وُلد
هنري ميشونيك Henri Meschonnic عام 1932 في باريس، لأبوين يهوديّين
روسيّين. قضّى فترة الحرب العالميّة الثانية، وهو طفل، مختفيا. وشارك
لمدّة ثمانية أشهر في حرب الجزائر عام 1960. وقد تمثّل هذه التجربة في
قصائده الأولى "قصائد الجزائر" المنشورة في مجلّة "أوروبا" عام 1962. غير
أنّ شهرته ترجع إلى بحوثه في اللغة والشعر والإيقاع. وهو لغويّ وشاعر
وناقد. درّس بجامعة ليل من 1963 إلى 1968 ثمّ بجامعة باريس من1969 إلى
1997. تعلّم العبريّة أثناء حرب الجزائر كما يذكر في هذا الحوار، ثمّ
تعهّدها بعد ذلك، فترجم التوراة وافترض على "الكتاب المقدّس" افتراضاته
الخاصّة وهو الباحث السجاليّ كما يقول عن نفسه، ممّا كان له أثر كبير في
نظريّته اللغويّة وطروحه الشعريّة وفي صياغة مفهوم خاصّ للإيقاع باعتباره
تنظيما لحركة الكلام في الكتابة، ولايزال الباحثون يستأنسون بمصنّفه
الشهير"في نقد الإيقاع" الصادر عام 1982، وهو الذي يعتبر الإيقاع
تاريخانيّة الكتابة ـ القراءة التي تحدّ القصيد وتصنع مزيّته، بل هي تمتدّ
لتتّسع لأعمال نثريّة أدبيّة وفلسفيّة؛ ينهض لها سند من العبريّة
التوراتيّة التي لم تعرف التعارض الشائع سواء عند القدماء أو المعاصرين
بين الشعر/النثر.
حصد ميشونيك عديد الجوائز(جائزة ماكس جاكوب عام1972 وجائزة مالارمي
عام1986 وجائزة الأدب الفرنكوفوني 2006 والجائزة العالميّة الكبرى
للشعر2007…) ـ مات في 08 أفريل 2009. والحوار الذي ترجمنا هذا المقتطف
منه، نـُشر قبل موته بشهرين.(المترجم).
لنتحدّث في الشعر.لنبدأ من هنا. إنّ التجربة الشعريّة، بالنسبة إليّ، لا تنفصل عن تجربة الحياة، يعني
ـ وهذا ما صرفت سنين في فهمه ـ أنّ ما نعدّه شعرا، إنّما هو تحويل شكل
لغويّ إلى شكل من أشكال الحياة، وتحويل شكلٍ من أشكال الحياة إلى شكل
لغويّ. وبوجه آخر وخلافا لما تعلّمنا الجامعة، وتعيده، ويعيده الثقافيّ
بمعنى مجموع الآراء القارّة، فإنّه لا تقابل عندي، بين اللغة العادية
واللغة الشعريّة. هاتان العبارتان، لغة عادية ولغة شعريّة، وهمان وفكرتان
مجرّدتان خلو من المعنى. لهذا أفضّل أن أتحدّث عن القصيد قبل أن أتحدّث عن
الشعر. ذلك أنّ كلمة شعر ـ وهذا ما خصّصت له كتابا وسمته بـ"احتفالا
بالشعر" ـ تحمل خمسة أو ستّة معان مختلفة. وعليه فنحن لا ندري أنّنا عندما
نستعمل هذه الكلمة "شعر"، نقول خمسة أو ستّة أشياء في ذات الآن؛ وهذا خليط
كريه[ يتعذّر سماعه]، في حين أنّني إذا تحدّثت عن القصيدة أو القصائد
فإنّما أتحدّث عن شيء محسوس[عينيّ]. إنّ الشعر كلّية، ويمكن أن يكون أشياء
كثيرة: معنى الشعر الأكثر حسّية هو ما أسمّيه "كمّية" [مستندات
توثيق]:الشعر الأسباني، الشعر الفرنسي، الشعر الإيطالي، شعر القرن السادس
عشر، شعر القرن العشرين؛ فهو مجموع القصائد التي كُتبتْ. وبعبارة أخرى
فإنّ الشعر هو قبل كلّ شيء ما تصنعه القصائد، إنّه فـَعاليّة القصائد.
