خطر تذويب الفرد في الأمّة
ولكن كيف يمكنك التوفيق بين التنزيل الصالح لكل زمان ومكان وتاريخيّة النص التي تفرضها علوم الأديان؟ بتنزيل ((situer التنزيل في التاريخ الذي مارسه التنزيل نفسه على نفسه.
فلا نكن ملكيين أكثر من الملك. فقد نسخ القرآن مئات الآيات التي تقادمت،
أي فقدت صلاحية تطبيقها على الوقائع الجديدة وعوّضها بآيات "خَيْرٍ
مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا" كما تقول الآية. وبعد وفاة نبيّ الإسلام نَسَخ
أبو بكر وعمر وعليّ ومَعاذ بعض الآيات، كما نسخ الفقهاء بعض الآيات الأخرى
والأحاديث، أَخُصّ بالذكر منهم أبا أحمد الونشريسي والفقيهين الطاهر
الحدّاد وحسن عبد الله الترابي مثلا.
ولكن هل الآيات الروحية كالصلاة مثلا ليست خاضعة لضرورات تنزيلها في التاريخ الذي يسمح بتعديلها ونسخها؟ الآيات التي نسخها القرآن كانت، باستثناء وحيد على ما أظنّ والذي هو نسخ
الاتّجاه إلى القدس في الصلاة بعد فشل تجربة «الصحيفة» التي حاول بها محمد
دمج اليهود في «أمّة المؤمنين» التي دشّنها، وتعويضه بالاتّجاه إلى
الكعبة، كانت آيات زمنيّة أي تتعلّق بشؤون دنيويّة مُتغيّرة. لكن لا بدّ
من إصلاح بعض العبادات كالحجّ والصيام. شُرب كأس ماء كلّ نصف ساعة هو أمر
طبّيّ مُلزم لسلامة الكِليتين والبروستات والجهاز الهضمي. فكيف يمكن
الإمساك عن شرب ولو قطرة ماء واحدة طوال النهار خاصة في الصيف؟ يهدف
الإصلاح الديني أيضا إلى تطهير الإسلام من العنف الشرعيّ حدودا أو جهادا،
ومن إقصاء المرأة وغير المسلم من حقوق المواطنة الكاملة. كما ينبغي أيضا
تطهيره من العنف ضدّ الذات، أي عقاب الذات كتعبير عن المازوشية الأخلاقية
التي هي الشعور الساحق بالذنب الذي لا مبرّر موضوعيا له. مثل بعض شعائر
الحجّ كرمي الجمار التي تُسفر في كلّ موسم عن مذبحة من تدوسهم أقدام
الحجيج المتحمسين لرجم الشياطين المُقيّدة أمامهم، وهي تعبير صارخ عن هذا
الشعور العصابي بالذنب الذي يتمّ تنفيسه في الشياطين المقيّدة. تنفيس
المشاعر المكبوتة صحّيّ. لكنّ الثمن اليوم باهظ. من الضروريّ أيضا إعادة
النظر في المحرّمات الغذائية غير المبرّرة طبّيا، وإلغاء العادات الوحشية
مثل ختان البنات والذكور الذي يعلّمنا تاريخ الأديان المقارن أنّه طقس
فرعونيّ. الصحابة لم يختنوا بعد إسلامهم ومحمّد لم يولد مختونا كما تزعم
الأسطورة.
ما هي وسيلة التخلص من هذه العادات الفرعونية؟ أوّلا بمنعها قانونا، وثانيا بتوظيف الإعلام والتعليم في إعادة تثقيف
الوعي الجمعي بقيم الحضارة الإنسانية واللاعنف ضدّ الذات وضدّ الآخر.
البعض لا يعترف بالنسخ في القرآن مُؤّولا له بأنه تعميم وتخصيص؟ إنكار النسخ متأخّر جدّا وكان نتيجة للجدل الدينيّ مع اليهود والنصارى
الذين استغربوا أن يُغيّر الله العليم رأيه من لحظة إلى أخرى ممّا أحرج
الفقهاء والمتكلمين فلجؤوا إلى الهذيان، أي إنكار الواقع le déni de
réalité أي إنكار النسخ ضدّا على القرآن نفسه «وما ننسخ من آية أو ننسها
نأت بخير منها أو مثلها». القرآن كان ينسخ نفسه لسببين، إمّا لتغّير الوضع
بعد نزول الآية المنسوخة أو بطلب من الصحابة. يقول البخاري : "نزل القرآن
بطلب من الصحابة" وأُضيف ونُسخ أيضا بطلب منهم. مثلا، نسخ الآية 65 من
سورة الأنفال : "… إن يكن منكم عشرون صابرون يَغلبوا مائتين وإن يكن منكم
مائة يغلبوا ألفًا من الذين كفروا…". يقول لنا المفسّرون إنّ المسلمين
استعظموا هذه الآية وطالبوا النبيّ بنسخها فنُسِخت فورًا بالآية التالية
لها : "الآن خفّف الله عنكم وعلِم أنّ فيكم ضُعفًا فإن يكن منكم مائة
صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين…" (الأنفال، 66).
وهكذا نُسخ ميزان القوّة الذي أقرّته الآية 65، أي مقاتل مسلم في مقابل
عشرة مقاتلين مشركين بميزان قوّة جديد أكثر واقعية أتت به الآية التالية
لها مقاتل واحد في مواجهة اثنين. هذه هي القراءة التاريخية للنّص التي
ينبغي أن تقدّمها المؤسّسة المدرسية لأجيالنا الطالعة لتتشرّب تنزيل
التنزيل في التاريخ كما فعل أبو بكر عندما نسخ حقَّ "المؤلّفة قلوبهم"،
وكما فعل عمر وعليّ ومعاذ عندما نسخوا آية الفيء. وكما نسخ الفقهاء الآية
282 من سورة البقرة : "إذا تداينتم بديْن إلى أجل مُسمّى فاكتبوه". كما
نسخ الفقيه الونشريسي (القرن 15) حديث تحريم الزكاة على آل البيت. كما نسخ
الشيخ الطاهر الحداد تعدّد الزوجات واللامساواة في الإرث بين الذكر
والأنثى في كتابه "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" (1930). وكما نسخ الشيح
حسن الترابي سنة 2006 اللامساواة في الشهادة والميراث بين الذكر والأنثى
وآية "سدرة المنتهى" التي قال إنّها لا وجود لها، وأعاد في سنة 2009 نسخ
الآية التي تحرّم على المسلمة الزواج من غير المسلم معترفا للمسلمة بالحقّ
في الزواج من اليهوديّ والمسيحيّ والوثنيّ السوداني.
