يحاول الروائيّ الكونغوليّ آلان مابانكو أن يتحدّى التهميش الذي تعرّض له
بلده مدّة من الزمن، يوثّق الدمار والتدمير اللذين طالا بنية الإنسان
الكونغوليّ، الذي لم يزايله التهميش، بل ظلّ ملازماً له، في حقبة
الاستقلال، كما في حقبة الاحتلال، وهو إذ يستعرض التهميش المقترف
للكونغوليّ في الداخل والخارج، لا يسهو عن عرض صفحات من الممارسات الشائنة
من قبل الكونغوليّين أنفسهم، مع بعضهم البعض، يقدّم طبقات للتهميش، أنواعاً
مستحدثة على الطريقة الأفريقيّة، مَن يكون هامشيّاً في الخارج، يسعى إلى
تهميش غيره في الداخل، ليستعيض عن هامشيّته، بإقناع نفسه وغيره بأنّه يقوم
بدور رئيسيّ، يتلبّس قناعاً يشوّهه وغيره، فيتصاعد العنف الناتج عن اقتسام
المهمّشين للكعكة المسمومة التي تغريهم..
يسلّط الكونغوليّ آلان مابانكو في روايته «القدح المشعور»، (دار علاء
الدين، دمشق 2010، ترجمة: سهيل أبو فخر)، الضوء على وقائع ومجريات حياة عدد
من الكونغوليّين، يرصد التغيّرات التي تنتاب المدينة وسكّانها بين الفترة
والأخرى.. يقدّم عالماً منسيّاً، مهمَلاً، مهمّشاً في قلب القارة
الإفريقيّة، التي تناوب على استنزاف خيراتها المستعمرون، وتنتشر بين
السكّان الأصليّين المعاركُ والحروب الطاحنة، التي تمنعهم من تشييد مدنهم،
التي تبقى تابعة للدول العُظمى، رازحين تحت سيطرة العسكر الذين يتصرّفون
بها على هواهم..
ومابانكو المولود في الكونغو سنة 1966، درس فيها الفلسفة والأدب، ثمّ
سافر إلى فرنسا، حصل هناك على الدبلوم في القانون، انتقل بعدها إلى
الولايات المتّحدة، وهو حاليّاً برفيسور في الأدب الفرنسيّ في جامعة
كاليفورنيا في لوس أنجلس. يطلّ على عوالم المُهمَّشين والملوك سواء بسواء..
تدور أحداث الرواية في حانة في برازافيل، عاصمة الكونغو التي كانت سابقاً
مستعمرة فرنسيّة، يوكل الكاتب سرد الأحداث إلى شخصيّته الرئيسة، التي
يسمّيها القدح المَشعور، يحاول القدح المَشعور، بناءً على طلب من الحلزون
العنيد، صاحب حانة «الدين المسافر»، تدوين تفاصيل عن حيَوات الشخصيّات التي
ترتاد حانته، يطلب منه أن يكتب كلّ ما يستطيع كتابته عن ماضيهم، عن
أحلامهم، عن آلامهم، عن مجريات حياتهم، يشتري له دفتراً، يتعهّد بتأمين
متطلّباته، يخبره بأنّه لن يفتح الدفتر حتّى ينتهي القدح المَشعور من ملئه
بالقصص والحكايات..
