هذه
الضجة المؤسفة، والتى شغل السياسيون والمثقفون أنفسهم وشغلونا بها إلى
درجة الإملال، حتى أنك ما أن تفتح التليفزيون، على أية قناة إلا وتسمع
الكلام نفسه، هؤلاء الذين يسوقون الحجج لتأييد الدستور أولا، وتلك التى
يسوقها أنصار الانتخابات أولا، هى تعكس حقيقة مؤسفة، لا ينتبه إليها
الجميع، وهى مربط الفرس الحقيقى...
الحجة الظاهرة لأنصار الدستور
أولا، هى الخوف من أن يفرض تيار معين نفسه ( يقولون هذا وعلى القارئ أن
يخمن من هم ممثلو هذا التيار، ألا وهم الإخوان المسلمون ) على مجلس الشعب،
وبالتالى على اللجنة التى سوف تشكل الدستور، مما يعنى أنهم سوف يحددون
توجه مصر كلها لسنوات طويلة.
وعندما تسأل : ولم توقع فوز الإخوان
بنسبة تتيح فرصة السيطرة والتوجيه؟ يقولون أنهم منظمون، بينما الأحزاب
الأخرى – خاصة الجديد منها – الوقت أمامها قصير، لا يتيح لها فرص الترويج
السياسى لها بين جموع الناس،والتواجد الحقيقى.
ومع أنى ممن
يقتنعون بضرورة توافر " الخريطة الفكرية والقانونية والسياسية " التى
يمثلها الدستور، قبل أى خطوة، لكن أجد نفسى آسفا للمنطق الذى يسوقه أنصار
هذا الاتجاه، فالإخوان المسلمون كانوا حتى آخر يناير 2011 ممنوعون تماما ،
لا من أى نشاط سياسى، بل من أى نشاط، وقياداتهم كانت داخل السجون
والمعتقلات، ومعروف أن أى إنسان، فى أى موقع ، إذا شاعت عنه، حقا أو
باطلا، ميول أو نزعات إخوانية، لابد من إزاحته فورا، وهذا لم يكن قائما
بالنسبة لسائر المصريين غير الإخوانيين، فكيف بالله استطاع الإخوان فى هذه
الشهور الخمس أو الست أن يصبحوا الأكثر تنظيما، والأكثر قوة، مع أن الفترة
التى جدت منذ اندلاع ثورة يناير، مدتها واحدة للجميع، بل ولا مبرر قانونى
لوجود " جماعة " الإخوان، بينما هذا المبرر متوافر منذ زمن لباقى الفئات
والقوى السياسية؟
التفكير المنطقى، والمنهج العلمى يقتضيان منا أن
نبحث عن " سر القوة " هنا، وسر الضعف هناك، بدلا من هذا المنطق المعوج،
الذى يمكن أن يبرز الصورة الحقيقية، أن العيب الحقيقى ليس فى قوة الإخوان،
وإنما فى ضعف غيرهم، وبالتالى لابد أن يكون هذا هو موضوع التفكير والبحث.
انظر إلى عينة من المواقف المختلفة التى شهدها الحال المصرى منذ عدة شهور..
صحيح أن بعضها سياسى، يتعلق بمحاكمات، وبنظام، أو ما إلى هذا وذاك، لكن
الكثير منها مما يمكن وصفه " بالمجتمعى "..أزمات سكن، تعليم، إمكانات
معيشية، بطالة، مستويات أجور..وما إلى هذا وذاك مما يشغل ملايين الناس
البسطاء، الذين لا تشغلهم هذه المناظرات التليفزيونية ، التى تصور مشكلات
النخب المثقفة، والتى قد لا تزيد عن بضعة عشرات الألوف على أكثر تقدير،
بينما ملايين المصريين تشغلهم حياتهم المعيشية.
فى بؤر التوتر
الطائفى التى حدثت فى إطفيح، وفى امبابة، وفى غيرهما..هل لمس أحد تحركا
إيجابيا، من هذا الفريق أو ذاك، من الفرق والطوائف السياسية ليهدئ أولا،
ويبحث ثانيا ، ويخطط ويقترح ثالثا؟
الإجابة هى بالنفى...
