تطرح المعرفة في علاقتها
بالرغبة إشكالات لا حصر لها، أهمّها طبيعة هذه العلاقة ذاتها : فهل نعتبر
المعرفة غاية الرغبة مثلما كان يرى أفلاطون، أم هي أداة ازدياد الرغبة
وبلورتها كما ترى الفلسفات المتعوية؟ فرق شاسع إذن بين من يعتبر أن الإنسان
ليس يرغب إلا سعيا وراء المعرفة (إدراكا للخير رئيس عالم المثل بتعبير
أفلاطون)، ونشدانا لأن يشمل بوعيه العالم أجمع (متخلصا من المعرفة الظنية
الغارقة في الحسي)، ومن يرى أن هذا السعي والنشدان المعرفيين ليسا إلا
وسيلة لإنماء قوته في الوجود وتوسيع آفاقه في الحياة. إن النظرة الأولى،
أقصد النظرة الأفلاطونية للمعرفة، نظرة ميتافزيقية، جسّدها صاحب الجمهورية
بامتياز عبر شخصيته المفهومية سقراط. "فمع سقراط بالضبط، بدا انحطاط
الفلسفة واضحا. وإذا حددنا الميتافزيقا على أنها ما يقيم المفاضلة ما بين
عالمين، بحيث تقابل مابين الظاهر والجوهر، الخطأ والصواب، العقلي والحسي،
وجب القول بأن سقراط هو من يبتكر الميتافزيقا : إذ ينظر إلى الحياة كشيء
يجب مقاضاته، قياسه والحد منه وإلى الفكر كمعيار محدد للحياة باسم القيم
العليا من قبيل : الله، الحقّ،الجمال والخير …"(دولوز بصدد نيتشه، ترجمة
حسن أوزال، مجلة فكر ونقد، ع.39،ماي 2001 ). تردنا ثنائية المعرفة والرغبة
إذن إلى ثنائية كلاسيكية هي سقراط ودينوزوس. والحال أن الأوّل بقدرما كان
دوما يستجدي جِنَّه، أي الصوت المقدس الثاوي في أعماقه بقدر ما أصابه
الارتباك ونال منه الشك، سيما وأنّ النزوع الغريزي لديه لا يستطيع أن يجد
طريقه للنور دونما استنطاقه من لدن الوعي : الحارس العارف للحلال والحرام،
وبقدرما كان ينتهي إلى الكفّ عن الفعل والإمساك عن الحياة. أما دينوزوس،
الطرف النقيض في المعادلة، فهو، باعتباره إله الخمر والعربدة في
الميتولوجيا الإغريقية، لا يُخْضِعُ سلوكه لمعيارية القياس ولا يضع أفعاله
رهن استشارة قبلية لقاضي المعرفة. مع سقراط، على ما يبدو، افتقد الإنسان
مرحه التراجيدي، وصار في سياق تخبطه في متاهات الجدل يتردّد عند كل فعل حد
عجزه عن إتيانه. يوضّح نيتشه حكاية اغتيال هذا البعد التراجيدي في كتابه
"ميلاد التراجيديا" مؤكدا أنها نتيجة حتمية لاشتغال ثلاث صيغ أساسية في
التفاؤل السقراطي هي : "الفضيلة معرفة؛ إننا لا نخطئ إلا عن جهل؛ الإنسان
الفاضل إنسان سعيد". ويترتب عن ذلك، بطبيعة الحال، تحديد الرغبة باعتبارها
رغبة في الحقيقة(أو المعرفة المثلى)، يقتضي إشباعها(عبر التذكر) التخلص
كليا من هذا "الشيء الخسيس"الذي هو الجسد، مصدر الأوهام والشرور التي لا
تفتأ تشوش على الروح وتحول دونما بلوغها الحقيقة. وإذا كانت الرغبات
الجسدية كلها دنيئة، ومنحطة بحسب أفلاطون، لأنها تعارض صفاء الروح، فالرغبة
في الحقيقة هي الرغبة في الخير وتوق للمطلق تلافيا لكل ما يتصل بالرذيلة
والجهل والشقاء. لكن ما يكون المجسم المحتمل لهذه الأبعاد الثلاثة، النقيض
للتفاؤل السقراطي؟ إنه الخطيئة الأولى بلا شك، التي ما أن اقترفتها حواء
حتى اكتست طابعا جنسيا، من لدن التيولوجيا، وحالت بذلك دونما بلوغ الإنسان
