تقديم: ليس اسم جاك رنسيار جديدا على كلّ من له أدنى اطّلاع على الفكر
الفلسفي السّياسيّ بفرنسا. فهو أحد تلامذة لويس ألتوسير المشهورين، ساهم
معه إلى جانب إيتيان باليبار وبيار ماشري في تأليف كتاب "قراءة رأس
المال". إلاّ أنّه سرعان ما انفصل عن خطّ التّفكير السّياسيّ الألتوسيريّ
لمّا انتقد أستاذه القديم في كتاب "درس ألتوسيرLa Leçon d’Althusser،
Gallimard، Idées (n° 294)، 1975". وقد تمكّن في كتاباته اللاّحقة
كـ"اللاّتفاهم La Mésentente. Galilée، 1995" و"مقت الدّيمقراطيّة La
Haine de la démocratie. La Fabrique، 2005" من تأسيس نظريّته الخاصّة في
الذّاتيّة السّياسيّة. ولعلّ أبرز ما يميّز تفكير جاك رنسيار السّياسيّ هو
مراجعاته الجذريّة للكثير من المفاهيم والألفاظ السّياسيّة الّتي من شدّة
استعمالها وتغيّر سياقاتها التّاريخيّة والاجتماعيّة قد فقدت نجاعتها
الرّمزيّة والوصفيّة.
وفي سياق هذه المراجعة طرحت دار "لافبريكLa fabrique " على عدد من
كتّابها وكبار المفكّرين في الفلسفة السّياسيّة المعاصرة السّؤال التّالي:
يبدو أنّ لفظ "ديمقراطيّة" قد انعقد عليه اليوم إجماع واسع النّطاق. ونحن
بالتّأكيد، نجادل أحيانا بضراوة في تحديد دلالات هذا اللّفظ. ولكن في هذا
العالم الّذي فيه نعيش، غالبا ما يسند إلى هذا اللّفظ قيمة إيجابيّة. وذاك
ما دعانا إلى أن نطرح هذا السّؤال:
هل يوجد في قول من يقول إنّه "ديمقراطيّ" من معنى؟ فإن كان الجواب بكلاّ فلماذا؟ وإن كان الجواب بنعم فبأيّ تأويل لهذا اللّفظ؟
عن هذا السّؤال أجاب ثلّة من الفلاسفة كانوا يحملون على اختلافهم
تصوّرات غير مطابقة للخطاب المعهود على الدّيمقراطيّة. ولقد كانت أجوبتهم
متنوّعة ومتناقضة أحيانا، وهو ما كان متوقّعا، بله مرغوب فيه. ولا يوجد في
هذا الكتاب الّذي يحمل عنوان "Démocratie، dans quel état ؟" تعريفا جاهزا
للفظ الدّيمقراطيّة، ولا طريقة للاستعمال، ولا حكما للدّيمقراطيّة أو
عليها. كلّ ما يمكن أن يخرج به القارئ من كلّ هذه المقالات المجمّعة في
هذا الكتاب أنّ لفظ "ديمقراطيّة" لا يمكن التّخلّي عنه لأنّه مافتئ يستخدم
بوصفه المدار الّذي تدور عليه المجادلات السّياسيّة الكبرى.
ولقد ساهم في هذا الكتاب عدّة فلاسفة عرفوا بمساهماتهم اللاّمعة في
التّفكير السّياسيّ المعاصر من أمثال الإيطاليّ جرجيو آقمبن، والسّلوفيني
زلافوي تشيتشاك، والأمريكيّتين وندي براون، وكريستين روس، والفرنسيّين
دانيال بنسعيد، وجون لوك نانسي وألان باديو، وجاك رنسيار الّذي نعرّب له
في هذا المقام الحوار الّذي أجراه معه إيريك هازان بعنوان "الدّيمقراطيّات
ضدّ الدّيمقراطيّة" (1).
المترجمالحوار:
لستَ متّفقا مع
الفكرة الشّديدة الانتشار من أنّ الدّيمقراطيّة تتمتّع اليوم بإجماع لا
سابق له. ألا يعود ذلك إلى طريقتك في تصوّر الدّيمقراطيّة، وهو تصوّر شديد
الاختلاف عن التّصوّر المعهود؟توجد إجابتان. قبل كلّ شيء، ما أحاول الدّفاع عنه بالفعل، هو أنّه لا
يمكن اختزال الدّيمقراطيّة في شكل من الحكم ولا في صيغة حياة اجتماعيّة.