ترى
أن جماعات الفتاوى كما في المغرب أو النهي عن المنكر في السعودية تنطلق من
اعتبار كلّ مسلم مسؤولا عن صحّة دين أيّ مسلم آخر، مسؤولية عمّا تسمّيه
أنت تذويب الفرد في الجماعة؟ بكلّ تأكيد،
بالممارسة الجماعية التي تُذوّب الفرد في كلّ يتعالى عليه كالقبيلة
والأمّة حتى لا يوفّر مجالا خاصا به للتأمّل الروحيّ واختيار الشعائر التي
تناسبه دون غيرها التي تفرضها عليه الجماعة. مثلا في كرة القدم التي ترمز
لروح القطيع وللمنافسة بين فريقين أو أمّتين تنفجر الانفعالات القبلية
البدائية الصاخبة بين مؤيّدي الفريقين المتنافسين. لكنّ ردود الفعل
البدائية هذه لا تظهر في التنس أو الملاكمة. لأنّ المنافسة ليست بين
قبيلتين بل بين فردين، في السعودية مثلا تتجسّس الميليشيا الدينيّة على
الناس في كلّ مكان لتنهال عليهم بالضرب إذا وجدوهم متلبّسين بـ"البدع".
ورغم عقم هذا القمع الذي نفّر الشباب السعوديّ من الفرائض الدينية وأحيانا
من الدين نفسه، فإنّهم مصرّون عليه بعناد عصابي. تذويب الفرد في الأمّة هو
استمرار لتقاليد القبيلة في الجاهلية التي كانت تصادر حرية كلّ فرد من
القبيلة لحساب روح القطيع القبلية، لحساب تذويب الفرد في القبيلة ليموت من
أجلها في حروبها الحمقاء مثل أخذ الثأر حتى لناقة جرباء.
تُلح
منذ سنوات على ضرورة تشجيع استقلال الفرد وعدم تذويب الفرد في الأمة الذي
اعتبرته وصفة للإرهاب. فهل تستطيع تلخيص الإجراءات العملية المساعدة على
عدم تذويب الفرد في الأمّة؟ أمّ الإجراءات هي
إصلاح الإسلام الذي يؤدّي إلى باقي الإجراءات مثل تشجيع ميلاد الفرد
والتديّن الفرديّ وحصر الدين في المجال الخاص - عملا بالآية الكريمة "يا
أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضرّكم من ضلّ إذا اهتديتم" - وتشجيع
الاختلاط في المدرسة والنادي والسينما ووسائل النقل وفي كل مظاهر الحياة
الاجتماعية، وتشجيع التعارف قبل الزواج والعلاقات الحرّة ومنع الزواج
المفروض وزواج الأطفال، وإدخال التربية الجنسية في جميع المدارس منذ
الإعدادي، وفرض تحديد النسل وإعطاء الحقّ في الإجهاض اعترافا للمرأة بحرية
تصرّفها في جسدها ونزعًا لفتيل قنبلة الانفجار السكاني والتوقّف عن تذنيب
ملايين النساء العازبات. فقط في الشعوب البدائية أو ذات الذهنية البدائية
مثل شعوبنا، المرأة العزباء أو العاقر تعتبر نذير شؤم. وتشجيع تقرير الفرد
لمصيره في حياته اليومية. باختصار الشروع منذ رياض الأطفال في تشجيع ظهور
الفرد المالك لرأسه وفَرْجه يتصرّف فيهما بحرية في إطار القانون الوضعي
العقلاني. هذه التدابير الضرورية تساعد على عدم تذويب الفرد في الأمة الذي
تمارسه اليوم مدرسة اللامعقول الديني تحقيقا لهدف أقصى اليمين الإسلامي
الرامي إلى تذويب الفرد في الأمة لتجنيد الفرد الذي مُسخ إلى مجرّد رقم أي
عضو في قطيع الأمة التي يعطي بها معنى لحياته التي لا معنى لها. وهكذا
يقبل أن يَنْحَر وينْتحر من أجلها وأن يُطيع طاعة عمياء الناطقين باسمها
من رجال ونساء أقصى اليمين الإسلامي، وضرورة تشجيع التعليم والإعلام لكل
المناشط التي تشجع غرائز الحياة مثل تنظيم الحفلات والمهرجانات الموسيقية
السنوية والإكثار من المسلسلات الخاصة بنجوم الغناء والموسيقى وأعلام
الأدب الباسم وإحداث مواقع إنترنت وإذاعات وفضائيات غنائية وموسيقية
لترويج المشاريع الفنية والثقافية والسياسية القائمة على تحالف العلم
والتقدم والديمقراطية، وفتح باب النقاش الحرّ على مصراعيه بلا محرّمات
دينية أو سياسية. ذلك يعني إيجاد تعليم وإعلام بديلين يشجّعان البحث عن
المعرفة الموضوعية والدفاع عن الفلسفة الإنسانية الجديدة المتمثلة في
الدفاع عن قيم حقوق الإنسان على الإنسان وحقوق الطبيعة على الإنسان بدلا
من كاريكاتور الإعلام والتعليم السائدين اليوم الحاملين لروح القطيع التي
تمحو الفرد محوا.
المهرجون الدينيون في المغرب يسمّون الموسيقى مزامير الشيطان. فما سبب هذا العداء للموسيقى؟ أولا، أقترح تسميتهم بالناطقين باسم الجمود الديني. بالمناسبة يقول حجة
الإسلام أبو حامد الغزالي "من لم تطربه الموسيقى فقلبه ميّت". عداؤهم
للموسيقى وحتى للضحك هو تعبير عن الاكتئاب وغريزة الموت والانتحار الملازم
له. وهذا معنى "القلب الميّت" عند المتصوّف الغزالي. أثبتت دراسات الدماغ
أنّ الموسيقى تنمي الذكاء. في أوروبا الأطفال ينامون ويستيقظون، منذ
الولادة، على موسيقى خاصة بكل شريحة عمرية.