رشده واكتماله. أو لنقل على الأصح، إن هذه الخطيئة المفترضة، رغم لا وجودها
أصلا، هي ما أفضى بأريستوفان، في مأدبة أفلاطون، إلى الاستعانة بالسمك
المربع، وذلك تصويرا من جهة أولى، للشرط الإنساني باعتباره مشمولا بقدر
العقاب والمحاسبة الإلهيين وتأسيسا من جهة ثانية لأصل الرغبة كنقص، وفقدان
للنموذج الأمثل، الذي هو نموذج الخنثى بحسب أريستوفان. وعلى نحو ما كان هذا
المخلوق البدائي، الخنثى، موسوما بالقوة والبأس كما العنفوان والعجرفة
فضلا عن كونه كائنا مركّبا، يجمع في الوقت ذاته ما بين الجنسين الذكر
والأنثى، على نحو ما كان يضاهي الإرادة الإلهية في كل شيء، إن لم نقل إنه
يكاد يوازي الخالق سلطة واستقلالية ومعرفة. ذلكم بالضبط ما أثار عليه غضب
الإله زوس فأقدم بمساعدة أبولون، على شطر العاصي نصفين، رميا إلى التقليص
من قوته والحد من كبريائه وعجرفته. وعلى ذات النحو صرنا نستوعب كيف شرع
السماح للمخلوقات المبتورة، بدءا، بالتعاطي مع رغباتها وعواطفها، فهي في كل
مساراتها مجبرة على البحث بشكل سيزيفي عن ذلك النصف المفقود أو الطرف
الضائع، وتكبّد لعنة النقص والحرمان أملا في نيل الكمال.
هكذا ظلّ التصوّر السائد حول الرغبة منذ أرستوفان حتى لاكان، على حدّ
تعبير أنفراي، تصورا يربط من ناحية أولى الرغبة بالنقص باعتبارها طاقة تروم
استعادة الوحدة الأصلية المفقودة، وينظر من ناحية ثانية إلى الحبّ كبحث
يسعى إلى العثور على شيء لا يمكن العثور عليه واقعيا. لكنّ الأكيد أن
الأفلاطونية إن كانت لا ترى في الرغبة إلا نقصا ومطاردة للكمال، فذلك ليس
إلا لأنها تروم نزع الطابع المادي عنها؛ وهو الطابع الذي بموجبه تضحى ثراء
وغنى يقتضي الإنفاق. فقبل أن أكون وحدة مبتورة، في حاجة إلى نصفها الآخر،
أجدني وحدة منعزلة، في غنى عن تجربة الآخر. إني في كل الأحوال، كيان مستقل
بذاته، حرّ في تصريف وجودي على نحو منفرد أو علائقي، أما الآخر فهو مثلي
يخضع لنفس القوانين التي أخضع لها وتحكمه نفس المقتضيات التي تحكمني. بعيدا
إذن عن الكيانات الأفلاطونية الناقصة نرى أن الفرادات المادية تكتفي
بذاتها وتحيا دونما استثناء على نحو ما تحيا الكواكب والأفلاك المستقلة عن
بعضها البعض. ذلك أن الاكتفاء بالذات يعني، على حدّ تأويل نيتشه، الاستلذاذ
بوضعنا كآلهة؛ أي كأغنياء لا كفقراء. فالغني هو من يكون بوجوده لا بما
يملكه أو يحوزه؛ بينما الفقير المعوز، رهين ما يحشده من ثروات وعبد ما
يكتنزه من مال. وبقدرما يقتفي الأول أثر المتعة والاستلذاذ، مدركا أن
الحياة، حياته فحسب، هي رأسماله الوحيد، لأنها كمدة محدودة في الزمان،
بقدرما ينهج الثاني، نهج التقشف والزهد، لأنه مهووس بالخلود ولا يدرك
كغريمه أن الأشياء إلى الزوال تسير وأننا ككائنات محكومون في مسارنا بعدمين
إثنين : لحظة الميلاد ولحظة الموت. إن المستلذّ، رحّالة، مأخوذ دوما في
تيار، ولا يعرف عدا كون اللذة محايثة بطبعها للحركة المولدة لها، أما
المتزهّد فهو من يقيم ساكنا مستقيما، يركن إلى الرتابة زمانيا ومكانيا.
