ما أجمل هذه الشعوب، وهي تأخذ بكل جسارة في حلم لطالما رأته في يقظتها المتقطعة منذ قرن!
وما أحقر الحكام الهوويين الذين أضحكوا علينا الأمم الحديثة، بسخف
خطاباتهم وضعف حججهم وضآلة طموحهم وسقوطاتهم السريعة تحت ضربات جيل جديد من
الشباب المتكثّر والحرّ بشكل فظيع ودون علَم هووي جاهز لأنفسهم، سوى
الكلمات العابرة للإنسانية مثل الحرية والكرامة والتاريخ والشهداء والغضب
والوطن والله..والثورة!
الحاكم الهووي لا يريد أن يحكم فقط، وهو ليس حاكما بالمعنى المتداول
إلاّ تجوّزا..وهو ليس طاغية على نواميس اليونان ولا دكتاتورا على قوانين
الرومان ولا مستبدّا على سنن الشرقيين..ولا عاهلاً أو ملكا كما في الملكيات
الحديثة.
إنّ الحاكم الهووي يخيّر أن يسمّي نفسه "المجاهد الأكبر" أو "زعيم
الثورة" أو "القائد الأوحد" و "الملهم" و"الرشيد" و"الاستثنائي" و"صانع
التغيير" و"خيار المستقبل"،…الخ. إنّ كلّ أسمائه هووية.
إنّه "هووي" في معنى أنّه لا يكتفي بوظيفة الحكم المعروفة بل يريد
"تهويئ" الناس حسب هوية جاهزة، نكتشف في آخر المطاف أنّها هوية لا تتجاوز
شخصه الضئيل أو عائلته أو حرّاسه الشخصيين. كلّ ما في الحاكم الهووي هو
شخصي، أي ناتج عن تصوّر هووي منفرد بنفسه لنفسه باعتباره النسخة الأصلية من
كلّ محكوميه، والذين لا يحقّ لهم أن يطوّروا أو يدّعوا أيّ توقيع ذاتي آخر
لأنفسهم "المحكومة" إلاّ شخصية الحاكم الهووي، باعتبارها البرنامج
الأخلاقي الوحيد للشخص والأشخاص في البلاد.
في الحقيقة ليس الحاكم الهووي غير آلة حكم معطّلة، تنقلب مع الأيام إلى
محكمة هووية دائمة للمعارضين. وعلينا أن ندقّق معنى "المعارضة" حين تكون ضد
حاكم هووي.
ليست المعارضة عندنا انتماء إلى حزب لم ينجح في الانتخابات العامة أو لم
يستطع الفوز بالعدد المطلوب من الأصوات لتشكيل الحكومة، فهذا ترف حكومي
وانتخابي وسياسي للدول الليبرالية الغربية. إنّ المعارض بالنسبة إلى الحاكم
الهووي هو مجرّد مشاغب أو مخرّب أو عميل أو خائن أو إرهابي، ولا يمكن
بأيّة حال أن تكون له ملامح موجبة. "لا" هي عند الحاكم الهووي حرف حزين
دائما لدينا. ومن ينطق به يفتح على نفسه باب الجحيم. فالمعارض لا وجود له.
وإذا وُجد فهو مزيّف ولا مكان له بيننا. هكذا يفكّر الحاكم الهووي، لأنّه
كوجيطو مريض ودموي ومجنون. وعلينا أن نسأل مرة واحدة: لماذا ؟ وكيف أمكنه
أن يحكم كلّ هذه السنين، كما فعل القذافي؟
من أجل ذلك كانت الثورات العربية من جنس خاص تماما: إنّها لم تتمّ
بواسطة الأحزاب ولا بشكل انتخابي ولا داخل مؤسسات الدولة. إنّها تمّت خارج
أجهزة الدولة أو بتعطيلها أو في الفضاءات التي لم يكن يمكن للدولة أن
تملأها، لأنّها جزء من طبيعة الفضاء المدني الحديث، من قبيل الساحات العامة
والشوارع الكبيرة والجسور والحدائق والأسواق..كلّ ما يبقى فارغا يخيف
الحاكم الهووي. ولذلك كان لا يملّ من ملء الفضاءات الفارغة بصوره وإعلاناته
وشهاداته وألوانه وأعلامه وأنصابه التذكارية وتماثيله..وهنا يكشف الحاكم
الهووي عن حقيقته: إنّه صنم أو يريد أن يصبح صنما.