هل حقوق الإنسان هي الدين المدني؟ نعم، فقد طَوّرت القيم الدينية بعد دمجها في قيم الفلسفة الإنسانية وبعد
تخليصها من العصبية الدينية. وهكذا غَيّر المقدّس موقعه من تقديس الأساطير
والرموز الدينية إلى تقديس الشخص البشري. بإلغاء العقوبات البدنية
المُذِلّة للجسد البشري بتشويهه بقطع يده أو يده ورجله من خلاف أو دقّ
عنقه وإعدامه، هذه العقوبات المبرمجة في الدماغ البشري منذ العصر الحجري
الأوّل عندما بدأ الإنسان يصيد بسلاحه الحجري الحيوان والإنسان خاصة
الأطفال والنساء. تقديس الله وحده لم يعد كافيا لتوحيد مواطني كلّ
دولة-أمّة نظرًا لاختلاف مفهوم الله عندهم أو حتى لغيابه عند بعضهم. أما
تقديس الشخص البشري فكافٍ لتوحيدهم وراء راية احترام حقوق الإنسان
والطبيعة التي ينبغي أن تكون هي جوهر العِقد الاجتماعي للقرن الحادي
والعشرين. الصراعات الدينية والقبلية والاديولوجية الدامية في الدول
الدينية مثل إيران… تشهد على استحالة اتخاذ الطائفة قاسما مشتركا بين
المواطنين. مثلا في العراق والسودان الكرة توحّد السنّي والشيعي والمسلم
والمسيحي والوثني في السودان لكن الانتماءات الطائفية والدينية تمزقهم.
الدولة الدينية تستمدّ شرعيتها من الدين، أما الدولة المدنية فتستمدّ
شرعيتها من احترام القانون الوضعي العقلاني وفصل السلطات ومن احترام حقوق
الإنسان. إصلاح الإسلام كفيل بتغيير القيم وإعادة تأسيسها عقلانيا. من هنا
أهميّة تدريس الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي لا يتجاوز بموادّه
الثلاثين صفحتين أو ثلاث منذ الابتدائي لتحديث العقلية الإسلامية التي
يمثل تطويرها رهانا كبيرا للتصالح مع الحداثة أي مع العالم الذي نعيش فيه
عسى أن نتحوّل من موضوع للتاريخ إلى مساهم في صنعه. وكذلك تدريس ملحقاته
كالاتفاقية الدولية لحقوق الطفل، والاتفاقية الدولية لمنع التمييز ضدّ
المرأة، والاتفاقية الدولية لحماية الأقليات.
ماذا تقصد بإعادة تأسيس القيم الدينية عقلانيّا؟.
شيئا قريبا من تغيير طبيعة القيم transmutation عند نيتشه. مثلا قيمة
الأخُوّة لن تعود أُخوة بين المؤمنين فقط بل تتطور لتصبح أخوةً عابرة
للثقافات والديانات، أخوّة بين جميع المواطنين والبشر جميعهم بما هم
متساوون في الحقوق والكرامة بصرف النظر عن دينهم وجنسهم ولونهم، ثم بين
البشر والطبيعة أي الحيوانات التي يُبيد التلوّث آلاف الأنواع منها تمهيدا
لإبادة البشر أنفسهم. بالمثل، قيمة التضامن التي هي اليوم قيمة مركزية
للعيش معا داخل كل بلد وداخل كل القرية الكونية. بالإصلاح الديني لا يعود
التضامن غريزيّا ودينيّا بين أعضاء قبيلة المؤمنين بل يتطوّر ليغدو تضامنا
واعيا ببواعثه وأهدافه الإنسانية التي تتعالى على الروابط العتيقة سواء
كانت إثنية أو دينية. وهكذا فكثير من القيم الدينية قابلة للتطور إلى قيم
عقلانية كونية في خدمة الإنسان بما هو إنسان – محض إنسان – حتى عندما تكون
ذات منشأ ديني. كالأخوة التي يجسدها الصليب الأحمر حيث يضحّي شباب أحيانا
بحياتهم من أجل إنقاذ حياة الآخرين الذين لا تربطهم بهم روابط قومية أو
دينية. فمتى نرى الهلال الأحمر يرقى إلى مثل هذا المستوى من الحسّ
الإنساني؟
تبدو
متفائلا جدا في عالم تطحنه الأزمة ويموج بالتناقضات من كل نوع. قد يبدو
تفاؤلك للبعض ساذجا عندما تتحدث عن الأخوّة البشرية بينما في الواقع
العالم يعيش في صدام الثقافات، والعالم الإسلامي تأكله الحروب الدينية
والطائفية؟ أنا أشتغل على سيناريوهين اثنين :
المتشائم والمتفائل، وأراهن على هذا الأخير كمجرد إمكانية واعدة. متمنّيا
أن لا تتحقق نبوءة فلوبير "المستقبل هو أسوأ ما في الحاضر" (L'avenir,
c'est ce que le présent a de pire) أما إذا اشتغلت على السيناريو
المتشائم أي الكارثي فلا يبقى لي إلا الصمت. فالعالم مهدّد بسلسلة من
الكوارث كالعرائس الروسية يُغطي بعضها البعض. مثلا، انهيار مالي عالمي
يغطي سيناريو الحمائية الجمركية، وهذه الأخيرة تغطي سيناريو الفاشية
والحرب وهو السيناريو ذاته الذي اكتوت به البشرية في الثلاثينات ولكن هذه
المرة يغطي سيناريو احتمال الحرب النووية ولو محدودة، ونتيجة لذلك ارتفاع
حرارة المناخ إلى 4 درجات في مستقبل منظور، وهذا يغطي سيناريو انفجار آبار
الميتان في البحار الكفيلة بإبادة النوع البشري.