مقابل انفتاح الأول وعشقه للحرية نجد انغلاق الثاني ونزوعه للاعتقال
والأسر. وبقدرما هو البون شاسع بين من ينظر للرغبة كاختبار للذات، اكتشافا
لإمكانات لا تحصى من إمكانات الوجود، وبين من لا يرى فيها غير استنساخ دائم
للأصول، بقدرما تتضح الترجمة الفعلية لذلك في تبنّي المتعويّ لفلسفة قد
ندعوها بالمادية وتبنّي المتزهّد لفلسفة نقيض نسمّيها مثالية. والواقع، أنه
ضدّا في الفلسفة المادية، قامت الأفلاطونية تُعَلِّم نسيان الجسد، وسموّ
الروح، وبدل تفضيل الأضواء الطبيعية والعقل المحكم التوجيه، عن الأضواء
الفوق-طبيعية، كما عن براهين الأنظمة الدينية، على حد تعبير ديكارت، راحت
الفلسفة المثالية تُعَبِّد الطريق أمام الدين، وتشجّع الإيمان بدل العقل،
والخرافة بدل العلم والأوهام بدل الحقيقة، ولغة العقاب بدل البراءة. ممّا
ترتّب عنه اقتران الجدل السقراطي بانحطاط الفلسفة، وتقلص قيم الإبداع لتحلّ
محلّها قيم المحاكمة والمؤاخذة. فبدل الإعلان عن الوحدة ما بين المعرفة
والرغبة وتكامل الفكر والحياة، نجد أن المعرفة سرعان ما انتصبت حكما يقاضي
الحياة، ويحدد إمكانات تصريف الرغبة، مواجها إياها باسم قيم عليا، قصد
النيل منها واعتقالها. لكن وإلى هذا الحدّ، ماذا لو قلبنا الأفلاطونية رأسا
على عقب؟ وبدل تجريم الحياة (لأنه يستحيل تقويم قيمة الحياة كما قال
نتشه)، نعكف على فسح المجال واسعا أمام إمكاناتها القصوى، بحيث نكفّ عن
ملاحقة الواقع باسم مثل عليا، ونتوقف عن الاعتقاد في وجود قيم تسمو عن
الحياة ذاتها. ممّا يقتضي تبرئة الصيرورة وكذا المتعدّد وإقرار الاختلاف
والتنوّع بدل التطابق والوحدة. كلّ ذلك، لحسن حظنا ممكن لكن شريطة إجراء
قلب للقيم ذاتها والعدول عن التفسيرات الاختزالية من أجل تفسير إثرائي،
وتأويل جنيالوجي. ذلك ما دأب نتشه، على القيام به، "عندما استعاض، عن كل
معرفة مطلقة وعن كل بحث غايته الحقيقة، واضعا مقابلهما، ما يسميه
بـ"التفسير والتقويم": فإذا كان التفسير هو ما يمنح الظواهر معنى جزئيا
وفرعيا، فالتقويم هو ما يحدد القيمة التراتبية للمعاني ويُوَحِّد مابين
الأجزاء دونما حجب أو إنكار لتعددها. "(دولوز بصدد نيتشه، مرجع مذكور
سلفا). تبعا لذلك فهذه العلاقة، علاقة المعرفة بالرغبة، هي أيضا قضية
تقويم، نجازف معها إلى اعتبار الرغبة أَوْلَى من كل قيمة، إن لم نقل إنها
هي ما يحدد طبيعة وتراتبية القيم ذاتها. لماذا؟ لأن الرغبة هي جوهر الإنسان
كما بَيَّنَ سبينوزا، بله هي ما يُيَسِّر لكل كائن حفظ كيانه. لكن لا
ينبغي لنا الظن بأننا هنا أمام تحديد ماهوي محض، مادام سبينوزا ينظر إلى