ولكن حتّى وإن فهمنا "الدّيمقراطيّة" بالمعنى الّذي نعتبره جاريا، فلا
أظنّ أنّه يوجد إجماع على قيمتها. فبالنّسبة إلى فترة الحرب الباردة، حيث
كانت الدّيمقراطيّة في جهة والكليانيّة في جهة أخرى، كان ما نشاهده منذ
سقوط الحائط، في البلدان الّتي تدّعي أنّها "[بلدان] الدّيمقراطيّات"
إنّما هو بالعكس ضرب من انعدام الثّقة والاستهزاء المتستّر أو الصّريح
تجاه الدّيمقراطيّة. ففي [كتاب] "مقت الدّيمقراطيّة" حاولت أن أبيّن أنّ
جانبا كبيرا من الخطاب المهيمن كان يشتغل، بأشكال مختلفة، ضدّ
الدّيمقراطيّة. فإن أخذنا على سبيل المثال كلّ ما قيل بفرنسا عن انتخابات
2002 أو عن استفتاء الدّستور الأوروبيّ في 2005: سنجد كلّ الخطابات على
الكارثة الدّيمقراطيّة، وعلى هؤلاء الأفراد غير المسؤولين، وعلى هؤلاء
المستهلكين الصّغار الّذين يعتبرون الاختيارات الوطنيّة الكبرى كما لو كان
الأمر يتعلّق باختيار ماركة عطر أو ماركة أخرى. حتّى أنّ الدّستور في
النّهاية لم يعرض مرّة أخرى للتّصويت الشّعبيّ. فهنالك انعدام ثقة كبير
تجاه التّصويت نفسه، بالرّغم من أنّه يشكّل جزءا من التّعريف الرّسميّ
للدّيمقراطيّة. ثمّ شاهدنا ظهور الخطابات القديمة، خطاب كوهين بندي في
الخطّ الأماميّ الّذي يقول إنّ الدّيمقراطيّة هي الّتي أوصلت هتلر، إلخ.
وكلّما كانت المواقف شبه المهيمنة هي مواقف من ندعوهم بالمثقّفين الّذين
يرون في الدّيمقراطيّة نفوذ الفرد المستهلِك المشكَّلformaté ، كانت
المديوقراطيّة (2) تمثّل المواقف الّتي نجدها من اليمين إلى اليسار
المتطرّف، لنقل من فنكلكراوت Finkielkraut إلى "تكّون" Tiqqun (3).
لا يمنع ذلك أن يدّعي كلّ النّاس أنّهم ديمقراطيّون.إطلاقا! يقال: الدّيمقراطيّات هي الّتي تحدّد الدّول، وتجعل من
الدّيمقراطيّ عدوّا للدّيمقراطيّات. إنّه الموضوع الّذي طوّرته [اللّجنة]
الثّلاثيّة (4) منذ أكثر من ثلاثين سنة: الدّيمقراطيّات، أي البلدان
الغنيّة الّتي تتهدّدها الدّيمقراطيّة، أي نشاط الدّيمقراطيّين غير
المراقب، نشاط كلّ من يريد الانشغال بشؤون الأمّة.
إنّنا نشاهد اليوم شيئا مّا يعود بنا إلى أصل كلمة [ديمقراطيّة]: فإن
انعقد إجماع، منذ أن وجدت الكلمة، فإنّه قد انعقد على فكرة أنّ
"الدّيمقراطيّة" تعني أشياء مختلفة ومتعارضة. وقد بدأ ذلك مع أفلاطون
الّذي قال إنّ الدّيمقراطيّة ليست شكلا من الحكم، وإنّما هي لذّة النّاس
الّذين يرغبون في أن يتصرّفوا كما يحلو لهم فحسب. وقد استمرّ ذلك مع أرسطو
الّذي قال إنّ الدّيمقراطيّة شيء جيّد شريطة منع الدّيمقراطيّين من
مزاولتها. وقد أثير هذا القول من جديد في العصر الحديث مع عبارة تشرشل
المبتذلة عن الدّيمقراطيّة، فهي شرّ الأنظمة باستثناء الأنظمة الأخرى.
وإذن لا أعتقد أنّه يوجد إجماع ماعدا ذاك الّذي يتمثّل في تجزئة المفهوم.