استخدامي للسيناريوهين يستمد مشروعيته من فرضية أن الصيرورة التاريخية هي
صراع بين الاتّجاه المتفائل والاتّجاه المتشائم وحصيلتهما هي التاريخ
المتحقّق فعلا. شعاري هو الحديث الشريف القائل : "إذا قامت الساعة وبيد
أحدكم فسيلة فليغرسها". إصلاح الإسلام هو هذه الفسيلة التي لا بأس من
غرسها حتى في لحظة النفخ في الصور…
الانحطاط هو هزيمة العقل تستخدم
كثيرا مقولة الانحطاط، لكن مؤرخ العلوم راشد رشدي ينفي مفهوم الانحطاط
نظرا إلى أن العلم الإسلامي تواصل دون انقطاع منذ القرن العاشر إلى اليوم،
فما هو تعريفك للانحطاط؟ سقط العالم الإسلامي
في الانحطاط منذ القرن الثاني عشر في المشرق ومنذ القرن الخامس عشر في
المغرب (سقوط غرناطة) كما يقول المؤرخ التونسي هشام جعيط. أوّلا العلم
الإسلامي في القرون الوسطى كان امتدادا للتأمل العلمي اليوناني. العلم
التجريبي لم يظهر إلا في القرن السابع عشر. العلم الذي لم يتواصل هو
الفلسفة. الحضارة العربية الإسلامية هي حضارة نص وثقافة نقل لا عقل. عامل
تخصيبها الأساسي هو العقل الذي وئد في المهد. من هنا ضرورة تعميم الفلسفة
منذ الثانوي بل وحتى الإعدادي. في تونس تُدرس الفلسفة في السنتين
الأخيرتين من التعليم الثانوي وفي المغرب في السنوات الثلاث من التعليم
الثانوي.
الدخول في الانحطاط في الحضارة الإغريقية كما في الحضارة العربية
الإسلامية هو هزيمة العقل الفلسفي أمام الأسطورة في الأولى، وهزيمة
العقلانية الدينية والعقل الفلسفي الإسلامي والعقل النقدي في الثانية أمام
القراءة الحرفية للنصّين المؤسِّسين القرآن والحديث على يد حزب المحدثين
الذي عبّر الترمذي، تلميذ البخاري، عن لامعقوله الديني عندما قال: "من
أصاب في القرآن بالرأي فقد أخطأ ومن فسّر القرآن بالرأي فقد كفر"، والرأي
عنده هو العقل.
ما هي هذه الاتّجاهات العقلانية الثلاثة؟ هي العقلانية الدينية المعتزلية التي اعتبرت الإنسان مسؤولا وحيدا عن
أفعاله، والعقلانية الفلسفية الإسلامية السينية والرشدية التي اقترحت
قراءة فلسفية للنص والعقلانية الفلسفية النقدية التي بشرت بنبوة العقل
"فكلّ عقل نبيّ" كما يقول المعرّي. وممّن مثّلوا هذا الفكر النقديّ في
الإسلام الطبيب أبو بكر الرازي والمعتزلي السابق ابن الروندي وأبو العلاء
المعري.
الترمذي هو من محدثي القرن التاسع وحزب الحديث ظهر في القرن الثامن
الميلادي فهو لم يظهر في الانحطاط بل في أوج النهضة الثقافية الإسلامية.
فكيف تفسر ذلك؟ الصيرورة التاريخية ليست وليدة الأحداث التاريخية المعزولة. بل وليدة
نسيج حدثي واجتماعي أي مسار تاريخي كامل يتصارع فيه اتّجاهان متعارضان.
اتّجاه سائد واتّجاه مضاد له. عندما كان الاتّجاه إلى المعقول الديني
الاعتزالي هو السائد كان الاتّجاه إلى اللامعقول الذي مثله حزب القراءة
الحرفية هو الاتّجاه المضاد. لم تنقلب الأدوار إلا ابتداء من القرن 12 في
المشرق حيث غدا الاتّجاه إلى اللامعقول الديني هو السائد. أعطي هنا نادرة
عن صراع هذين الاتّجاهين في القرن التاسع الذي تعايش فيه المعتزلة
والفلاسفة والمفكرون الأحرار والمحدثون. الاتّجاهان اللذان تصارعا فيه على
مستوى العقلانية الدينية هو هل الإنسان مخيّر أم مسيّر ؟ اتّجاه المعقول
كان ينادي بالتخيير واتّجاه اللامعقول بالتسيير. عندما قدم إبراهيم
النّظام، أحد متكلمي الاعتزال، من البصرة إلى بغداد وبدأ يلقي دروسه في
جامع المنصور تصدى له أحد أنصار التسيير بالسؤال التقليدي آنذاك "يا عم من
يجمع بين الزاني والزانية ؟" أجابه "يا ابن أخي نحن في البصرة نقول إنّه
القوّاد…" وأنتم تقولون إنّه الله سبحانه وتعالى.
على أنقاض بشائر العقل ساد اللامعقول التكفيري "من تمنطق فقد
تزندق" و"المنطق يقود إلى الفلسفة وما يقود إلى الكفر كفر"… تكفير
الفلسفة، حاملة العقل النقدي، مازال متواصلا حتى الآن. دول مجلس التعاون
الخليجي لا تدرس الفلسفة في الثانوي باستثناء الكويت التي أدخلتها سنة
2007. المغرب أدخل الفلسفة ابتداء من سنة 2003. وحال الفلسفة في معظم
الدول العربية كحال الأيتام على مائدة اللئام.
هنا ينبغي أن نرى أعراض الانحطاط وليس في تواصل العمليات الرياضية التي لم
تكن حاملة لأي مسار تقدّميّ ينشر العقلانية في المؤسسات الاجتماعية
الأساسية السياسية والاقتصادية والدينية والعلمية والتربوية.