الإتيقا كمشكلة قوة لا كمشكلة واجب، ليوازي بالتالي مابين الماهية والقوّة،
جاعلا من هذه الأخيرة أساس قيام كل رغبة. من ثمة نفهم، إصراره على التمييز
ما بين الكائنات، اعتمادا على القوة الفعلية التي تمتلكها. أي من خلال ما
يستطيعه كل كائن كائن، على اعتبار أن الكائنات إنما تتميز فيما بينها من
حيث كونها لا تستطيع نفس الشيء. وإذا كان لا يصحّ بنظر الفيلسوف إقامة
المفاضلة ما بين كائن وآخر، على أساس الجنس أو النوع، أكثر ما يصح إقامتها
على أساس ما قد يضطلع به كل منها على حدة، من عواطف وما يستطيعه من أحاسيس،
فذلك ليس إلا لأنّ التصنيف ما بين الحيوانات وكذا الناس ينبغي أن يتم
اعتمادا على لوائح العواطف ليس إلا. وإن كانت هذه بلا شك هي اللحظة الأولى،
من تاريخ الفلسفة، بحسب دولوز، التي تخلصنا فيها، بفضل فيزياء الانفعالات
وميكانيكا الأحاسيس، السبينوزية، من التحديد الماهوي الأخلاقي، وانتقلنا
بالتالي إلى التحديد الإيتيقي فذلك يرجع أول ما يرجع إلى كون سبينوزا، لا
يتساءل عما يكونه الشيء، أكثر ما يتساءل عما يستطيعه ويقدر عليه. فما
يميّزني ضمن السُّلَّم الكمي للمقدرة l’echelle quantitative de la
puissance ، هو ما أقدر عليه أي ذلك القدر من القوة الذي أملكه. لكن ما
يثير الاستفهام ههنا، ويجعلنا نتساءل في إطار نظام علاقات القوى هاته، عن
إمكانات التحرر عند الإنسان، إنما هو كون هذا القدر من القوة الذي يدعوه
سبينوزا أيضا بالكوناتوس، ليس مشروطا فحسب بفيزياء الأهواء وميكانيكا
العواطف، بل مشمول كليا بالضرورة الطبيعية التي تكتسي عنده طابع القدسية،
حدّ اقترانها بالله. فكيف والحالة هذه، يكون بوسع الإنسان وهو الخاضع
للطبيعة أي الله أن يستعيد حريته؟ كيف بمُكْنَتِه أن ينفلت من شرط لم
يختره؟ من ضرورة تشمله رغم أنفه؟ الجواب إنما هو : بإدراكه لطبعه المقدّس
ومختلف تجلياته، سيما وأنه كجزء أعمى من هذا الكل (الله أو الطبيعة) نادرا
ما يتحول إلى جزء واع بارتباطه بالطبيعة، مادام جاهلا للعلل التي تشرط
كيانه. من ثمة وجب على الإنسان أن يعي قدره، لأنه حالما أدرك الناس هذا
السرّ فحسب، سَهُلَ عليهم حينئذ أن يعرفوا أن حرية الاختيار مجرد أكذوبة.
يستفيض الفيلسوف في توضيح هذا الأمر في رسالة بعث بها لـ"شولر" قائلا: "إذا
رمينا بحجرة في السماء، ستنطلق صاعدة، فتتباطأ ثم تتوقف لتسقط وفق قانون
سقوط الأجسام. إنها تخضع للضرورة الطبيعية والإكراهات الفزيائية التي يخضع
لها كل ما في الطبيعة. لكن لنفترض : أننا وهبنا هذه الحجرة وعيا وكذا لغة.