وهكذا نحن نخطئ كثيرا عندما نرغب في محاسبة الحكام بواسطة القضاء، ونطنب
في الحديث عن ضرورة توفير المحاكمة العادلة لهم. هم وُجدوا وحكموا وسقطوا،
وهم يتصوّرون أنفسهم فوق القانون أو هم القانون. ليس ثمة شيء قانوني فيما
هو هووي. بل كلّ ما في الحاكم الهووي هي توقيعات شخصية تجعل القوانين
نافذة. ولا أقول مشروعة. فهو في قراره لا يؤمن بالشرعية أبدا. إنّها العدوّ
اللدود لكل حاكم هووي. الشرعية هي العلامة الكبرى على الإرادة المشتركة
للجمهور الذي انتخب أو اختار أو فرض رأيه بكل حرية في ما هو مدني. وهذا
بحدّ ذاته جريمة لدى الحاكم الهووي. ليس ثمة في عرفه جريمة أخطر وأفظع من
حرية الناس المدنية في الحديث عن أنفسهم، من دون توقيع الحاكم الهووي. أن
تصبح لهم أشخاص وشخصيات مدنية حرة خاصة بهم، فهذا خيانة "وطنية". ولا بدّ
أننا عرفنا أنّ الحاكم الهووي لا يعرف معنى مدنيا للوطن إلاّ المضمون
الهووي الشخصي الذي يمنحه إياه. الوطن صنم هووي في يد الحاكم الهووي، يفعل
به ما يشاء، فهو ملكية خاصة به وبأبنائه أو زوجته أو أعوانه. إنّ الحاكم
الهووي هو أكبر علامة على أنّنا ما زلنا لم نخرج من براديغم "القبيلة"، وإن
كنّا قد مررنا من قبيلة الدم إلى قبيلة الهوية. وهذا أمر لا يتنافى أبدا
مع الإرادة الوثنية للحاكم الهووي: إنّه يقترح على الشعوب برنامجا وطنيا
لعبادة الشخصية. وهذا ما كان في مختلف بلداننا، تحت معاجم هووية مختلفة.
وعلينا أن نسأل: لماذا لا يشبع الحاكم الهووي من الحكم ؟ ثمّ كيف تحمّلت الشعوب هؤلاء الحكام الهوويين كل هذه المدة؟
ربما
ثمة توصيفات متداولة كثيرة لفهم شخصية الحاكم الهووي. فهي ظاهرة تستحق
الدراسة. قد قلنا إنّه ليس حاكما عاديا، لا طاغية ولا دكتاتورا ولا مستبدا،
بالمعاني التقنية لهذه المصطلحات. إنّ الحاكم الهووي هو بمعنى ما ضحيّة
هووية. إنّه سليل الدولة القومية الحديثة، ولكنه سليل هجين وشخصية
بارا-تاريخية، ولقيط مابعد كولونيالي. ولذلك ينبغي أن نسأل: هل هو مجنون
سياسي، نعني هل هو قد جُنّ من الحكم؟ أم مريض نفساني يحمل باتولوجيا هووية
من نوع خاص؟ أم هو عرّاف وثني مزيّف؟..كل هذه التوصيفات لا تعبّر إلاّ عن
حيرة. ولا تفي بالغرض.
الحاكم الهووي لا يسمع ما يُقال له، خاصة قبل سقوطه الوشيك. بل ربما
(كما في ليبيا)، حتى بعد سقوطه هو لا يستطيع أن يرى. وكل العالم يتعجب من
صمم وعمى هذا النوع الغريب من الحكام الذين ابتُلينا بهم. يُقال عنهم من
قبل إنّهم براغماتيون وهم حيوانات سياسية خطيرة، وأنّهم زعماء محنكون
وقيادات طويلة الأمد. واكتشفنا أنّهم لا يتوفّرون على أدنى ذرائعية سياسية.
هم فاشلون في إدارة أزمات حكمهم بشكل لا يُصدّق. ويقعون بسرعة فريسة
أعوانهم الهوويين أو بعض أفراد أسرهم. ما يقتلهم هو دوما الهووي والشخصي.