أجد في هذا المفهوم عبارة عن مثلّث نجد في قمّته الحرّيات والنّظام
البرلمانيّ، والدّيمقراطيّة وفق رنسيار، أي سلطان الّذين لا صفة لهم في
ممارسته. فهل هي كلمة متعدّدة المعنى إلى هذا الحدّ، تحيط بأشياء شديدة
الاختلاف، ويجمُل حفظها، أم يتعلّق الأمر بكلمة قد ابتذلت؟ ذلك أنّه توجد
كلمات يبتذلها الاستعمال. فكلمة "الجمهوريّة" مثلا: في سنة 1825 كان يقطع
رأس كلّ من يدّعي أنّه جمهوريّ، واليوم، هي لا تعني شيئا. أعتقد أنّه ليس من خواصّ المفاهيم السّياسيّة أن يكون تعدّد المعنى
فيها يقلّ ويكثر، وإنّما أن تكون موضوع صراع. فالصّراع السّياسيّ هو أيضا
صراع من أجل الاستحواذ على الكلمات. يوجد حلم فلسفيّ قديم، وهو اليوم حلم
الفلسفة التّحليليّة، ويتمثّل في التّعريف بإحكام بمعاني الكلمات على نحو
يقضي على الغموض وتعدّد المعنى. ولكنّي أعتقد أنّ الصّراع على الكلمات
مهمّ، وأنّه من الأمور العاديّة أن تعني الدّيمقراطيّة أشياء مختلفة
باختلاف السّياق: فعند المثقّف الفرنسيّ المتوسّط تعني الدّيمقراطيّة نفوذ
حريف الأسواق الكبرى، المسترخي أمام تلفازه، وها إنّي أعود من كوريا الّتي
سقطت الدّيكتاتوريّة فيها منذ عشرين سنة فحسب، ونجد فيها فكرة السّلطة
الجماعيّة المنفصلة عن آلة الدّولة، ويعني ذلك أنّ شيئا مّا يُتَرْجَم
بأشكال مذهلة من احتلال الشّعب للشّارع. إنّي أريد حقّا أن يوجد بعض
الابتذال في الكلمة هنالك حيث ابتدعت، في الغرب، ولكن إن فكّرنا في كلّ ما
يجري بآسيا، فإنّه مازال للكلمة معنى. فلو وجدنا كلمة أفضل تسدّ مسدّ
[كلمة] الدّيمقراطيّة فإنّي أريد ذلك، ولكن ما هي؟ المساواتيّة (5)؟ لا
تعني بالضّبط الشّيء نفسه. "الدّيمقراطيّة"، إنّها المساواة وهي هناك في
قلب اللاّمساواة. ما هي الكلمة الّتي لم تنجّس؟ ثمّ ينبغي أن نعلم ما نقوم
به حين نطلق كلمة، و[نعلم] ما هي القوّة المسلّحة أو العزلاء، هاهنا يكمن
المشكل عندي.
أتساءل إن لم تكن
الدّيمقراطيّة، وهي ليست عندك بشكل في الحكم ولا بشكل مجتمع، مجرّد مثال
لا يمكن بلوغه. أو لعلّها تكون أداة نقد، أو ضربا من السّلاح السّجاليّ.كلاّ، ليست مثالا بما أنّي أشتغل دوما على المبدإ الجاكوتيّ (6) الّذي
يعتبر أنّ المساواة هي افتراض لا غاية تدرك. ما أريد قوله هو أنّ
الدّيمقراطيّة، بمعنى سلطان الشّعب، سلطان من ليست لهم صفة خاصّة لممارسة
السّلطة، إنّما هي الأساس ذاته الّذي يجعل السّياسة أمرا يمكن التّفكير
فيه. فإذا كان السّلطان يخصّ أعلم النّاس وأقواهم وأثراهم فإنّنا لا نكون
في السّياسة. هذه هي حجّة روسو: سلطان الأقوى لا ينبغي أن يظهر على أنّه
حقّ، فإن كان الأقوى هو الأقوى فليفرض نفسه وكفى. فلا حاجة له إلى تسويغ
آخر. أرى أنّ الدّيمقراطيّة إنّما هي فرضيّة التّساوي الّتي على أساسها
يتوجّب حتّى على نظام أوليغارشي (7) كنظامنا أن يضفي تقريبا الشّرعيّة على
نفسه. نعم للدّيمقراطيّة وظيفة نقديّة: إنّها ركن المساواة المدمجة مرّتين
موضوعيّا وذاتيّا في جسم الهيمنة، وذاك ما كان يمنع السّياسة من أن تنقلب
إلى شرطة.