ملايين المصريين يشكون مر الشكوى من مرض تعليمى عضال يلتهم ما فى جيوبهم،
نسميه الدروس الخصوصية، فهل فكر هذا الفريق أو ذاك من الفرق السياسية، فى
أن يستغل بعض أفراده من المتخصصين فى أن يقدم دروسا قليلة الثمن، يفتح بها
باب الأمل لدى ألوف المصريين ،وخاصة " الغلابة " الذين لا يقدرون على
تكاليف الدروس الخصوصية؟
الإجابة هى بالنفى...
إذا كانت
مصر مقبلة على عهد سوف تتاح فيه الفرص لكل المصريين أن يدلوا برأيهم، كى
يختاروا نوابهم، ورئيسهم ودستورهم بغير تزوير، بحيث تصور النتائج المتوقعة
اختيارات المصريين الحقيقية، ألا يدور فى أذهان لاعبى السياسة المحدثين،
كيف يتأتى لمن حرم نعمة القراءة والكتابة أن يميز تمييزا حقيقيا، بين
المرشحين؟ إن أوربا، فى مطلع العصور الحديثة، ومنذ ما لا يقل عن قرنين من
الزمان، واجهت هذا السؤال، وتوصلت إلى أن لا ديمقراطية حقيقية، من غير
توفير التعليم لكل مواطن.
إن مصر بها ما لا يقل عن خمس وعشرين
مليونا لا يعرفون القراءة والكتابة، فهل فكرت القوى السياسية، سواء
الجديدة أو القديمة، فى أن تنظم حملات تطوعية من بين أنصارها يجوبون مواقع
شعبية مختلفة لتعليم الأميين القراءة والكتابة؟
وكم يعانى مئات
الألوف من الفقراء فى مصر من سوء الحال الصحى، وانتشار بعض الأمراض، ولا
يجدون سبيلهم المنشود، فى ظل الإمكانات الطبية القائمة، فلِم لا يفكر فريق
من فرق السياسة المصرية المعاصرة، فى تكليف بعض أعضائه وأنصاره، من
الأطباء فى أن يتطوعوا فى شكل فرق، من وقت لآخر ، لتقديم خدمة صحية إلى
مثل هؤلاء الفقراء المرضى؟
بعض القوى الحزبية الجديدة، تقف وراءها
قوى مالية ملحوظة ضخمة، فلِم لا يفكر مثل هؤلاء فى القيام بتنفيذ خطة
إقامة مشروعات اقتصادية صغيرة، يمكن أن تستوعب بضع آلاف من العاطلين،
وخاصة خريجى الجامعات المتسكعين فى الطرق، وعلى النواصى، انتهى بهم طريق
طويل من الكفاح التعليمى، إلى قارعة الطريق، لا يكسبون قرشا يسدون به
رمقهم الشخصى، فما بالك فى الطموح إلى الزواج والحصول على مسكن الزوجية،
فالقدرة على الإنفاق على الأسرة الجديدة؟
عندما يحدث هذا وذاك مما
سقنا من أمثلة، وهناك غيرها كثير، سيهرع الناس زرافات ووحدانا إلى القوة
السياسية الفاعلة على هذا الطريق، ويكون التأييد عن حب واقتناع وإيمان، لا
بناء على علاقات شخصية وقرابية ومصلحية، ومجرد دعايات فجة، حتى ولو أفردوا
لها صفحات كاملة بآلاف الجنيهات، فى الصحف اليومية والأسبوعية، وشاشات
التليفزيون
سيقول البعض أن هذه " شئون اجتماعية "، بينما هم
يلعبون سياسة، ونبادر إلى التأكيد على أن السياسة ليست مجرد الانشغال
بالمنظمات الدولية والإقليمية، وشكل الحكم، ووضع البرلمان، وما شابه هذا
وذاك...ارجعوا إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : كلكم راع، وكلكم
مسئول عن رعيته...هذا دستور السياسة الحقيقية..هذه الفلسفة النموذجية
للسياسة.
كانت الإرسالات التبشيرية، تجوب مواقع البؤس والفقر فى
الدول الإفريقية والآسيوية، ولم يقدموا للناس مواعظ وخطبا عن عظمة المسيح،
والمسيحية، وإنما كان كثير من أعضاء هذه الإرساليات، أطباء، ومهندسين ،
واقتصاديين، فكان الأطباء، مثلا، يجوبون المناطق الفقيرة يعالجون الناس،
مجانا ، فيتساءل الناس بالضرورة : لم يفعلون هذا لنا ؟ وتكون الإجابة : أن
المسيح يأمر أتباعه بمحبة الناس ومساعدتهم، وتكون النتيجة أن يقبل هؤلاء
الفقراء على المسيحية.