لماذا هُزم العقل في الحالتين اليونانية والإسلامية؟ أساسا لأن العقل في الحالتين لم يستطع أن يتغلغل لا في النُخب الصانعة
للقرار على نحو دائم، ولا في الجمهور الواسع كما حقق ذلك العقل الأنواري
الذي تغلغل في ألمانيا في النخب الصانعة للقرار. وفي فرنسا في النخب
والجمهور المتعلم؛ والسبب عائد إلى ظرف موضوعي هو غياب المطبعة والصحافة
في الحالتين اليونانية والعربية الإسلامية؛ في الحالة اليونانية انتصر
منشدو الإلياذة والأودسّا في الساحات العامة "أغورا" على العقل الفلسفي،
وفي الحالة الإسلامية انتصر الوعّاظ والمحدّثون في المساجد على فقه الرأي
الحنفي وعلى العقل الكلامي والفلسفي عند المعتزلة والفلاسفة وطبعا على
إرهاصات الفكر النقدي عند المفكرين الأحرار. انتصرت فلسفة الأنوار
العقلانية بفضل المطبعة والصحافة، لذلك قال هيجل : "الصحافة هي صلاة الصبح
الحديثة"، وكان يستهلّ يومه بقراءتها. فلاسفة الأنوار لم تنتشر كتبهم
وإنّما عمّمتها الصحافة على الجمهور الواسع. وهذا ما يجعلني اليوم أكثر
تفاؤلا بانتصار العقل الفلسفي والعلمي في أرض الإسلام بفضل ثورة الإتصالات
التي بدأت تُُدخله إلى جميع البيوت وجميع الرؤوس. وهنا أُوجّه نداءً إلى
كلّ وسائل الإعلام في العالم العربي والإسلامي وخاصة الفضائيات والأنترنت
لتعالج بانتظام مسألة الإصلاح الإسلامي، بل وأتمنى على الأغنياء الواعين
بضرورة هذا الإصلاح إنشاء فضائية متخصصة في خدمة الإصلاح الديني عبر
النقاش المتعارض بين أنصار الإصلاح الديني وخصومه لتدريب وتطوير الدماغ
المعرفي لدى جمهور المشاهدين. كما أقترح تكوين دار نشر تتخصص في ترجمة
علوم الأديان وترجمة الكتابات الأوروبية التي طبّقت هذه العلوم على النص
اليهودي والمسيحي والإسلامي لنشر ثقافة الإصلاح الديني في أرض الإسلام
فتحًا لشهية النُخب والجمهور الواعي للإصلاح. بإمكان إعلام المعقول الديني
أن يلعب منذ الآن دور مدرسة المعقول الديني ويساهم في ظهورها. منذ سبعينات
القرن الماضي مهدت أفلام مثل "الرسالة" ومسلسلات مثل "عمر بن عبد العزيز"
في تدشين هجمة الإسلام التقليدي والسياسي المتواصلة. لأن سيناريوهاتها
كتبت من منظور إسلام الإيمان، إسلام المعجزة، إسلام الفكر السحريّ الذي
يطلب من الواقع إعطاءه نتائج مخالفة لقوانينه؛ إسلام عبادة الأسلاف الذين
يُقدّمهم إسلام الإيمان للجمهور كأنصاف آلهة "كالنجوم بأيهم اقتديتم
اهتديتم"، كما يقول حديث لا شكّ موضوع، تلهمهم العناية الربانية كل ما
يقولون وما يفعلون. وهذا هو الميتا-تاريخ، الذي يصنعه أسلاف تحولوا بعد
تحررهم من سجن الجسد إلى أرواح خالصة كلية العلم والقوة. الميتا-تاريخ إذن
لا علاقة له بالتاريخ كما وقع فعلا. أحد أبرز أمثلته، أمر عمر للشمس بأن
تؤخر غروبها إلى أن ينتصر جيشه في المعركة.
آمل أن يقدم إعلام المعقول الديني المنشود مسلسلات وأفلاما
مكتوبة من وجهة نظر إسلام التاريخ، أي وقائع التاريخ كما وقعت فعلا أو
ترجيحا. التاريخ الذي صنعه أسلاف يخطئون ويصيبون، ويختلفون ويتصارعون
ويتحاربون على الولاية لا على الدين كثيرا وغالبا، تمزّقهم، كجميع الناس،
صراعات غريزية ورغبات متناقضة ومطامح دنيوية لا رائحة للدين فيها. كما فعل
ابن عباس، عندما كان واليا لعي على البصرة، فاستولى على أموال بيت مال
المسلمين وفرّ بها إلى مكة. وعندما كتب إليه الإمام عليّ مطالبا إياه بردّ
الأموال المنهوبة إلى بيت المال قائلا له : "كيف ستلقى الله بأموال
المسلمين؟" أجابه ابن عباس "حَبر هذه الأمة" قائلا : "لأن ألقى الله
بأموالهم خير لي من أن ألقاه بدمائهم مثلك". استلهاما لعبادة الأسلاف،
المنزّهين عن الخطأ والخطيئة، قرّر الفقهاء السنة بمذاهبهم الأربعة أنّ
سرقة أموال بيت مال المسلمين لا حدّ فيها لأنّ فيها شبهة ظلم في جمعها.
بينما قرّروا قطع يد السارق، من غير الأسلاف، في ربع دينار وقيل في ربع
درهم. مسلسلات وأفلام تلفزيونية عن مثل هذه الوقائع وهي كثيرة، وعن صراع
الصحابة على جمع القرآن وحرق المصاحف المنافسة لمصحف عثمان المتداول الآن،
تقدم للمشاهد بعض الوقائع التاريخية مثل مشهد ابن مسعود وهو يقول عن مصحف
عثمان :"لو كنت أنا الخليفة لأحرقت مصحفه وأبقيت مصحفي" أو مشهد والي
المدينة المنورة الأموي وهو يحرق "ألواح" أمّ المؤمنين حفصة في يوم دفنها،
بعد أن أبت على عثمان حرقها مع المصاحف الأخرى. والخلاف عن المصاحف لم يكن
هيّنا إذ أنّ رسالة عثمان إلى الأمصار كفّرت من يحتفظ بالمصاحف المحروقة.
مسلسلات وأفلام أخرى أيضا عن الفتنة الكبرى انطلاقا من كتاب طه حسين وهشام
جعيط ومسلسل أو فيلم آخر عن "الفتنة" الدائمة في أرض الإسلام انطلاقا من
كتاب الفتنة للمستعرب الفرنسي جيل كيبيل Gilles Kepel أي أن الإسلام
الإمبراطوري محكوم بجدلية الجهاد الخارجي أو الفتنة الداخلية ومسلسلات
و/أو أفلام عن شهداء الإسلام الصوفي مثل الحلاج والسهروردي.
عرض أمثال هذه المسلسلات والأفلام سيكون تدشينا لانطلاق مسار إصلاح
الإسلام بقوة بفضل تحرير الوعي الإسلامي الجمعي من رق عبادة الأسلاف
النفسي. فعلى ذلك يتوقف نجاح الإصلاح الديني وتاليا انتصار المعقول على
اللامعقول. وغرائز الحياة على غريزة الموت حتى لا نغرغر بعد اليوم مع
السيد حسن نصر الله "نحن نحبّ الموت بقدر ما يحبّون هم الحياة". هم، هم
اليهود.
