1- الاستقلال الهووي والاستقلال المدني ما يقلق الباحث حقا هو أنّ النخب الزعامية لدول الاستقلال، والتي اهتزت أركانها مع الثورات الجديدة، لم تأخذ بنموذج الدولة /
الأمة
الحديث إلاّ بقدر ما سكتت عن رهان الديمقراطية في هذا النموذج. لقد
استفادت أيّما استفادة من نجاعته الهووية والأمنية المؤسسة على فكرة
السيادة ولكنّها تلفّتت تلفّتا تاما عن استحقاقاته المدنية والديمقراطية
إزاء حقوق المواطن وحقوق الإنسان. حتى أخذ السلفيون من كل رهط يخلطون بين
الدولة/الأمة الشرسة والأمنية وبين الحداثة السياسية، أكانت ليبرالية أم
يسارية. ومن ثم يشكّكون في كل معارك الحرية الحديثة، كما نجد جزءا غير يسير
من التعبير عنها في إعلانات حقوق الإنسان العالمية.
إنّ دول الاستقلال لدينا قد استفادت من البنية السيادية وبالتالي
الهووية للدولة /الأمة، لكنّها سكتت عن كل ما تضمّنه القانون الدولي منذ
1945 من مكاسب أخلاقية وحقوقية للإنسان. لقد اكتفت المجموعات الزعامية التي
بنت دول الاستقلال (وهو الاستقلال الهووي وليس المدني) بالاستفادة
الأداتية والانتهازية من القانون الدولي دون أي التزام حقيقي بما جاء فيه
من مكاسب أخلاقية كونية طويلة الأمد للأشخاص أو للشعوب بموجب الثورات
الحديثة.
إنّ الثورة هي رأساً استعادة حادة وكثيفة لحقوق الإنسان الكونية وليس
الهووية، والتي كان الحاكم الهووي يتشدّق بالتوقيع عليها، كنافلة أخلاقية
لا تكلفه أيّ تضحيات جدّية، ساخرا علنا أو سرا من سذاجة القانون الدولي أو
من شكلانيته، ولكن أيضا مستفيدا من تواطؤ الغرب في التعامل الأخلاقي مع
شعوبنا بوصفها أقلّ من شعوب أو شعوبا خارجة عن السيطرة بفعل هواجسها
الإسلامية أو القومية أو الدينية أو حتى اليسارية المعادية للغرب، الوصي
على مصير الإنسانية الحالية وعلى مُثُل التقدم والحرية والحقيقة والموضوعية
والسلم والعدالة…الخ.
كان الحاكم الهووي يكتفي بالتوقيع على معاهدات حقوق الإنسان توقيعا
إداريا وشرفيّا وشكليّا، دون أي التزام تاريخي أو قانوني أو سياسي ملزم
بتطبيقها، وذلك لأنّه يعتبر أنّها تقع خارج متطلبات الدولة الأمنية، وهو لا
يعرف مفهوما آخر للدولة.
وعلينا أن نذكّر هنا بأنّنا أمام ثورات من نوع جديد، لم يعد يؤدّي فيها
"الآخر" أيّ دور يُذكر. وهذا بحدّ ذاته علامة حاسمة على طرافتها.
2- السكوت العمومي والكلام الكبير إنّ الثورة هي بالأساس رفض للدولة الأمنية. وإنّ الشعوب إنّما تبدأ في
فكّ الارتباط الأخلاقي مع الحاكم الهووي ما إن تنقلب الدولة على يديه إلى
جهاز أمني معمّم، لا يحاسب حتى على الولاء بل خاصة على السكوت العمومي.
لعلّ أكبر درس تتعلمه الشعوب تحت الدكتاتورية – كدولة أمنية بحتة- هو درس
السكوت العمومي. وهذا السكوت الأمني قد يطول إلى حدّ اليأس الأخلاقي من
إمكانية استرجاع الحق في الكلام الكبير، أي الكلام حول تغيير الحكم أو قلب
النظام.