الحاكم الهووي لا يشبع من الحكم الهووي. نعني بذلك أنّه في الحقيقة لا
يحكم بالمعنى العادي. هو لا يشعر أنّه مكلّف بخطة وطنية أو بوظيفة رئاسية،
مضبوطة بوقت قانوني معلوم، يُحاسب عليها أمام برلمان أو شعب مراقب وقادر
على محاكمته. بل هو يشعر أنّه هو ضمير هذا الشعب وعقله العمومي وشخصيته
العميقة، ومن ثمّ أنّه مادام هذا الشعب موجودا، فإنّه سوف يبقى هو حاكما
هوويا له. هو لا يشعر بأيّ فرق بين وجوده ووجود ذلك الشعب. وهذا التماهي
الحاد المفترض بين شخص الحاكم وضمير الشعب هو السبب الأكبر في الطابع
الهووي لهذا النوع من الحكام. إنّ المشكل في أبدية الحكم في أذهان الحكام
متأتّ من التصوّر الهووي للعلاقة بينهم وبين شعوبهم. وهل تريد الهوية بما
هي هوية إلاّ المزيد من التماهي مع ذاتها ؟
ولكن كيف استطاعت الشعوب أن تتحمّل هذا العبء الأخلاقي والتاريخي الذي
سلطه الحاكم الهووي عليهم ؟ - نحن "شعوب" بالفعل. أي كثرات متشعبة من
الجموع التي تجمّعت تحت لواء اللغة والتاريخ والدين والمصير والمخيال
والعادات والأخلاق والآداب، الخ. ومن فرط الانتماء المسبق إلى هذه الدائرة
التأويلية لأنفسنا العميقة، أخذنا نشعر، على فترات ومعاجم مختلفة، أنّنا
"جماعة" أو "ملة" أو "أمة" أو "وطن" أو "بلاد" أو حتى "عالم"، أي كيان واحد
ويريد أن يبقى واحدا. لكنّ هذه المفاخر الأخلاقية الواحديّة لأنفسنا
العميقة هي في نفس الوقت ليست شيئا آخر سوى المهاد الوجودي والأخلاقي
والتاريخي الواحديّ الذي أقام عليه الحاكم الهووي إحداثياته المريضة. لقد
استغلّ كلّ ما يجمعنا من روابط واحديّة لغوية أو قومية أو عقدية، وحوّلها
إلى أجهزة تابعة للدولة/الأمة التي نحتها من هواجسه الشخصية.وهي ليست دولة/
"أمة" على كل حال إلاّ بضرورة المصطلح والتوصيف الحديث. فالحاكم الهووي
أبعد الناس عن الإيمان بأيّ أمة: إنّه يشعر أنّه هو ذاته "أمة" ينبغي أن
تُقام لها النصب والأعياد والمراسم، وأن تُعلّم في المدارس وتوضع في
الدساتير.
من أجل ذلك فإنّ الشعوب قد تحمّلت أدران الحاكم الهووي طيلة كل هذه
العقود لسبب واحد كبير: أنّها كانت في قرارها شعوب هووية بامتياز أو قُدّر
لها أن تكون كذلك تحت وقع نوع مخصوص من التاريخ اللاهوتي-السياسي. كلّما
كان الشعب يشعر أنّه "أمة" أو جزء من "أمة"، كان يساعد الحاكم الهووي على
تأبيد حكمه الهووي. بلا ريب، ليس العيب أو الداء في معاني "الأمة" أو
"الهوية" بحدّ ذاتها، بل في طريقة اسغلالها كأجهزة شخصنة تشرف عليها
الدولة. وكلّ ما يقع تحت يد الدولة الهووية، يتحوّل إلى بضاعة هووية، سواء
أكان يعلم أم لا يعلم.
لا يحكم الحاكم الهووي إلاّ الشعوب الهووية. ولم يكن تحمّل هذه الشعوب
لهم عقودًا أخرى سيشكّل فرقا. لكنّ الشعوب قد ثارت، ولابدّ أنّ أمرا جللاً
قد حصل. فما هو؟
علينا الانتباه إلى أنّ "من" ثار ليس كل الشعب بجميع
أجياله، إذ هو يتضمّن أجيالا هووية لا شفاء لها، بل شريحة مؤهّلة للثورة ضد
حاكم هووي مسنّ، ولو كان صغيرا مثل بشّار. هذه الشريحة هي "الشباب" كتوصيف
حيوي صريح. الشباب هم أولئك الذين لم ينخرطوا بعدُ في أجهزة الدولة، ومن
ثمّ لم يتطبّعوا بعدُ بطباع المؤسسة الهووية من ولاء براغماتي ومداهنة
سلوكية ورياء سياسي ووصولية ماكرة وأخلاق تسلّط وعادات ابتزاز وتقنيات سكوت
وانضباط أمني..وهذه الكوكبة من القيم هي من إنجازات الحاكم الهووي على
الصعيد الأخلاقي. ولذلك لا يبقى في مؤسسات الحاكم الهووي إلاّ من يتمتّع
بشطر أو يتقن واحدا أو أكثر من هذه المهارات الهووية. أمّا من لا ينضبط أو
لا يسكت على الأقل، والسكوت تقنية عمومية استفاد منها جيل كامل من
الساخطين، فهو لن يطول به التمتع بغطاء الحاكم الهووي، ويصبح عرضة للنهب
الأمني.
