غالباً ما
يستخدم الإخوان المسلمون بشكل عام لغتين: لغة أمام الرأي العام العالمي
بتصوير أنفسهم على أنهم ليسوا سوى طائفة دينية يضطهدها حكامها كما هو الأمر
مع بقية الأقليات الدينية الأخرى، بغية استدرار عطف القوى الدولية للوقوف
إلى جانبهم؛ وقد أتت سياسة هذه اللغة بأُكلها بعض الأحيان (في نوفمبر 2010
أصدرت الخارجية الأميركية تقريرها السنوي عن وضع الحريات الدينية في مصر.
وقد وضع التقرير الإخوان إلى جانب طوائف أخرى ممن يتعرضون للاضطهاد مثل
الأقباط والبهائيين).
اللغة الثانية أمام شعوبهم وحكامهم، ليس بكونهم طائفة دينية، وإنما
بتنصيب أنفسهم بكونهم ليسوا سوى صوت «المرجعية الإسلامية» لقيام «الدولة
الإسلامية»، أو على أقل تقدير التحدث باسم المجتمع السني، أنهم هم الأقوى
في اختزال مشهد الإسلام السياسي بهم وحدهم، وخاصة في ظل غياب حركات إسلامية
كما هو الأمر في سورية.
يستفيد «الإخوان السوريون» من هاتين اللغتين أكثر من أي فرع إخواني آخر،
وذلك لسببين رئيسيين؛ الأول، خصوصية فسيفساء المجتمع السوري الطائفية،
والتي تختلف عن المجتمع الأردني والمصري. وهم في هذا السياق يرون أن لهم
الحق في الحكم، باستنادهم إلى كونهم هم من يمثل الأغلبية. وهذا ما دعاهم في
مؤتمرهم الأخير (المغلف بالإخوان) في اسطنبول لإعادة الدعوة لقيام حكومة «
تراعي خصوصية المجتمع السوري».
وكان الأجدر بهم بدل هذا التلميح والغموض، أن ينطقوها صراحة: دولة إسلامية
تحتكم للأغلبية. لكن هذه هي لغة الإخوان المناورة التي تستند إلى حسابات
السياق السياسي ومدى قوتهم على الأرض (في الثمانينات أعلنوها صراحة، دولة
إسلامية).
والسبب الثاني، ما خلفته الصدامات المسلحة بينهم وبين والنظام في شباط
(فبراير) 1982 من ضحايا، والاستثمار السياسي من قبل الإخوان لهذه الأحداث،
وخاصة الآن في ظل ما تشهده سورية من تطورات، إلى درجة أنه لا تكاد تخلو
مناسبة يتحدث فيها الإخوان السوريون عن أوضاعهم إلا ويتم الحديث عما جرى في
حماة، بحيث يصبح استذكار هذه الأحداث بمثابة «لازمة» للخطاب، ليتم تحويلها
إلى رافعة، الهدف منها سياسي أكثر من كونها طلباً للتحقيق في مجريات ما
حدث.
إضافة إلى إظهار أنفسهم بمظهر «
الحمل الوديع»، فإن إحدى الدوافع السياسية لإصرار الإخوان على تكرار ما حدث في ثمانينيات وربطها بما يجري الآن -بمساعدة بعض القنوات الفضائية (
منبر من لا منبر له) التي تخدم توجهاتهم-، يرمي من طرف خفي لـ «
إضفاء المشروعية» على ثورتهم «
الإسلامية»، وإظهار أنهم كانوا ضحية تلك الثورة.
منطق الضحية الإخواني يذكّر بمنطق اليهود أنفسهم بالإصرار على التذكير
الدائم بـ «الهولوكوست» والاستثمار السياسي إلى الآن لذكرى المحرقة. لقد
وصلت الدرجة بـ زهير سالم (الناطق الرسمي باسم الجماعة) أبعد حتى من
الهولوكوست بذلك الاستثمار، ليضع حماة جنباً إلى جنب مع وقعة «الحرّة»
حينما داهمت جيوش يزيد بن معاوية يثرب المدينة أو حوادث قصف الحجّاج للكعبة
بالمنجنيق، لينتهي به المطاف فيؤكد أن «حماة المجزرة ستبقى «توأم (كربلاء)
بكل قسوتها ورهبتها وجلافة الذين نفذوها، وعظمة ضحاياها» (أي الإخوان).
لكن إذا كانت «الضحية» عند اليهود قد تحولت إلى «جلاد»، فإنّ ما يقلق من
خلال النبرة الثأرية التي يحملها خطاب الإخوان هو اللجوء إلى رد الفعل
الانتقامي بحيث يتحولون إلى جلادين؛ طبعاً هذا وارد مادامت إيديولوجيا
الدين السياسية والعسكرتارية التي حركتهم في الثمانينات، هي المتحكمة الآن
على ذهنهم. ومن المعلوم أننا لم نسمع إلى الآن أي مراجعة نقدية لهذه
الإيديولوجية الهادفة في نهاية الأمر إلى إقامة دولة إسلامية، أو دولة ذي
مرجعية على مقاسهم اللاهوتي.