ولكنّ هذا يمكن أن يكون "تذويتا" وعبادة، ومثال ذلك النظر إلى شعر الماضي.
فإذا كان القصيد الذي يُكتب ينظر إلى شعر الماضي، فهو ليس بالقصيد وإنّما
هو تشعير. وعليه فالقصيد "مغشوش" بالمعنى الذي نكون فيه مغشوشين عندما
نخادع أنفسنا. المشكلة عندي هي ما يصنعُ قصيدا، ما نسمّيه قصيدا؛ وذلك
لتمييزه عن الذي يفعل كلّ شيء ليشبه قصيدا. وهذا [إنّما يتسنـّى] خاصّة
عندما نـُـنـْـعمُ النظر في الشعر الذي نـُعجب به ونعرفه. وهذا يعني أنّ
حبّ الشعر يمكن أن يكون موت الشعر، على نحو ما يكون حبّ الفنّ موت الفنّ.
إنّ مشكلة القصيد هي أن نخلق الشعر ونعيد خلقه. ماذا تعني كلمة شعر؟ أقدّر
أنّ ذلك يجري خارج كلّ التعريفات الثقافيّة والشكليّة التي تقوم على الخلط
بين الشعر وأبيات الشعر: إنّ مردّ البيت إلى الوزن، فهو تقنين شكليّ. وليس
ثمّة أكثر سوءا من الخلط بين الأبيات والشعر. لقد كان فيكتور هيغو يعرف
هذا، وهو القائل: "لا أحبّ بيت الشعر، إنّما أحبّ الشعر"، وقبله قال ذلك
أرسطو أيضا. ما أسمّيه قصيدا هو شيء ما يغيّر الحياة ويغيّر اللغة في آن،
انطلاقا ممّا أعيشه.
يكتشف الشاعر أنّه لا يستطيع فعل شيء آخر. يجد نفسه إزاء شيء مربك، ويصنع القصيدة في نفسه دون أن يدري كيف. عجيب ما تقوله، فقد كتبت أخيرا نصّا قصيرا فكريّا لمجلّة Faire part
صدرت منذ أيّام وقلت في هذا النصّ ما دار بخلدي عفوا وأنا أكتب: "أن
نتعلّم حتّى لا نعرف أبدا مانفعله". كتبت هذا دون أن أفكّر في الأمر، ولم
يكن لديّ أيّة فكرة عمّا سأكتب بعد ذلك؛ ثمّ كتبت ثلاث صفحات لأتعهّد هذه
الفكرة التي فاجأتني أنا أيضا، وأدرك أنّ قصيدا ما يكشف لي مجهولي الخاصّ.
ومن ثمّة كنت ملزما أن أقول إنّ القصيد هو الذي يصنعني أكثر ممّا أصنع
القصيد. لأنّي لا أعرف ماذا سأكتب، أجدني في حال غريبة قبل كتابة القصيد،
ولا أعرف بتاتا ماذا سأقول؛ ثمّ يأتي دون تفكير. أفكّر بعد ذلك طبعا.
غالبا ما تتحدّث عن
هذه العلاقة بين صناعة القصيد وتشويش عالم ما، في ذات الآن، إذن هو ضرب من
الفعل الأخلاقيّ والسيّاسيّ، في آن: لكن كيف يمكن أن نفعل عندما لا نعرف
ما نحن بصدد إنجازه؟ ومع ذلك فإنّ القصيد فـُهِمَ أحيانا كأنّه مخاطرة؛
كما لو أنّ هذه العلاقة الأخلاقيّة والسياسيّة قائمة فعلا، بما أنّ اعداء
الشعر يريدون نفيها. أظنّ أنّ في القصيد مجازفة، بما أنّنا في مواجهة شيء ما لا نفهمه، لا
نعرفه وهو مجهوله الخاصّ. وبما أنّ ما نكتشفه، هو في المحصّلة الأخيرة، ما
نكونه نحن، ما نصيرُه، فإنّ القصيد بالنسبة إليّ فعل أخلاقيّ. هو فعل يشرك
الذات، هو اكتشاف للذات، مجازفة من الذات، وهو في الآن نفسه الفعل الذي
تنبني به الذات.