هنا علينا أن نسجّل ميزة للثورات الجديدة : إنّ الشعوب لم تعد تعوّل
فيها على أجهزة الثورة التقليدية، من قبيل الثكنة أو وزارة الداخلية أو
مجموعة مسلحة أو ضباط أحرار أو قيادة ثورية أو جبهة مقاتلة أو تنظيم سرّي
أو طائفة انفصالية أو فصيل منشقّ…الخ. لأوّل مرة تنزل الشعوب إلى شوارع
الدولة الأمنية بلا أيّة قيادة هووية جاهزة. ولذلك هي ثورات تتميّز بأنّها
لا تدافع عن أي إجابة جاهزة عن "من" تكون بالمقارنة مع أيّ "آخر". هي ثورات
لم يؤدّ فيها الآخر أيّ دور يُذكر. هي شعبية في معنى أنّ المتكلّم هو،
لأوّل مرة أو منذ وقت طويل، يحمل اسم "الشعب". الشعب كضمير متكلّم بلا
ملامح شخصية. الشعوب أخذت الكلمة. بالأمس الدكتاتوري، كانت تُستدعى غالبا
إلى التصفيق على الحاكم الهووي. اليوم صار لها لأول مرة صوتٌ يدوّي في مدن
عارية بلا حاكم أو هرب منها الحاكم وترك لافتاته وصوره وأنصابه وقصوره
الخالية. إنّ الثورة عمل تشكيلي على غياب الحاكم الهووي وتأثيث فظيع للعراء
السياسي بواسطة نوع جديد من الامتلاء : امتلاء الساحات الممنوعة سابقا
بكميات مهولة من الأجسام البشرية التي اكتشف للتوّ أنّها كثيرة وعديدة ،
دون أن تدين بذلك إلى أي إحصاء رسمي.
إنّ الشعوب الثائرة لا تملك غير الكمية المادية والعضوية للأجسام الحية.
ولذلك فهي بالأساس ثروة حيوية بلا مضمون سياسي جاهز. ومن ثم لا ينبغي
علينا أن نطلب من الشعوب الثائرة أيّ ضمانات هووية مسبقة. إنّ الثورة ليست
ضمانا لأحد. بل هي تغيير مفتوح لنموذج حياة لم يعد يحتمل السكوت عنه، مهما
كان مبرر ذلك نبيلا من جنس الهوية أو الأمن القومي أو الأصالة أو ثوابت
الأمة أو حتى الله….الخ. فكل ما يعوق حرية الشعوب ليس حقيقيّا ولا هو أهل
لأن نعتدّ به. فالحياة ليست مجرد الحياة. بل كل نوع من الحياة يخترع قيمه
من حركته ومن طاقته على البقاء.
لنحترس: إنّ الشعوب لا تثور ضدّ قيمها العميقة أو ضدّ مصادر ذاتها أو
ضدّ آمالها التاريخية، من قبيل التقدّم أو الهوية أو العقيدة او الانتماء،
الخ…فهذه كلها عناوين أدبية لشكل ما من التذوّت، ليس ما يمنع من تغييره أو
تطويره أو اختراعه مرات ومرات. من قال إنّ هذه القيم العميقة ليست صالحة
للثورة بالضرورة ؟ - لا تثور الشعوب إلاّ ضدّ الاستعمال السيّء لهواجسها
الهووية. وذلك أنّها لن تتحرر من دون تعابير هووية صحية ومفيدة بالمعنى
البيئي.
3- فن الاعتصام وصمت الجيوشإنّ التقنية الجديدة للثورة هي بلا ريب فن الاعتصام، كنوع غير مسبوق من
التعبير العمومي الحر. بعد السكوت العمومي الطويل الأمد يأتي الاعتصام
العمومي الذي يتكلم ولكن لا يخطب. مع ثورات الاعتصام تشكّل حسّ ثوري غير
أوروبي يمجّ الخطب الإيديولوجية ويركّز على الشعار السريع والخاطف والبسيط.
بعد السكوت العمومي الطويل لا تتكلم الشعوب إلاّ ارتجالا.