في مقاله المنشور مؤخراً في الغارديان (16- نيسان (أبريل)- 2011)، يصر
علي صدر الدين البيانوني (المراقب العام السابق) وهو يتحدث عن الاحتجاجات
السورية على إقحام ذكريات حماة، وعاتباً بنفس الوقت على المجتمع الدولي
لأنه كان «أصماً» عن سماع استغاثات «ضحايا الأسد» على حد تعبيره (والمقصود
هم الإخوان). لكن ما هو ملفت أن البيانوني -ومن طرف خفي- يستغل، ليس فقط
ربط تلك الأحداث بما يجري الآن، بل غياب وسائل الإعلام حينها وأي رواية
حقيقية تفسر ما جرى؛ وهذا ما دعاه ليرفع رقم تلك الضحايا أضعافاً إلى
50.000 !!، وعدد المعتقلين إلى 17000 (لكن رياض شقفة، المراقب الحالي، عنده
الرقم 20.000).
الإخوان السوريون وهم يظهرون دائماً بمظهر «
الحمل الوديع»
الذي قصقصت أجنحته من غير ذنب يذكر (سوى أنهم قالوا: نريد دولة إسلامية!)،
لا يفضلون الحديث لا عمن افتعل تلك الأحداث والمسبب لانفجارها، ولا حتى عن
الإيديولوجية الطائفية التي يحتكم إليها ذهنهم اللاهوتي، والتي كانت هي
السبب الرئيس لإعلانهم الجهاد؛ هذا فضلاً عن إحجامهم الحديث عن المآلات
التي خلفها صراع النظام السوري معهم وتأثيرها على المجتمع السوري برمته
والذي يعاني منها إلى الآن.
برأي البيانوني أنه بسبب «منع حرية التعبير وغياب الديمقراطية والانتهاك الدستوري لحقوق الإنسان الأساسية»، قام «
أفراد قلائل»
(والتعبير له) باللجوء للعنف، وإذ بالأسد يردّ بقتل نحو 50.000 من حماة
وغيرها! هذا ما قدمه البيانوني في الغارديان مخاطباً الرأي العام الغربي.
وربما يمثل هذا صيحة استغاثة أخرى من الإخوان للغرب.
من المؤكد أن البيانوني يعلم أن القصة ليست مسألة «
أفراد قلائل»،
حتى يرد الرئيس الأسد بقتل 50.000. المسألة كما يعلم هي مسألة تنظيم
ميليشيوي له شق سياسي، وآخر عسكري. وأعتقد أنه لمن أراد قراءة الإخوان
المسلمين السوريين (وخاصة من حيث التنظيم، السلوك، الإيديولوجية، الأهداف)،
فأفضل شيء يمكن أن يطلع عليه هو بيانهم الشهير الذي كتبوه هم أنفسهم قبل
أحداث حماة، تحت عنوان «
بيان الثورة الإسلامية في سورية ومنهاجها» بتاريخ 9 نوفمبر (تشرين الثاني) 1980؛ وكان
علي صدر الدين البيانوني نفسه أحد الموقعين عليه (إضافة إلى: سعيد حوى، وعدنان سعد الدين الذي
أصدره بنسخة ثالثة سنة 1988). وقد أتى هذا البيان الثوري الإسلامي، ليوحد
صفوف الإخوان الشماليين (كما عرفوا حينها في حماة وجسر الشغور وإدلب…
هذه المناطق التي كان ينتشر فيها الجهاديون من «الطليعة المقاتلة»،
الجناح العسكري) مع الإخوان الشوام، الجنوبيين، بزعامة عصام العطار
ومعتدلين آخرين. وأهم ما يبينه هذا البيان بشأن حقيقة الصراع (إضافة إلى
أمور مهمة أخرى)، هو «
طائفية» تنظيم الإخوان المسلمين
«السنية» في نظرتهم سواء للمجتمع أو إلى نظام الحكم في سورية، ولماذا كان
الصراع؟، وبهدف ماذا؟..الخ. لكن الإخوان الآن لا يفضلون ذكر ذلك البيان
(وهم لم ينتقدوه)، رغم أنهم كانوا يفاخرون به في ذلك الحين، خاصة عدنان سعد
الدين (مراقب سابق).
كل هذه المسائل يبتعد الإخوان المسلمون عن الإجابة عنها بشكل واضح أمام
الشعب السوري. فما يكتفون به القول أنه تواجد بعض الأفراد ولجئوا للعنف!
وهؤلاء لا يمثلون الإخوان، وإذ بالنظام السوري يقتلع مدينة حماة! لا بل
يصرون على الشعب السوري من خلال تكرار تلك الأحداث، وخاصة في ظل ما يمر به
الآن (والبلد على كف عفريت) أن تبقى ذاكرتهم مثقوبة، بإنعاشها دوماً بأوراق
تهدد السلم الأهلي. فضلاً أن هذا الربط الإخواني يسبب القلاقل ويهدد سلامة
الموزاييك الاجتماعي السوري، ويضر بحركة الاحتجاجات.
لم يرسل الإخوان إلى المجتمع السوري أية إشارات تفسر ما حدث، أو حتى
إشارات يعترفون بها بأخطائهم التي أدت إلى نتائج وخيمة يعاني منها الشعب
السوري برمته إلى الآن. صحيح أن القضية كانت قضيتهم هم والنظام السوري، إلا
أن الشعب السوري هو الذي دفع ثمن مطالبتهم بالدولة الإسلامية. والثمن كان
غالياً سواء دماء الأبرياء التي أريقت، أو على المستوى الاقتصادي أو
الاجتماعي (الوحدة بين أبناء الشعب) أو حتى على مستوى الحريات السياسية؛
فإذا كان ثمة هامش من الحرية قبل هذه الأحداث، فإن هذا الهامش -الذي
استغلوه في بناء خلاياهم- قد ألغي بالكامل بسبب «ثورتهم الإسلامية».