الذات، أيّة ذات؟ وهذا يدفع بي إلى نوع من النقد لما هو ادّعاء فارغ
[يزعم صاحبه أنّه يجد جوابا لكلّ شيء] في هذه الفترة والذي نسمّيه مسألة
الذات. ذوات، أعرف منها "دَزينة"، ولا أحد فيهم كتب قصيدا. أظنّ أنّ هذا
ممّا ينبغي إعادته، بما أنّنا تنحدّث غالبا إلى طرشان، ولأنّ العالم
الثقافيّ يجعل المرء أصمّ. لماذا؟ لأنّه مصنوع من مسلّمات؛ وما يهيمن على
فكر اللغة خاصّة هو فصام (شيزوفرينيا). إنّها العلامة، أي الثنائيّة
الداخليّة بين ما هو صوت وما هو معنى، بين الشكل والمضمون. أنا أسمّي هذا
فـُصَاماً. ولكن ليس معترفا به كما هو، ومن ثمّة فالأمر يتعلّق بالمتقطّع،
أي بالتغاير الجذريّ بين العنصرين الذين يكوّنان معا اللغة، يكوّنان ما
نسمّيه معنى، كلمات، بـَيْد أنّها ليست كلمات وإنّما هي جمل، إنّه الخطاب
وليس اللغة. ثمّة إذن نقد لا بدّ منه للمفاهيم السائدة في اللغة، يفضي
أيضا إلى طرح مشكلة الترجمة. فإذا كنت تترجم رواية لبلزاك أو فصلا لهيجل،
فإنّك تترجم قصيدا، لأنّي أسمّي قصيدا كلّ ما يغيّر الفكر، وهذا لا علاقة
له بتعريفات الشعرالشكليّة: السونيتة(قصيدة من أربعة عشر بيتا) شكل البيت،
إلخ… أنا أعرّف القصيد من حيث هو شكل حياة يغيّر اللغة وشكل لغويّ يغيّر
شكلا من أشكال الحياة. الروايات العظيمة، هي روايات لأنّها تحمل قصيدا في
مطاويها. الآثار الفلسفيّة العظيمة يجري فيها القصيد هي أيضا. وإذ أعرّف
الشعر على هذا النحو، فهذا يفضي بي حتما إلى نقد التعريفات الشكليّة.
أهذه العلاقة بين اللغة والحياة هي أيضا صلة انشدادك للتوراة وعملك فيها أم هو شيء آخر؟ لماذا التوراة؟ لويس يطرح أسئلة مثل الأطفال… الأسئلة الأكثر سذاجة هي الأصعب… سأحاول
أن أجيب. بغرابة، في حدود ما أستطيع أن أعيه، ثمّة تفسيران على الأقلّ:
أحدهما أنّني تعلّمت حقّا العبريّة التوراتيّة عندما كنت جنديّا في
الجزائر. كان في خنيفي(نسيج من كتّان غليظ) كتاب نحو للعبريّة التوراتيّة،
بالأنقليزيّة، وهناك بدأت فعلا هذه الدراسة، وأنا في السابعة والعشرين من
عمري. أدركت، وهذا ما كان ظاهرا للعيان أنّ العبريّة التوراتيّة،
وبالأمثلة التي كنت أقرِؤها، لا علاقة لها البتـّة مع ما كنت أستطيع
قراءته في الترجمات، وكانت هذه صدمة أوّليّة… كانت الحرب قد وضعت أوزارها.