ينتهز القدح المَشعور الفرصة، ليتلصّص على عوالم شخصيّاته الهامشيّة التي
تعدّ نفسها المركز الأوحد والمطلق للكون، يستمع إليها وهي تسرد أوجاعها
وأوهامها، يكون خير منصتٍ، يحتفظ بأدقّ التفاصيل، لينقلها بأمانة إلى
دفتره.. يبتدئ بسرد حكاية الحانة التي كاد افتتاحها أن يمثّل مشكلة وطنيّة،
تسبّبت في أزمة استوجبت تدخّل الوزراء، كأنّها باتت قضيّة حياة أو موت،
شاعت إبّان ذلك الأقاويل، انقسم الناس بين مؤيّد ومعارض، شنّت مختلف
الشرائح الاجتماعيّة هجوماً شرساً على الحكومة التي عارضت افتتاح البار،
يتدخّل وزير الزراعة وهو صديق قديم لصاحب الحانة، يلقي خطاباً حماسيّاً،
تروّج مقولة يطلقها، تغدو شعاراً للمرحلة، وهي كلمة «أتّهم»، التي أكثر من
ترديدها، فأسرت قلوب الناس، حتّى أنّ بعضهم غالى في تأثّره بها، فسمّى
مولوده بها، ما دفع رئيس البلاد إلى الغيرة من الوزير الذي تمكّن من أسر
القلوب، والتأثير العميق بكلمة تخلّدت في الأذهان، فيدعو إلى اجتماع طارئ
لعناصره، كي يبحثوا له عن كلمة أو مقولة تمحو أثر كلمة الوزير في النفوس،
وتشكّل بدورها ماركة مسجّلة كبراءة اختراع باسمه، فيجدّ فريقه في البحث،
حتّى يستدلّوا في النهاية إلى كلمة "أفهمكم"، التي أكثر في خطابه من
ترديدها، واستطاع عبرها الانتشار ومنافسة كلمة الوزير، حتّى أنّ الناس
أطلقوا مثلاً على سبيل الدعابة والمرح، قالوا: «إنّ الوزير يتّهم والرئيس
يفهم». ثمّ تتتالى الشخصيّات التي تدخل دفتر القدح المَشعور الذي يحاول
التغلّب على جروحه، ومغالبة انكساراته بالكتابة التي يتّخذها وسيلة للتداوي
والاستشفاء، يحاول أن يرمّم حياته بالكتابة، يتعرّف عن طريقها إلى العالم
المحيط به، يبدأ بالنظر إلى الأمور نظرة مختلفة، يلج عوالم يكتشفها حديثاً،
ينتقم بها ممّن آذوه في الصميم بعدما نغّصوا عليه عيشته..
يُحسن القدح المَشعور الإصغاء، وهو شرط ضروريّ ليُحسن الكتابة والتعبير
عمّا يسمعه ويراه، يقوم بمختلف الحركات التي من شأنها أن تحرّض شخصيّاته
على الكشف والبوح، يتظاهر بأنّه لا يهتمّ بقصصهم، وبأنّه سمع الكثير من
القصص، ولا يكفي دفتر واحد كي يرويها كلّها، بل قد تلزمه مجلّدات بأكملها
كي يتحدّث عمّن يلتقيهم.. يكتشف أنّ أفضل طريقة لدفع الناس إلى الكلام هو
التظاهر بوجود مسافة بينه وبينهم، واصطناع اللامبالاة، كي تجعل الأشياء
تنجلي، ليشعر الأشخاص الذين يسعون للاعتراف بشيء من المهانة، بعدما كانوا
مقتنعين أنّ قصّتهم هي الأكثر فرادة وغرابة وإثارة للدهشة من أيّة قصّة
أخرى، فيرغبون البرهنة على خطورتها.. ينتشر خبر دفتر القدح المشعور بين
روّاد الحانة، يسعى العديد من الأشخاص إليه، يريدون أن يكون لهم مكان في
دفتره، يودّون أن يصبحوا مشاهير، مخمّنين أنّ الشهرة قد تقتصّ لهم من
الأحداث التي تعرّضوا لها، أو أنّ تثبيت وقائع حياتهم كما يروونها قد
يعوّضهم عن الأذى الذي لحق بهم.. يسجّل قصصه ومشاعره من دون ترتيب، أحياناً
ليبعث المتعة في نفس الحلزون العنيد، وفي أحيان أخرى ليمتّع نفسه، ينساق
في العمل وينسى أنّها مهمّة أوكِلت إليه، يشعر بحرّيته وهو يدوّن تلك
القصص..