عندها ستقول بأنها اختارت كل ما طرأ لها : من صعود وتباطؤ، توقّف وسقوط ثم
البقاء لصيقة بالأرض."(Michel Onfray,les libertins
baroques,contre-histoire de la philosophie t.3,éd.Grasset,2008,p .262)لا
غرو إذن أننا على نحو الحجرة، نخال أننا أحرار في الوقت الذي نحن فيه
خاضعون، لعلّة نجهلها. وهذه العلة لن تكون إلا ما أسميناه بالرغبة. فالرغبة
تطال كل الكائنات وتحدد مجراها، وتشرط اختياراتها وكذا أذواقها، بواسطة
لعبة من القوى الأشدّ تناقضا. كيف لا، وكل الأشياء التي نرغب فيها "لا نرغب
فيها لأنها جيدة، بل نعتبرها جيدة فقط لأننا نرغب فيها"؟
(spinoza,éth.III,9,sc.trad.et notes par Charles
Appuhn,Flammarion,1965) . ولئن صارت الرغبة والحالة هذه هي ما يمنح
الأشياء قيمتها، مثلما أنها هي أيضا ما يميز خيرها عن شرها، فذلك يعود أول
ما يعود إلى كون مسألة التقويم، مسألة ذوقية، محايثة لا متعالية كما في
الدساتير التيولوجية. وعليه، فكل ما ندعوه خيرا إنما هو حقيقة ما نحبّذه
ونفضّله ونميل إليه، أمّا الشرّ فهو كلّ ما ننفره ونبتعد عنه. لذلك يتكلم
سبينوزا بدل الخير عن النافع وبدل الشرّ عن الضارّ. النافع هو ما يسمح
بازدياد قوتنا على الفعل وهو لذلك الفرح عينه، أما الضار فهو ما يعمل على
التنقيص منها، وهو بذلك حزن. وتبعا لهذه الآلية الوضعية في التقويم، يردّ
أمير الفلاسفة العواطف باختلافها وتعددها إلى ثلاث أساسية ومتداخلة فيما
بينها هي :الرغبة والفرح والحزن. وبقدرما أنّ الفرح هو انتقال للإنسان من
حالة اكتمال أقل إلى حالة اكتمال أكبر(éth.III,déf. II) فإنّ الحزن هو
انتقال من حالة اكتمال أكبر إلى حالة اكتمال أقل (déf. III éth.III,) .ومما
لاشك فيه أن دأب سبينوزا على شرح الإنسان هنا باعتباره رغبة، إنما يعود
إلى كون الرغبة بالنسبة له رديف "الشهوة المصحوبة بوعيها الذاتي"
(spinoza,éth.III,9,sc (على أساس أن الشهوة المفصولة عن الوعي ولئن كانت
رغبة فهي ليست تؤلف إلا ماهية الكائنات الأخرى؛ تلك التي خلافا للإنسان لا
تعي شهوتها. زيادة على ما سلف، يمكننا القول بأن أهمية الرغبة بالنسبة
للإنسان إن كانت تكمن في كونها قوة مُحَرِّرة وطاقة إنتاجية، فذلك لا لشيء
إلا لأنها لا تكون كذلك إلا عندما يكون الذي من طبعه أن يرغب قادرا على
إتيان الرغبة في أقصى درجاتها. ذلك أن القدرة على الرغبة مقرونة أيضا
بالقدرة على تعلم الرغبة، وفنّ الاستمتاع، على اعتبار أن المتعة مركبة
بطبعها وتبدأ من البسيط والموجز والفظّ والخشن حتى المعقّد والأكثر حبكة
وصنعا. فالمتعة لا تنطبق ضرورة مع الوجدان والهوى أو الغريزة المشبعة
والإحساس المباشر بل تتجاوز ذلك، وتبدو أقوى وأكثر تماسكا حالما تقوم على
هندسة تستدمج في الوقت نفسه البعد الحيواني في الإنسان والبعد العقلاني.