ما هو تعريفك للمعقول الديني؟ هو دين العقل. يجب أن تتقدّم علوم الأديان الدين حاملة المشعل الذي يُنير
له الطريق لإنتاج ما أسماه كانط "دين العقل". وهذه أيضا وظيفة العقل
المُؤوِّل عند المعتزلة والفلاسفة لتكييف النصوص الدينية مع قوانين ومقتضى
العقل. الدين المنفلت من عقال العقل يتحول إلى خرافة وإرهاب وهو ما نعيشه
الآن في أرض الإسلام، بين أشياء أخرى، في الهذيان الفصامي عن اقتراب نهاية
العالم بعودة الإمام الغائب في إيران وبالمعركة الفاصلة بين المسيح
والمسيح الدجّال في فلسطين عند السنة.
كيف سيجعل الإصلاح الديني بفضل تدريس ودراسة الإسلام بعلوم الأديان والفلسفة وحقوق الإنسان من المسلم فردًا منفتحا على الآخر؟ بفضل تعميم علوم الأديان على المدرسة والجامعة. في أوروبا
وفرنسا أظهر استطلاع أخير أن 52 في المائة من الفرنسيين يعتقدون أنّهم :
"يجدون حقائق أساسية في كثير من الأديان"، وفقط 6 بالمائة يعتقدون بأنهم :
"لا يجدون الحقيقة إلاّ في دين واحد" وهؤلاء هم المتعصّبون.
قارن هذا بما يجري في أرض الإسلام. أراهن على أن 9 من 10 على
الأقل من السنّة والشّيعة يعتبرون أن دينهم هو الدين الحق وأنّ الثاني في
ضلال مبين. لن نخرج من النرجسية الدينية التي مازالت راسخة في 6 بالمائة
من الفرنسيين إلى التسامح الديني الذي انتشر بين 52 بالمائة من الفرنسيين
إلا بتعميم تدريس علوم الأديان والفلسفة وحقوق الإنسان على المدرسة
والجامعة وعلى تلك الجامعة الأخرى التي لا جدران لها أعني الإعلام.
الإصلاح الديني كفيل بنقلنا من الجمود الديني إلى التطور
الديني وبتعليم المسلمين في داخل بلدانهم الانفتاح على جميع الثقافات
واحترام الآخر ويعلم المسلمين في مهاجرهم التأقلم مع التهجين الثقافي أي
امتزاج وتساكن عدة ثقافات في رأس شخص واحد. كما قد يحررهم من الخطاب
التضحوي الصبياني "نحن ضحايا بريئة للقرية الظالم أهلها" ومن ثقافة "التمس
لأخيك سبعين عذرا". وقد يعلمهم عدم التخلي عن ملكة الحكم، وعن التفكير
بأنفسهم دونما حاجة للفتاوى… وقد يدخل العرب والمسلمين الذين تتفشى فيهم
الأمية والجهل والتعليم الرديء إلى مجتمع المعرفة الذي دخلته البلدان
المتقدمة. إسرائيل تأتي فيه الثانية بعد الولايات المتحدة الأمريكية بينما
يقف العالم العربي والإسلامي منه على سنوات ضوئية.
وهكذا يمكن بالإصلاح الديني نقل المسلم النرجسي الحالي من
الهذيان الديني إلى العقلانية الدينية وإلى الواقعية والتواضع. وقد يحرره
الإصلاح الديني من الرؤية المانوية، من ثنائية الخير هنا والشر هناك، نحن
الضحايا وهم الجلاد إلى آخر مسلسل إسقاط كراهيتنا ووساوسنا على الآخرين.
وهو السلوك الذي جعل منا كارهين للبشرية ومكروهين منها. وهذا هو الينبوع
الأول للإسلاموفوبيا فعسى أن ينقلنا الإصلاح من هذه الرؤية التبسيطية حتى
الكاريكاتور للأنا والآخر إلى مفهوم التشعب complexité عند ادغار موران
Edgar Morin القريب من المنزلة بين المنزلتين عند المعتزلة حيث يتساكن
الخير والشر تحت سقف واحد. التشعب شبيه بالإله جانوس Janus ذي الوجهين
المتعارضين. بالإصلاح الديني، وربما بالإصلاح الديني وحده، يمكننا بمدرسة
العقلانية الدينية أن ننتج المسلم المؤمن والعصري في نفس الوقت والذي هو
اليوم عملة نادرة. تشخيص المعري لواقع عصره يكاد ينطبق على واقع عصرنا :
"اثنان أهل الأرض : ذو دين بلا عقل، وآخر ديّن لا عقل له". بإمكاننا
بمدرسة العقلانية الدينية أن نتجاوز هذا الواقع، كما تجاوزته بها الديانات
الأخرى المعاصرة، لنصل إلى مسلم ذي دين وذي عقل معا… وتخرج كلياتنا
الدينية باحثين ذوي فكر نقدي يمكّنهم من التمييز بين الحقيقة والمعتقد.
الحقيقة العلمية تخضع للبرهان إذن عامة، أما المعتقد فلا حاجة له إلى
البرهان إذن خاص بكل مؤمن. ولا يجعلهم يضحون بالحقيقة الموضوعية من أجل
قناعاتهم الذاتية أي معتقداتهم…، ويميزون بين التاريخ والأسطورة وبين
الواقع والرغبة وبين المعقول واللامعقول بل ويبحثون في اللامعقول بالمعقول
لكشف منطقه الخاص وإضاءة زواياه المعتمة. أمثال هؤلاء الباحثين ضروريون
لنعرف من نحن، وكيف تكوّن الإسلام تاريخيا وما هي المصادر التي استقى
منها، وما هي عوائقه التي أعاقته عن دخول الحداثة وما زالت؟ وهكذا سيسقون
الفكر الديني بنسْغ تحليلي جديد أي بحيوية تحليلية جديدة قلما عرفها في
تاريخه الحديث بينما تشبّع بها الفكر الديني في العالم حتى التخمة. هذا
رهان كبير إذا خسره العالم العربي والإسلامي خسر نفسه.