يبدأ بسوق قصّة الحلزون العنيد، صاحب الحانة، الذي يبقي حانته مفتوحة ليل
نهار، ويلتزم بعمله التزاماً عسكريّاً، ثمّ يحكي قصّة «رجل البامبرز» الذي
طردته زوجته من البيت، واتّهمته بالإجرام، فاعتقلته السلطات وزجّت به في
أقذر سجن في البلاد مدّة سنتين ونصف ذاق خلالها الويلات، سِيم فيها سوء
العذاب، عقاباً له على معارضته أنشطة زوجته التي كانت تترك البيت لأسابيع
لتذهب إلى الجبال برفقة منافق يستغلّها تحت ستار الدين.. ثمّ يسرد قصّة
«موظّف المطبعة»، الذي أقام في فرنسا مدّة، تزوّج خلالها من فرنسيّة بيضاء،
أنجب منها طفلتين، لكنّها خانته مع أقرب المقرّبين إليه، مع ابنه،
واتّهمته بالجنون والإرهاب، لتعتقله السلطات وترميه في مصحّ للمجانين، ثمّ
يرحَّل إلى الكونغو، مع منعه من العودة إلى فرنسا.. ثمّ قصّة «روبينيت»،
المرأة العملاقة التي تتصرّف بغرابة وجلافة، تغلب الجميع في مسابقات
التبوّل التي تتحدّى على أطول مدّة تبوّل، كذلك «المغنّية الصلعاء»، بائعة
السمك والفرّوج، و«مويوكيه»، الذي ادّعى أنّه ساحر، ينافس الساحر «ولا
غلطة»، يحتال على البسطاء والمساكين، يزعم أنّه يكتب لهم التمائم كي تسير
حياتهم على أفضل ما يرام، يسعدهم..
لا يسهو القدح المَشعور عن حكاية قصّة حياته، فهو رجل خمسينيّ، كان
معلّماً في السابق، لكنّه طرد من سلك التعليم لأنّه كان يقوم بتصرّفات
وأفعال لا تليق بالمعلّمين، يرفض الإذعان لأوامر الوزارة التي تنقله إلى
الأدغال، يُطرَد من عمله، تهجره زوجته أنجيليك التي يصف الحياة معها
بالجحيم،، يلازم حانة الدين المسافر، يروي تفاصيل عن مقتل أبيه على يدي
عمّه، كما يروي حكاية موت أمّه، التي وُجدت غريقة على حوافّ نهر تشينوكا..
يصف نفسه بأنّه بقي واقفاً في مهبّ الريح، وأنّه يتكيّف مع مصيبة الفردوس
المفقود.. يوقن باستحالة إصلاحه، وهو يتذكّر تفاصيل اقتياده إلى الساحر
«ولا غلطة» الذي تمادى في الاحتيال على الناس، واستنزافهم.. ولربّما يرمز
الشعار الموصوم به، ذاك الانكسار الذي يكتسح حياة الكونغوليّين جميعهم، كلّ
واحد منهم على طريقته الخاصّة، مع تعميم استحالة الإصلاح والترميم، فجبر
الخواطر يختلف عن جبر البشر المسحوقين المكسورين في قراراتهم ودواخلهم..
على الرغم ممّا يشوب رواية «القدح المشعور» من انتقائيّة جليّة، إلاّ
أنّها تعبّر عن جوانب من معاناة الكونغوليّين المهمّشين في بلدهم، وفي
مهاجرهم أيضاً، من فرنسا إلى الولايات المتّحدة، يُغرِق آلان مابانكو في
محلّيّته التي تكون نقطة قوّة في الرواية، يتنحّى جانباً ليترك الأحداث
تتتالى وفق سرد إيقاعيّ متصاعد، ينقل آلام الكونغوليّينوأحلامهم، بشيء من
الطرافة التي تتخلّل حياتهم، وكثير من المرارة التي تتلفّح بها الشخصيّات،
التي تزيّن ببؤسها وتهميشها ذلك الواقع المحلّي المعروض في الرواية..
في هذه الرواية يقدّم مابانكو أنواعاً مختلفة من التهميش، يبرز كيفيّة
تفتّت الخريطة الديمغرافيّة جرّاء الحروب الأهليّة التي تجتاح البلاد،
والنتائج الكارثيّة لتسلّط العسكر عليها، كما يبرز التدمير الذاتيّ الذي لا
يبارح عوالم المُهمّشين – المتهامشين - فيما بينهم، الهامشيّين في نظر
غيرهم، حيث يسعى العبد إلى التماهي مع سيّده، للانتقام من ماضيه وحاضره
ومستقبله، وأشباهه أيضاً.. وهنا لقاء العقدة والمنشار..
الجمعة أكتوبر 28, 2011 1:26 pm من طرف الكرخ