لكنّ نجاح فكرة الاعتصام لم تكن لتحدث دون تزامنها الرائع مع ميزة جديدة
في تاريخ الجيوش العربية هو سكوتها الثوري. لأوّل مرة تتحوّل الجيوش إلى
متفرّج رمزي على عملية الإطاحة بالحاكم الهووي دون أن تشعر بأنّها معنيّة
بشكل مباشر. كان الجيش قد عرف منذ بعض الوقت أنّه تحوّل على يد الدول
الأمنية إلى أداة مناسباتية وشكلية لتأمين عنوان من عناوين السيادة الحديثة
لا غير. عرف أنّه لم يعد يؤدي أيّ دور تأسيسي لطبيعة الدولة أو لنموذج
المجتمع أو نوع الحرية أو مشروع الحياة بالنسبة إلى الشعوب.
لذلك حين ثار الشعب كان الجيش قد استقال أخلاقيا منذ زمن طويل. وعاد إلى
الثكنات بلا رجعة وانقلب منذ فترة بطيئة ولكن متطاولة إلى شاهد ثقيل من
وراء ستار الزيّ العسكري الذي لم يعد عنوانا في الأثناء على أيّ مضمون
أخلاقي أو روحي كبير.
لأوّل مرة لم تعد الشعوب تحتاج إلى أيّ تدخّل عسكري حتى تصلح بنية
الحكم. وعلى كل حال فإنّ وقوعه لن يؤدي إلاّ إلى إفساد الأمر كما حدث في
ليبيا. حيث نشهد نسخة مزيفة من نموذج الثورة الجديد، كما تبلور في تونس
ومصر وسوريا، إذ أنّ ما يحدث هناك هو حرب أهلية بالمعنى التقليدي في نطاق
نموذج الدولة / الأمة.
لا تطلب الشعوب غير الحياد الإيجابي لكل القوى الموجودة، وليس الجيوش
فقط، بل البوليس والأحزاب والمؤسسات القضائية والجمعيات المدنية،الخ…إنّ
الشعوب قادرة وحدها على الذهاب قدماً في الإطاحة بشكل الحكم الهووي وبالحكم
الهووي بعامة، دون أن تقصد بذلك أبدا القضاء على بنية الدولة الحديثة.
4- ثورة الكرامة والنتائج الهووية الجاهزةإذا ثار شعب اليوم فإنّ ثورته لن تكون إلاّ
حيوية أساساً، وهي ليست هووية إلاّ بشكل خارجي أو تعبيري. إنّ الرهان الكبير لم يعد
الهوية بل صار
الكرامة.
وليس من مقوّم لمعنى الكرامة غير الحرية الذاتية بمعناها الكوني، أي
الاستعمال الذاتي للأشخاص بوصفهم كثرة أو جموعا حرة، مكوّنة من مفردات
بشرية لا تنضوي تحت أيّ كلّي هووي جاهز. لكنّ ذلك لا يجعلها بالضرورة ضد
أيّ هوية باسم أي هوية أخرى. لأنّ ما يحرّك الثورات الجديدة هو بالأساس
تنمية القدرات الذاتية على اختراع المشترك، أكبر ما يمكن من مساحات
المشترك، بين أفراد أحرار، مستعدّين لاستعادة حقهم الطبيعي في الحرية
والانتماء الكريم إلى أنفسهم.
من أجل ذلك لا يحق لأحد أن يحكم على هذا النوع غير المسبوق من الثورات
بمقياس النتائج الهووية، بل باسم مساحات الحرية التي تخلقها لنا. وحدها
الثورات التقليدية ذات البرنامج الهووي الجاهز سلفا (وبهذا المعنى ، السلفي
دائما، أكان ماركسيا أو قوميا أو إسلامويا أو ليبراليا، الخ…لأنّ اختلاف
المراجع لا فضل فيه لأحد على أحد) هي من شأنها أن تؤدي إلى
نتائج هووية جاهزة هي بدورها.وعندئذ ما أسهل ما تنقلب الثورة إلى سوق محاسبات رسمية
لأعداء الثورة المفترضين، وعندئذ ليس ثمة من طرف سيكون محصّنا ضد تهمة
الالتفاف على الثورة أو مضادة الثورة أو العدول بها عن مسارها أو الاحتواء
على رواسب من العهد البائد..