في الصّفحة الأخيرة
من "مقت الدّيمقراطيّة" كتبت "ليس مجتمع المساواة مجموعة من علاقات
التّساوي الّتي تتحدّد الآن وهنا من خلال أعمال فريدة وعارضة"، وهو ما
يذكّرني بمقطع آخر ورد في "أطروحات" في السّياسة، وهي عندك مفهوم قريب
جدّا من مفهوم الدّيمقراطيّة: " السّياسة تحدث مثل حادث يكون دوما مؤقّتا
في تاريخ أشكال الهيمنة"، أو ما ذكرته في آخر "اللاّتفاهم": "السّياسة في
خصوصيتها، هي شيء نادر. فهي دوما محلّيّة طارئة." الدّيمقراطيّة،
والسّياسة العرضيّة المؤقّتة الطّارئة… أفلا تكون هذه الضّروب من الظّهور
المباغت القصير ودون غد ممثّلة لرؤيا متشائمة لحركات الانعتاق؟لا أعتقد البتّة أنّي تحدّثت عن نجوم قصير وبلا غد. ولم أقترح رؤيا
للتّاريخ توجد فيه انبثاقات ثمّ يؤول كلّ شيء بعدئذ إلى الرّكود. ففي
النّصّ الّذي سقتموه حاولت أن أقول فحسب إنّ المساواة موجودة بوصفها
مجموعة من الممارسات الّتي تحدّد المجال: فلا وجود لواقع للمساواة غير
واقع المساواة. ولم أقصد من قولي إنّ المساواة لا توجد إلاّ فوق المتاريس،
وما إن تتحطّم المتاريس ينتهي كلّ شيء، ونعود إلى حال الوهن. لست مفكّر
الحدث ولا ما ينجم، ولكنّي بدل ذلك مفكّر الانعتاق بوصفه شيئا له تقليد
وتاريخ لم يصنع بمآثر الأعمال الكبرى فحسب، وإنّما بالبحث من أجل ابتداع
أشكال مشتركة لا تكون أشكال الدّولة، ولا أشكال الإجماع، إلخ. بطبيعة
الحال توجد أحداث تسطّر وتفتح زمنيّات مثل الأيّام الثّلاثة من جويلية
1830 الّتي فتحت فضاء اندلفت فيه بعدئذ الجمعيّات العمّاليّة وانتفاضات
1848 والكمونةla Commune .
توجدالمساواة من خلال هذا، في راهنها، لا كمثال يمكن بلوغه بفضل
إستراتيجيّة جيّدة، وإدارة رشيدة، وعلم فاضل أو شيء آخر. بصراحة لا أرى
لِم كان هذا الموقف أشدّ تشاؤما من المواقف الأخرى. لننظر إلى عدد
الإستراتيجيّين الثّوريّين الكبار الموجودين بإيطاليا. وماذا [نجد]؟ نجد
برلسكوني. ينبغي أن نحاسب يوما مّا جميع هؤلاء النّاس الّذين بحوزتهم
مفاتيح المستقبل، وعندهم أجود الإستراتيجيّات السّياسيّة، أن نحاسبهم على
كلّ ما يجري لنا اليوم. فإن كانوا هم المتفائلين وأنا المتشائم، هم
الواقعيّين، وأنا الحالم… (ضحكات)
بالنّسبة إلى شخص كشخصك قد اشتغل كثيرا على الأرشيف لا أشعر بأنّ عملك قد ارتبط إلى هذا الحدّ بالماضي.بلى، أظنّ أنّه توجد تقاليد في الانعتاق. وأنا أحاول أن أشتغل على هذا
الأمر، وعلى تقليد آخر غير ذلك الّذي احتجزته الرّؤى الإستراتيجيّة،
اللّينينيّة وشركاؤها. لم أتوقّف يوما عن النّضال ضدّ فكرة الحتميّة
التّاريخيّة. فأن أكون قد اشتغلت على الأرشيف، فقد علّمني ذلك على الأقلّ
شيئا، وهو أنّ التّاريخ قد صنع من أناس ليست لهم سوى حياة واحدة. ويعني
ذلك أنّ التّاريخ لا يصنع شيئا، ولا يقول شيئا، وأنّ ما نسمّيه تاريخا قد
حبكه أناس قد شيّدوا زمنيّة انطلاقا من حياتهم الخاصّة، ومن تجاربهم
الخاصّة. إنّنا نروي تاريخ الذّوات الكبرى كالطّبقة العمّاليّة والحركة
العمّاليّة، ولكنّنا نرى جيّدا في الواقع أنّه توجد قطائع في النّقل،
وخيوط لها صلة بالماضي تنفصل ثمّ يعاد وصلها… انظر ما حصل بعد 68: فبعد
سنوات من الجحود والكره، أتى جيل اهتمّ من جديد بما جرى في سنوات 1960،
الّتي تشمل الماويّة، إلخ. فهذه الأجيال الجديدة تحاول أن تمنح معنى لبعض
الكلمات، وبعض الآمال المرتبطة بهذه الكلمات، في سياقات مختلفة، وبأشكال
نقل هي بدورها مختلفة وبنت الصّدفة.
الإثنين ديسمبر 14, 2009 6:25 am من طرف هذا الكتاب