الإصلاح الديني علاج ذهني جماعي من القمع المستبطَن، من الأغلال غير
المرئية التي تكبل عقل المسلم وتسترقّه نفسيا وتشده بألف حبل وحبل إلى
عبادة الأسلاف ليعيش في القرن الحادي والعشرين كما عاشوا في القرن السابع،
وأن يجاهد كما جاهدوا ليعيد خلافتهم من "الأندلس إلى حدود الصين" كما قال
قائد الجيش الإسلامي في العراق لصحافيين فرنسيين اختطفهما…
ناصر
بن رجب : مفتاح إصلاح الإسلام في نظرك هو الانتقال من إعلام وتعليم
اللامعقول الديني إلى إعلام وتعليم المعقول الديني بتدريس علوم الأديان
والفلسفة وحقوق الإنسان. فكيف يمكن تحقيق هذا الهدف في إصلاح الإسلام
الفرنسي والأوروبي؟ الإسلام الفرنسي –
الأوروبي محظوظ. فليس مطالبا بالانتقال من اللامعقول السائد إلى المعقول
المنشود كما في حالة غالبية البلدان العربية والإسلامية. بل مطلوب منه فقط
أن يتصالح مع الدساتير والقوانين الوضعية والنظم التربوية والقيم المشتركة
العقلانية العابرة للثقافات المطبقة في الإتحاد الأوروبي. حسبه أن يُعرّف
نفسه بالعلمانية والديمقراطية وحقوق الإنسان. وهكذا يستطيع الإسلام
الأوروبي أن يقطع مع الجمود الديني السائد في معظم بلدان المنشأ. سرني
عندما قرأت لمحمد الموسوي، رئيس المجلس الفرنسي للديانة الإسلاميةConseil
Français du Culte Musulman "وهو مغربي"، قوله : "الإسلام الفرنسي ليس
الإسلام المغربي ولا الإسلام السعودي". مما يدل على فهم دقيق للمعادلة
الدينية المعاصرة وهي أن كل دين هو ابن ظروف الزمان والمكان اللذين يظهر
فيهما. وليس وصفة سحرية عابرة للتاريخ كما يتوهم فقهاء الإسلام التقليدي
والسياسي. على الإسلام الأوروبي أن يأخذ الدرس من كيفية اندماج الأقلية
اليهودية في الأمة الفرنسية. فقد قبلت التخلي عن الشريعة اليهودية مقابل
دمج نابليون لها في الأمة الفرنسية العلمانية الوليدة سنة 1807؛ وأن تأخذ
أيضا الدرس من تركيا المسلمة وحكومتها الإسلامية التي أعلنت على لسان
رئيسها أردوغان أنها تقبل الانضمام للإتحاد الأوروبي مقابل تخليها عن
الشريعة الإسلامية بقبول جميع القيم المشتركة للإتحاد الأوروبي. وقرنت
القول بالفعل فعدلت الدستور سنة 2006 بتطهيره من بقايا الشريعة مثل عقوبة
الزنا والإعدام ومنع المسلم من تغيير دينه فأصبح لا يختلف في شيء عن أي
دستور علماني أوروبي.
فكيف لا يقبل المهاجرون والمسلمون الأوروبيون الاندماج في هذه الثقافة العلمانية التي اندمج فيها اليهود والأتراك؟
كيف يمكن تحقيق ذلك؟ أساسا بتكوين الأئمة تكوينا دينيا حديثا يستلهم برنامج المعهد الأعلى
لأصول الدين التابع للجامعة الزيتونية والدساتير والقوانين الأوروبية
ووثائق حقوق الإنسان كالاتفاقية الدولية لمنع التمييز ضد المرأة، التي
يحسن بهم استلهامها في خطب الجمعة ودروس المساجد، والاتفاقية الدولية
لحماية الأقليات التي ينبغي أن تكون الإطار القانوني لمطالب مسلمي أوروبا
وأن يحتكموا للقضاء الأوروبي، وعند الاقتضاء، إلى محكمة حقوق الإنسان
الأوروبية بدلا من الاحتكام إلى الانتفاضات والحرائق العدمية .nihilistes
في الواقع توجد ثغرات فادحة أحيانا في تكوين الأئمة. يوم وفاة ملك بلجيكا
في التسعينات قال إمام باريسي في خطبة الجمعة : "اليوم نقص منهم واحد" أي
من الكفار. وبالرغم من أن إمام الجمعة في جامع باريس معتدل عادة في خطبته
إلا أنه ركز مؤخرا خطبته على تفسير الآية السجالية : "وقالت اليهود عزير
ابن الله" … وهذا لا يساعد على حوار الأديان في فرنسا الذي يمارسه بكل
شجاعة واقتدار مدير جامع باريس د. دليل أبو بكر. في القرآن الكريم، كما
يقول أبو حامد الغزالي، آيات مفضولة وأخرى فاضلة. ويليق بالأئمة استخدام
الآيات الفاضلة وهي لا تقل عن 75 آية توصي بالتسامح واحترام جميع الأديان
بما فيها الوثنية مثل "لا إكراه في الدين" و"إن الذين آمنوا والذين هادوا
والصابئون من آمن بالله وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون". سلوك
مدير جامع باريس دليل أبو بكر ومفتي مرسيليا الشيخ صهيب بن الشيخ قدوة
حسنة في هذا المجال لأئمة فرنسا وأوروبا وحتى العالم الإسلامي لنحت إسلام
مسالم كيّف تقاليده مع الواقع المعاصر، وفي أوروبا مع واقع المجتمعات
الأوروبية.
ينظر الأوروبيون إلى الإسلام كتهديد، فما العمل لتغيير هذه النظرة؟ لن يغيّر الله ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم. المسلمون الأوروبيون
مطالبون بالتخلّي عن عاداتهم الميتة والمميتة مثل ختان البنات وذبح
الأضاحي في المنازل وارتداء الحجاب والنقاب والبرقع وتعدّد الزوجات الذي
هو في نظري أحد أهم الأسباب لمتاعب المسلمين الأوروبيين، مثلا في فرنسا 30
ألف عائلة متعدّدة الزوجات أنجبت 600 ألف طفل بمعدل 14.5 لكل عائلة معظمهم
فشلوا في المدرسة وهم الذين جعلوا نسبة المسلمين في السجون الفرنسية 27 في
المائة من مجموع السكان أي 4 مرات أكثر من وزنهم الديموغرافي في فرنسا.
من مهام الأئمة توعية المؤمنين بخطر تعدد الزوجات والإكثار من الأطفال
للحصول على المنح العائلية محولين فلذات أكبادهم إلى سلعة، إلى مجرد وسيلة
للربح.