فأن تستمتع على نحو بهيميّ شيء وأن تستمتع على نحو انتقائيّ شيء آخر. لذلك
نُقِرُّ بأنّ المتعة فنّ يتطلب التعلم والمران قدرما يستدعي أسلبة الحياة
ونحت الذات. ندرك ذلك جيدا حالما ندخل متحفا للفن مثلا حيث تواجه ذواتنا
الجاهلة عملا فنيا معقدا، فنكتفي معه بالانبهار بما هو جميل دونما البلوغ
بالذات إلى مستوى إدراك المعنى والاستلذاذ به. والحال أن ما يجعلنا ننبهر
لا يعفينا من مسعى الفهم بنفس الطريقة التي لا يمنعنا، كل ما يمنحنا معنى،
من روعة الاستلذاذ. ليست المتعة إذن فنّا يرقى بنا من المستوى البهيمي إلى
الإنساني، إلا لأن الاستلذاذ في حدود المستوى الأول استلذاذ شعبوي بيد أن
الثاني استلذاذ استطيقي. الفرق بين الإثنين فرق في المثابرة والجهد اللذان
هما تكلفة الاستلذاذ الإستطيقي في حين أن الاستلذاذ الشعبوي سطحي وعفوي
ويكاد يكون مجانيا، قوامه الكسل والغباء ليس إلا. من نافلة القول إذن أنّ
المتعة تقتضي نوعا من التعلم خاصّا؛ ولكن لا يكفي كي نتعلم الاستلذاذ أن
نتعلم أن نبدع وأن نبتكر، بل ينبغي أيضا، الحصول على والتمكن من الوسائل
الكفيلة لذلك، مادام أن الرغبة طاقة علينا العمل على إخراجها إلى النور
وصقلها على نحو ما تصقل الأعمال الفنية؛ مما يستتبع، تَحَلِّينا بنوع من
الفن المعرفي الواعي تَيْسِيرا لعملية توليدها. هذا ما فتئ يرسمه لنا
سبينوزا على طول كتابه "الإيتيقا " راميا إلى توضيح معالم الإنسان الحكيم،
أو لنقل السيد، الذي يعرف كيف يُعِدُّ قواه وينسق مابين أحاسيسه وعواطفه
إحرازا لكينونة أرقى، ونيلا لوجود أمتع. وبخلاف السيد فإنّ العبد لا يجد
إلا أن يخضع لأهوائه ويرزح دونما وعي ولا أسلوب تحت نير غطرسة عواطفه. إن
هذا الأخير، مجرد دمية أمامها وبيدق مسلوب الإرادة تحت سيادة قانونها.
قصدنا إذن أن الإنسان ليس كائنا راغبا إلا لأنه يعرف أنه يستطيع نيل الفرح
والابتعاد عن الحزن. فالحزن إذ يرد صاحبه غبيا على حد تعبير سبينوزا، يسهل
مأمورية استعباد الناس، ويمكن الحكام من الهيمنة على رعاياهم. أما الفرح
فهو ما يفتح أمام الإنسان أفق التحرر والانسلاخ عن تلك الترسيمات
الاجتماعية التي لا تفتأ تأسره، وتشدّد عليه الخناق. وإذا كانت السياسة
كاستراتيجية إخضاع وتحّكم، توجيه وتقييد، هي ما يلتف على أعناقنا ويمسك
بتلابيب حميميتنا عبر بثّ الكآبة والحزن في نفوسنا، حالما نكون في غيبوبة
من أمرنا وغير مدركين لفحوى المخاطر التي تحدق بمصائرنا، فالتحرر هو ما
يقتضي منا لا الوعي فحسب، بترسانة نظم السلطة هاته التي تتسلل إلى
حميميتنا، وتتناسل بدواخلنا، بل الوعي أيضا بقدرتنا على هدّها والتمرد
عليها. لكن الظاهر، أن عموم الناس لا يملكون في ظل سيادة منطق السوق الذي
راح يجسد الرغبة باعتبارها نقصا، إلا أن يتصوروا كياناتهم على نحو
أفلاطوني، غير مشبعين، نهمين ومجرّد مستهلكين. فالمجتمع الاستهلاكي هو قبل
كل شيء آخر، قضية تصور مثالي مفارق للواقع، ولئن انتصر للرغبة كمبدأ فذلك
ليس إلا باعتبارها رغبة غير منتجة، رغبة رديفة للنقصان والعوز، اللذين
بازديادهما، تزداد الأسواق، مشرعة أبوابها لوقت أطول أمام حشود المستهلكين.