هذه هى السياسة الحقيقية..العمل على طريق
مصلحة الناس، وسد احتياجاتهم، ومواجهة مشكلاتهم..وهذا هو العمل الحقيقى
على أرض " حقوق الإنسان ".
ومن هنا، فلو تأجلت الانتخابا عاما،
فسوف تظل حال الأحزاب المصرية ضعيفة، لأنها أحزاب تفكر بطريقة " نخبوية "،
إذا صح هذا التعبير، قد تزيد بضع مئات، لكنها لن تتغلغل فى قلوب الناس
وعقولهم.
وكان من مظاهر عبقرية الراحل حسن البنا، أنه وجه الإخوان
إلى اقتحام مجالات الحياة المختلفة: تكوين شركات اقتصادية، إصدار صحف
ومجلات، فتح مدارس، ممارسة أنشطة رياضية، فتح مستوصفات طبية لتقديم خدمة
صحية بسعر زهيد..وهكذا.
ولا زلت أذكر، وهو ما رويته أكثر من مرة،
أننى مع مجموعة من الأصدقاء، كنا متشيعين لزعيم مصر الفتاة الراحل أحمد
حسن، ففتحنا أوائل عام 1953، ونحن لم نزل بعد فى المدرسة الثانوية، شعبة
فى بلدتنا : المرج، وكنا نملأ جدران القرية بشعارات عن الاشتراكية والعدل
الاجتماعى والتنديد بالرأسمالية، والمناداة بمناصر الفقراء ، ومع ذلك ، لم
نلحظ إقبالا علينا، وفى الوقت نفسه ، لاحظنا إقبالا منقطع النظير على شعبة
الإخوان.
بطبيعة الحال فقد غاظنا هذا، وكان لابد من مواجهته، فكيف كانت المواجهة من قِبَلنا نحن التلاميذ الصغار ، محدثى سياسة؟
لاحظنا أن عضوا من الإخوان تخرج من كلية الطب، فأجّروا له غرفة، وفتحوا
بها مستوصفا، وتذكرة الكشف لا تزيد عن خمسة قروش، فتقاطر مئات ، دون أن
يكونوا إخوانا، لكنهم بالضرورة أصبحوا أنصارا!
ولاحظنا أن شباب
الإخوان ينظمون طابورا رياضيا بعد صلاة الفجر، يدعون فيه من يريد، دون
ضرورة أن يكون عضوا... كما كانوا ينظمون رحلات، لكل من يريد...إلى غير هذا
وذاك من مناشط وخدمات، أثبتوا بها أنهم يعملون لصالح الناس، فتقاطر عليهم
الناس.
من حسن الحظ أننا – صغارا - لم نكن " مُنظرين سياسيين " ففكرنا فى منافسة الإخوان بالمنهج نفسه، كيف ؟
لم تكن بالبلدة كهرباء، فمررنا على بعض الحارات، نقترح أن يشترك أهل
الحارة فى شراء فانوس كبير، بحيث لا تصل قيمة الاشتراك أكثر من خمسة قروش،
ويتم تعليقه على جدران بيت وسط الحارة، ويتعهد كل بيت، بتزويد الفانوس
بالكيروسين، بالدور..
كدنا أن نقتحم قلوب الناس، بمثل هذه الخدمة
التى كانت جليلة للغاية بمقاييس هذا الزمان، لكن من سوء حظنا، أن صدر قرار
بحل الأحزاب، لكن يظل النهج صالح الفاعلية، على مر الزمان...
استفيدوا من هذا المنطق الذى فكر به تلاميذ صغار منذ أكثر من نصف قرن،
وسوف تجدون أنفسكم لا تقلون قوة عن الإخوان، وفى ظلال مثل هذا التنافس
"العملى"، سوف يكسب المصريون، وسوف تكسب مصر حقا،وسوف تكسب القوى الذكية
التى وتعمل وفقا لهذا المنطق، فتعمل كثيرا وتتحدث قليلا!!