إنّ الثورة الجديدة لا تحمل توقيعا هوويا جاهزا، ولذلك هي أفق للحرية
الموجبة التي ظهرت عندنا لأوّل مرة بعد تاريخ طويل من الحريات السالبة. هي
أفق محض للحرية الموجبة أكثر منها برنامجا واعيا بذاته لتطبيق حرية سالبة
ليس لها من شرعية سوى محاكمة أعداء غير ثوريين. وحدها الثورات الهووية تمر
متعجلة إلى تطبيق حكم يتحول فيه الشعب الثائر إلى مادة سياسية طيّعة وحيوان
سياسي أحمق لا يملّ من الاحتفال بالنتائج الأخلاقية الجاهزة لثورته التي
كثر آباؤها فجأة وتعسّر النسب إليها على الذين قاموا بها، حتى ممّن ماتوا
من أجلها.
ما قامت به الشعوب هو سحب البساط الأخلاقي من تحت كل تفكير هووي، سواء
أكان في السلطة أم كان في المعارضة، سواء أكان علمانيا أم دينيا، أكان
ليبراليا أم ماركسيا أم قوميا. وذلك لأنّ من قاموا بالثورة لم يكونوا أصلا
جزءا من المؤسسة السياسية أو حتى الاقتصادية أو الثقافية. لقد كانوا شبابا
حرّا بلا منزلة حزبية ولا وضع سياسي ولا حتى هوية جاهزة لأنفسهم الجديدة.
هم كثرة حيوية لا غير، غير قابلة للتدجين الحزبي ولا للتعليب الإيديولوجي
المعتاد في كل مساحات الدولة/ الأمة.
من أجل ذلك هي ثورات مخيفة، وذلك لأنّها تخلو من وعد سياسي واضح. لكنّ هذا هو عنصر القوة والطرافة فيها. هي أوّل ثورات ذات وعود
مدنية حقيقية، أي وعود حرية موجبة بلا مضمون هووي جاهز أو مفروض من أي جهة ثورية
محترفة (أكانت قبيلة أو جهة أو حكومة أو حزب أو منظمة بعينها) قد تحتكر
رمزيتها. لا تريد الشعوب هذه المرة أن تتحرر من الهيمنة الاستعمارية بل من
هيمنة المفهوم الزعامي الذي حُكمت بمقتضاه منذ الاستقلال الخارجي. ولذلك هي
ثورات الاستقلال الذاتي ولكن بمعنى جديد: هي ثورات الاستقلال الذاتي للشخص
الفردي فينا، وليس للهيئة الديمغرافية للشعب بعامة. إنّ الشخص قد صار فردا
لدينا لأوّل مرة. لقد أصبح لديه لأول مرة حياة خاصة يدافع عنها، وليس
مستعدا لأن يمرّ به العمر سدى، كما حصل لجيله برمته. لأوّل مرة يأخذ مصطلح
"الاستقلال الذاتي" دلالته الصحيحة: إنّه "ذاتي" وليس "هوويا".
إنّ الشعوب لم تثر من أجل تعزيز النموذج الليبرالي للعيش ولا تحقيق
الشيوعية ولا بناء الدولة القومية الكبيرة ولا تطبيق الشريعة، الخ…هذه كلها
عناوين هووية مترهّلة تقدّم بها العمر عن انتصاراتها، كما يُقال، ولا يجد
الحاكم الهووي أيّ صعوبة خاصة في التعامل معها أو محاربتها أو الاستفادة
منها أو تدجينها أو تطويعها والانخراط فيها، أي في تأمين استعمال أو
استغلال عمومي وشرعي ومفيد لنتائجها الهووية.
والحال أنّ الثورات الجديدة هي ثورات كرامة بالمعنى الجذري : ليس لها من
مطلب كبير ودائم سوى الحق في الحياة الحرة كاقتدار طبيعي للشعوب والأفراد.
ولفظة "الشعب" بالعربية طريفة هنا لأنّها تدل رأسا على الكثرة التي تنبت
بشكل طبيعي وحيوي ومتعدد وتتكثّر دون حدود جاهزة. وهذا هو معنى أنّها حرة