على الحكومات الأوروبية أن لا تغضّ الطرف عن تعدّد الزوجات. لا
يستطيع التونسي في تونس، التي منعت تعدّد الزوجات في 1956، أن يمارس
التعدّد ويستطيع أن يمارسه في فرنسا وأوروبا التي لم تعرف عادة تعدّد
الزوجات في تاريخها. تعدّد الزوجات جاءت به اليهودية وعنها أخذه الإسلام.
لكنّ تعدّد الزوجات لا وجود له لا في يهود إسرائيل ولا في الشتات. كما على
الحكومات الأوروبية أن تكافح كلّ مظاهر العنصرية ضد المسلمين وأن تتبنّى
جميعا الطريقة الأمريكية في التمييز الإيجابي لصالح أبناء المهاجرين. وعلى
المؤسسات الثلاث المؤطرة لمسلمي فرنسا، جامع باريس والمجلس الفرنسي
للديانة الإسلامية والفدرالية المغربية لمسلمي فرنسا أن تتعاون فيما بينها
لتوعية مسلمي فرنسا بواجباتهم كمواطنين أو ضيوف فرنسيين وأن تدافع عنهم ضد
التجاوزات.
مسلمو أوروبا يعيشون في مجتمع حضارة المعرفة أي حضارة الكمبيوتر. الإسلام
الذي يمرّ بإعادة التأسيس لا يمكن له أن يكون في حالة اشتباك أو تناقض مع
هذه الحضارة بل عليه أن يكون معها في حالة وئام لذلك على نخب الإسلام
الأوروبي أن تعيد اختراع إسلامها أوربيا على مقاس القيم المشتركة
والمعايير الأوروبية الجماعية…
إصلاح الإسلام الأوروبي يعني أن يصبح في نهاية المسار إسلاما
آخر غير الذي كانه. مختلفا في شعائره وممارساته وطبيعة علاقته مع الآخر،
الذي لم يعد ساكن دار الحرب بل أصبح المواطن الذي يشاركه حقوق المواطنة في
بلد غدا بلده هو أيضا. هذه روح الإسلام الأوروبي الذي أعيد تأسيسه أي
إصلاحه.
هل لك أن تلخص للقراء في كلمات معدودة الخطوط الكبرى للإصلاح الديني؟ للقرّاء ولصنّاع القرار أقول في بداية القرن العشرين كان الخيار إصلاح أم
ثورة. وفي بداية القرن الحادي والعشرين غدا الخيار إصلاح أم فوضى دامية
على الطريقة الصومالية مثلا. اختارت أوروبا الغربية الإصلاح فقطعت الطريق
على الثورة. فهل سيختار العالم العربي والإسلامي الإصلاح لقطع الطريق على
الفوضى؟
الفوضى اليوم تعني أن يصبح العالم وكل بلد فيه غير قابل
للحكم..ingouvernable فاختاروا إذن الإصلاح الديني كمدخل للإصلاح الشامل
السياسي والاقتصادي والعلمي واللغوي والتربوي. الإصلاح الديني هو اليوم
المدخل لقطع الطريق على هجوم الجنون في التاريخ، على تحويل المؤسسات
التعليمية والإعلامية إلى منابر للتكفير والفتاوى المضحكة حينا والمبكية
حينا، وعلى تحويل المستشفيات إلى مسالخ لقطع الأيدي، وتحويل الساحات
العامة إلى أمكنة يتبارى فيها المصابون بالطاعون العاطفي على رجم المحبين
وشنق المفكرين الأحرار وتحويل عواصم أرض الإسلام إلى أكثر من طهران يصطاد
فيها "حراس الثورة" الشباب الجامعي كما يصطادون الأرانب. المدخل إلى
الإصلاح يكون :
1 - بالانتقال السريع من إعلام اللامعقول الديني إلى إعلام
المعقول الديني ومن مدرسة اللامعقول الديني التي تُفبرك جموعا من
المتعصّبين كلّ واحد منهم مشروع شهيد أي قاتل ومقتول إلى مدرسة المعقول
الديني والدنيوي الكفيلة بوضع حد للقراءة الحرفية للنّص وبتدريس الإسلام
بعلوم الأديان الكفيلة بإخراجنا من الرؤية الجامدة للإسلام بتفكيك الرواية
الخيالية حتى الكاريكاتور لنصوصه ولرموزه المؤسِّسة بتكوين نُخب قادرة على
التفكير في تراثها وخاصة على إعادة التفكير في مشروعها العقلاني المستقبلي.
2- كما يكون باقتباس التعديلات التي أدخلتها حكومة حزب العدالة
والتنمية الإسلامي التركي على الدستور سنة 2006 وهي إلغاء عقوبة الإعدام
والزنا والاعتراف للمسلم بالحق في تغيير دينه طبقا للمادة 18 من الإعلان
العالمي لحقوق الإنسان.
3- كما يكون بالمبادرة إلى إصدار قوانين أحوال شخصية تستلهم
مجلة الأحوال الشخصية التونسية التي دشّنت ورشة إصلاح الإسلام التونسي
المفتوحة منذ 54 عاما، كما فعل المغرب الذي يحكمه ملك مُصلح يحمل لقب أمير
المؤمنين، لوضع نهاية لإقصاء فقهاء الجمود الديني للمرأة من الفضاء العامّ
أي من الشارع والمدرسة وأماكن العمل جاعلين المسلمة المثالية هي تلك التي
لا تخرج إلا مرّتين. مرّة من بيت أبيها إلى بيت زوجها ومرّة من بيت زوجها
إلى القبر. والحال أنّ نساء النبيّ خرجن في حياته وبعد مماته، وعائشة خرجت
لقتال عليّ في معركة الجمل التي أسفرت عن خمسة عشر ألف قتيل، وكانت تلهب
جيشها حماسا حتى قال علي أعقروا الجمل وإلاّ فنيت العرب اليوم. وهكذا لم
تطبّق أمهّات المؤمنين لا في حياة النبيّ ولا بعد وفاته آية «وقَرْنَ في
بيوتكنّ». فبأيّ منطق يُطلب من نساء اليوم تطبيقها؟
هذه التدابير الضرورية كفيلة بتدشين مسار الإصلاح الديني لإخراج الإسلام
من سكة الندامة الذي أدخلته فيه عصور الانحطاط إلى سكة السلامة : سكة
الإصلاح وحوار الأديان ومصالحة الإسلام مع الحداثة أي مع العالم الذي نعيش
فيه.