ماذا كنت فعلت أنا لأكون يهوديّا؟ لم أكن مسؤولا عن ذلك! ماذا كان يعني
ذلك عندي؟ لم يكن لديّ أيّة ثقافة دينيّة. أعتقد أنّني أخذت في تعلّم
العبريّة عسى أن أضفيَ معنى على شيء ما لا تملكه، بالنسبة إليّ،
اليهوديّة. ومثلما يقول "هين": "اليهوديّة ليست دينا إنّما هي شقاء". لا
أدري إن كنت توصّلت إلى معنى ولكنّ هذا لم يكن له بالتأكيد أيّة علاقة
بالدين. لماذا التوراة؟ بعد الخدمة العسكريّة، وقعت وأنا أبحث عن بعض
الكتب، على مصنـّفات في النحو وفي إيقاعات العبريّة التوراتيّة، كتب فنّية
وكان هذا افتتانا ثانيا. أعتقد أنّ أهميّة الإيقاع الأساسيّة في اللغة،
بالنسبة إليّ أنا الذي يحاول أن يفكّر في اللغة، تأتي من التوراة. هذا
يأتي أيضا من أشياء أخرى استطعت أن أفهمها خلال تعلّمي أشياء لغويّة، ولا
علاقة لهذا بالدين.
في الأصل، لم تكن أسرتك متدّينة، لم تكن هناك تربية يهوديّة، ولا احتفالات؟ فعلا، لا، فبعد الحرب، كان الشيء الوحيد الذي يفعله والداي هو الذهاب
إلى البيعة في عيد الغفران، ولكنّي أعتقد أنّهما كانا يفعلان ذلك للقاء
الأصدقاء. كان سلوكا اجتماعيّا. كانا يصومان أيضا، وعندما كنت في سنّ
المراهقة، كنت أشاركهما الصّوم، بَيْدَ أنّ هذا كان له معنى اجتماعيّ أكثر
منه دينيّا…
لكن التفكير في
الأخلاقي والسياسي انطلاقا من القصيد، هو التفكير انطلاقا من الناقص، إنّه
فكر تحسّسيّ، بما أنّك تقول بأنّ القصيد يجَلّي ما لا نعرفه بعد.. ألا
يكون الأخلاقيّ موضع سؤال؟ طبعا الأخلاقيّ موضع سؤال. ولكنّ التفكير في الأخلاقيّ والسياسيّ
انطلاقا من القصيد، هو تفكير في تفاعلهما، في تغيّر كلّ منهما بواسطة
الآخر، فيما هما في ثقافتنا الأخلاقيّة والسياسيّة منفصلان، أشياء اللغة
منفصلة، وكذلك أشياء الفنّ. ما أقحمه أنا وأريد إظهاره أنّ القصيد وحده،
على نحو ما أفهمه، يستطيع أن يوضّح التفاعل بين اللغة والفنّ والأخلاقي
والسياسي، ويمكّن من التفكير فيه.
وفي التوراة؟ التوراة في هذا المستوى نصّ مثل أيّ نصّ، بخواصّه، ولكن هذا يصحّ على
قصيد لـ"ليوباردي" و"كيتس" و"فيكتور هيغو"، أو لأيّ واحد آخر. يتعلّق
الأمر بمبدأ القصيد، لا بهذا القصيد أو ذاك. التوراة نصّ له خصوصيّته،
الشعريّة والثقافيّة بالتأكيد، لسوء حظه، لأنّه نصّ حمّال لديانات كثيرة.
ولكنّ هذا مشكل الدّيني والدّيانات، تلك التي لا ينبغي الخلط بينها وبين
العلاقات [التضمينيّة] الخاصّة بالقصيد. لتكن التوراة نصّا دينيّا، أنا
أظنّ أنّ هذا من سوء حظها، ولكنّ الأمر هكذا تاريخيّا، ولا نستطيع حياله
شيئا. هذا جزء من النصّ، من هذه الكتلة من النصوص، وليس هذا ما يعنيني
أكثر، وإنّما هي نقظة انطلاق رائعة لتجديد فكر اللغة(والترجمة إذاً) ومن
ثمّ فكر المجتمع. بواسطة نظريّة الإيقاع التي استخلصتها منها[التوراة]، من
حيث هي تنظيم لحركة الكلام الذي تؤدّيه ذات تقوم بتوزيع كلّ نظريّة اللغة
لغة القصيد. ومن هنا، فإنّ نظريّة الترجمة وتطبيقها هي التي تتغيّر، لكي
لا نقتصر على ترجمة ثنائيّة العلامة، وإنّما ننعطف على محتوى القصيد.