فأنا أفعله، وهو ما يقيني من الحُكم
المُسبق، و يجعلُني، بالتالي، أُقَدِّرُ قيمة خُصومي، أو حتى أعدائي، إذا
كان لي أعداء. وهذا ما يُبْعِدُني عن الظنِّ و الهوى، وفي الظن إثْمٌ.
ـ هذا هو الفرقُ بين المعرفة، بالمُواجَهَةِ، والمعرفة بالمُجابَهَة، وشتَّان بين الاثنين
الأحد يناير 03, 2010 4:27 pm من طرف سميح القاسم