لذلك فالفرق شاسع بين من ينظر إلى الرغبة كآلة إنتاج ومن يعتبرها مجرّد
ثقب يلزم ملؤه. النظرة الأولى ثورية لأنها تتمرد على أنساق النظم القائمة
ساعية إلى ابتكار المزيد من التنسيقات والتكثيفات، أما الثانية فهي محافظة
ورجعية ترنو إلى إيقاف مجرى الرغبة وتجميد انسيابها، على اعتبار أن الرغبة
من حيث هي توليف وتركيب على حد تعبير دولوز، سرعان ما تثور، فتظهر في
تنسيقات مباغتة، غير منتظرة، وتقترن بسيولات غير مألوفة، سيولات تمكنها من
الانفلات من أجهزة الرقابة، وأنظمة السوق ومجتمع الاستهلاك. هكذا فبدل
النهمين، نجد فاقدي الشهية، وبدل المتزوجين نصادف أنصار العزوبية ؛ وبدل
المستقرين نصادف الرحـّل…كل واحد من هؤلاء يحقق كسرا، ويرسم سياسة. "إن
فقدان الشهية يؤكد دولوز، سياسة جريئة : إنه يفيد الانفلات من قوانين
الاستهلاك، حتى لا يكون المرء ذاته موضوع الاستهلاك "(جيل دولوز-كلير
بارني، حوارات، ترجمة عبد الحي أزرقان – أحمد العلمي، أفريقيا الشرق 1999
،ص . 139-140 )ذلك أن الرغبة عند فاقد الشهية، إن أتت خائنة لنظام التغذية،
وكذا أقنوم الجوع، فذلك ليس إلا لأنها تتحلى بفن المقاومة الواعي بشغفه
المشاكس لسياسة الاستهلاك. ففاقد الشهية هو من يقتفي أثر نهج استهلاكي معقم
بتعبير دولوز، بدل أن يخضع لمنطق سوقي شمولي. كذلك الشأن بالنسبة للأعزب،
بحيث أنه من يتمكن من الاستلذاذ خارج نظام الأسرة المقدسة سياسيا
وتيولوجيا، ويصرف رغبته الجنسية على نحو معاكس لطقوس العائلة وسياسة
الإنجاب .بدهي إذن أن تغدو الرغبة في علاقتها بالمعرفة ثورية، وتتحول بفضل
العلم المرح، من مستوى الابتذال إلى مستوى الغندرة. أقصد بالغندرة هنا ذلك
الأسلوب البودليري الذي ميز عصرا بأكمله هو عصر الحداثة، وأفضى بكياناتنا
البشرية إلى اقتفاء أثر نهج حياة آهلة بأن تعاش، لا لشيء إلا لأنها واعدة
بسعادة عز نظيرها. سعادة هي نتاج معرفة محررة، بفضلها شُيِّدَ صرح لـ"أخلاق
المتعة"، خارج ثنائية الخير والشرّ اللاهوتية، حتى صار من الوهم الحديث عن
الخير والشرّ دونما استحضار الأفق المتعوي: وإذا كان الخير هو ما يزيد من
قدر المتعة بينما الشرّ هو ما يقلص منها، فذلك ليس إلا لأن السعادة تعني
غياب الألم مثلما يعني الشقاء غياب المتعة. نقول كل هذا، على كل حال، لا
لشيء إلا لأن الاستلذاذ هو غاية الرغبة في صلتها بالمعرفة.
فالحكمة تكمن في الانصهار الممكن ما بين الإثنين من أجل اللوذ بحيز
أنطولوجي مشمول بالجمالية والروعة، ينتصر فيه الكيف على الكم والاستثناء
على القاعدة والغندرة على الابتذال. فنحن، في المتعة لا نسعى وراء الكم
ولئن كان قدر منه مهما، أكثر مما نسعى نحو شيء آخر، وحده الإنسان قادر على
الإتيان به كإضافة نوعية؛ وحده الإنسان يستطيع بعد البحث عنه، المسك
بتلابيبه والعثور عليه، لأنه من يملك دونما سواه فن حساب الملذات وانتقاء
أجودها من أكثرها ضحالة، ما دام هو الكائن الواعي بذاته، صاحب العقل
والوجدان في آن.
الأحد أكتوبر 30, 2011 11:19 am من طرف هذا الكتاب