كان في حساب الحاكم الهووي أنّ شريحة الشباب يمكن السيطرة عليها
بطريقتين كبريين: إمّا تأبيد وجودها على مقاعد الدراسة وإمّا تلهيتها
بنجاحات جمالية ومُتعيّة واستعراضية، يمكن الاستفادة منها انتخابياًّ. ومن
ثمّ إمّا عزلها هوويّا في مدارس بلا أيّ أفق اجتماعي، وربما أيضا تعبئتها
من خلال برامج موجّهة هوويّا، وإمّا استغلالها كمادة للمضاربة التجارية على
كلّ ما هو مُتعي وفنّي وثقافي، وتهيئتها لتكون شريحة قابلة للابتزاز
الهووي مثل تشغيلها الأمني أو الحزبي أو المخابراتي.
لكنّ حسابات الحاكم الهووي قد سقطت فجأة، وصار الطريق إلى إسقاط هذا
النوع من الحكم مفتوحا. وهذا الحاكم رغم مَكره الطويل الأمد إزاء شعوب
طيّعة هوويا، لأنّها معدّة تاريخيا ووجوديا إلى ذلك، هو قد وجد نفسه مشدوها
وعاجزا ومثيرا للشفقة.
ما حدث يتخطى كلّ آليات الهيمنة الهووية التي
استفاد من ثمارها عقودا طويلة. إنّه تحوّل أعمق من حرب تحرير ضدّ المستعمر
أو انقلاب عسكري أو انتفاضة سياسية أو عصيان مدني أو فتنة طائفية. بل هي
"ثورة" أي تبديل كلي لدورة الزمان التاريخي، تحت إرادة عميقة لشعوب حرة لا
يمكن لأيّ جهة مهما كانت قوتها أن تعطّلها. ولذلك لا أحد اليوم يحق له أن
يزعم أنّه يملك تفسيرا أخيرا لما وقع. لا الداعية ولا الخبير الأمني ولا
عالم الاجتماع أو النفس أو التاريخ يمكن له أن يدّعي أنّه قادر على تفسير
نهائي لما حدث. ما يفعله جميع الأطراف بلا استثناء، حتى بقايا الأنظمة
الهووية، هو أخذ غنيمة ما ممّا وقع. الغنيمة السياسية أو القانونية أو
الدينية…هي التي تحرك الجميع. لكنّ كلّ هذه التوصيفات لئن كانت مفيدة
ومشروعة فهي متعجلة جدا، بالنظر إلى ما سيحدث.
لم يثر الشباب الذي عجزت الدولة عن إقناعه بالانتماء إليها، لأسباب
انتخابية أو حتى اقتصادية..فقد كان الفقر موجودا دائما، ولم تقع ثورات. لقد
ثار في معركة اعتراف من نوع طريف: هو لا يريد أن يكون وثنا انتخابيا أو
إعلاميا أو هوويا لأيّ حاكم. وبخاصة هو يريد أن يوقف القدر المزيّف الذي
اخترعه الحاكم الهووي وحوّله إلى برنامج مستمر للمستقبل. يريد الشباب
الثائر أن يستبدل القدر الهووي بالتاريخ. مجرّد التاريخ، لا أكثر. هي ثورة
تريد الشعوب من خلالها أن تدخل تاريخها العادي، بعيدا عن أيّ سردية تأسيسية
اخترعها هذا الحاكم الهووي أو ذاك. إنّها ثورات سردية مضادة، وثورات هووية
مضادة، تريد أن تسترجع حقّها الطبيعي والحيوي في أن تحكي قصتها بنفسها،
دون أن يسخر منها أيّ ضرب من الراوي الكبير.
إنّ صيد الحاكم الهووي قد بدأ في كل مكان. وسواء ظلّ يعاند التاريخ
بحمقه الهووي المعهود أو يربح قدرا آخر من وقت ما بعد النهاية أو تمّ
اعتقاله كمجرم حرب أو هرب كاللص، وهو لصّ محترف في سرقة الحرية، أو اختفى
بين الجماهير أو في الصحراء أو في الدول "الصديقة"،…فإنّ هذا الحاكم لن
ينتهي وحده، بل سوف تنتهي معه رؤية شاملة وطويلة الأمد لمفاهيم الحكم
والحاكم والمحكوم في ثقافتنا العميقة. لم يكن الحاكم الهووي غير المحرك
الذي بقي يعمل مدة أطول من آلة الحرية التي تعطّلت في بلداننا منذ وقت
طويل. وحين تتعطل آلة الحرية في ثقافة ما لن يبقى للشعوب إلاّ الهواجس
الهووية. وحين خرج الثوار لصيد الحاكم الهووي، لم يكن هدفهم تحرير أيّ أرض
أو بناية أو مؤسسة أو عقيدة، بل تحرير أنفسهم.
الجمعة أكتوبر 28, 2011 10:52 am من طرف سبينوزا