هل يخرج الرئيس من الصورة؟
صور في شوارع دمشق.. |
وسيم إبراهيم
03/06/2011
في
عام 1987، أرسل الرئيس حافظ الأسد صوره إلى الفضاء الخارجي. كانت من بين
أشياء قليلة حملتها مركبة "سيوز" الفضائية، لتصاحب رائد الفضاء السوري
محمد فارس ومصطحبيه الروس. وفي المقابلة الشهيرة، التي جمعت الرئيس من على
سطح الأرض، ومحمد فارس في الفضاء الخارجي، رأينا الصور. كانت صور للرئيس
ملصقة على أحد جدران محطة مير الفضائية. دار حديث غرائبي بين المواطن
والرئيس، بيّن بشكل جلي كيف يمكن لمواطن أن يحدث رئيسه وكأنه يتحدث إلى
صورته. سأله الرئيس "ماذا ترى وأنت على هذا الارتفاع الكبير عن الأرض".
فرد فارس: "في الحقيقة إني مسرور جدا وسعيد لأني أرى بلدي الحبيب، أراه
رائعا جميلا كما هو في الحقيقة (وليواصل نقل "مشاهداته"، يلتفت رائد
الفضاء وكأن في جانبه نافذة يرنو منها ليتابع) إنني أرى سواحله الجميلة
الرائعة، أرى جباله الخضراء الجميلة وأرى سهوله، أرى جبل الشيخ شامخا
وجولاننا الحبيب، إني أرى كل بقعة فيه رائعة جميلة، إنني جدا سعيد لهذه
المشاهدة". وللأمانة، فمركبة الفضاء كانت تمرّ للمرة الأولى فوق سوريا.
كان مشهد المقابلة وديكوراته محكما للغاية. أرانا "المخرج" أن الرئيس خلف
مكتبه، وهو يتابع عبر ثلاث شاشات "مونتر" صغيرة محدثه في محطة الفضاء.
مشاهد كتلك يمكن أن تُقرأ: الرئيس هو خلف الانجاز، الوضع والناس تحت
ناظريه، كما لو أنه يتابع كل شيء من خلف شاشات "مونتر". وغير ذلك، صوره في
مركبة فضائية كأنها كانت تقول للسوريين: لن تفلتوا مني، حتى لو صرتم في
الفضاء الخارجي.
بعد ذلك بعقدين، ذهابا وإيابا، بمحاذاة الجدران العالية لمقرّ أمني، كان
من المتعذّر الخروج من هاجس ما تخبّئه. كنت أحاول أن أبدو مواطنا عاديا
جدا، ليس في حركته ما يستحق لفت الانتباه. كنت أتصرّف وكأني مشكوك بأمري،
سلفا. خصوصا في الذهاب، ففي الإياب كنت أعتمد على منظر ربطة الخبز فوق
راحتي، وعلى أكياس الخضار النافرة الأوراق، للإيحاء بالعادية. الحراس
باللباس المدني مدججون، وكان من المستحيل أن أكون طبيعيا. تحملت ذلك
كضريبة لا مفرّ منها، عندما يكون أحد مقار المخابرات على طريق تزودك
بحاجياتك. حتى وقتها، لم تكن قد استوقفتني الصورة. في الملحمة، كنت أكتفي
بمراقبة عمل صاحبها. نظافته المريحة، وهدوءه الغريب. كان رجلا خمسينيا
وسيما، بشنب شامي عريض ومتطاول قليلا إلى الجانبين. كانت الصورة تمرّ كجزء
من ذلك الديكور المعتاد لتفكيري بالرجل، وعلى وقع لهجته الشامية العتيقة
في جمله المقتضبة مع ولده. كانت الصورة لطفل رضيع. لم أفكر فيها مطلقا،
وحتى بالكاد لمحتها. توّا، صنّفتها الذاكرة المسبقة، في باب الثانويات،
إما أحد أحفاده، أو صورة كالتي تبيعها البسطات: فكرة جمالية حاذقة لكسر
عنف المكان ودمويته بلمسة طفولية. وكما يحصل في لقطة كاميرا، تدور في
اعتياد قبل أن يصطادها تفصيل وعته بغتة، التصقت عيوني بشرح الصورة: ابن
الرئيس. مستحيل. تمعّنت. ليس في لباس الطفل وحوله ما يدلّ أنه طفل رئاسي.
لا شيء مطلقا، فالصورة لم تأخذه في حضن أحد، واكتفت بالتقاط وجهه عن قرب.
لماذا يضع صاحب الملحمة الصورة، وأيّ نوع من رسالة "الولاء" يوجّه، وهل
للأمر دخلٌ بالأسوار العالية القريبة، ثم الأهم: من وزّع الصورة؟ في ذلك
الوقت، كانت مرّت سبع سنوات على "العهد الجديد".
عندما تسلّم الرئيس قيادة الدولة، سرت شائعة امتعاضه من صوره. لا نعرف
كيف، ولكن كثر الحديث عن أن الرئيس لا يريد صوره في كل مكان كما والده.
الرئيس ينتفض على صوره! في مكان من الشائعة كان ثمة تلمّس للمنطق. قيل أن
الصور تلصق كثيرا على السيارات، وفي قانون المرور لا يسمح بحجب الرؤيا.
والرئيس جديد، ومن جدّة حضوره كان الحريص على التزام القانون، لذا لم يبد
مقبولا، بعد الآن، أن يحجب حبّ الرئيس الرؤيا. جرت الأحاديث، وسُمع عن صور
تزال، لكن المخرج واصل "ابداعاته" بعدته القديمة. بعد وقت تبيّن أن الرئيس
لا زال في الصورة. بل صار يسكن فيها، ويعيش، وينشئ عائلة. صارت الصور،
الصور في ذاتها، تتناسل ذاتها وتلد صور أطفال رضّع.
للأسف، لا يعرف عموم السوريين عن رئيسهم أكثر من صوره. وعلى كل حال، يبدو
مستحيلا التعامل مع الوضع السوري والرئيس مقيم في الصورة. الوضع معقد،
والاحتجاجات الشعبية تتوسع وتتعمّق، والمطالب واضحة كعين الشمس. مع ذلك،
بقي "المخرج" مصرا، ولم يخرج الرئيس من الصورة. حتى أنه كان غريبا في خطاب
مجلس الشعب، وأصابت ضحكاته العريضة، في تلك الأوقات العصيبة، المنتظرين
بالعجب قبل الإحباط. بدا كأنه متمسك بتقليد ملامحه في الصورة، وتكرارها.
ومع تطور الاحتجاجات لم يتغير الكثير. بقينا نرى الرئيس يستقبل الوفود، في
الصور. وفود ممثلين، تجار، شباب وأعيان المحافظات، وكل يوم وفد جديد. أوحت
تلك الصور بأن مهام الرئاسة تغيرت، وصار القصر الرئاسي أقرب إلى: "قصر
المواساة". ما المغزى؟ مثلا، الرئيس ليس لديه حلول، لكنه يواسي الناس!
ينتشر الكلام بأن الرئيس يرد على انتقادات قوات الأمن واتهامها، ومنها ما
وجهه أعضاء الوفود، بالقول أنه حصلت بعض الأخطاء. لكن الأخطاء لم تتوقف.
ولمن يريد أن يلحق الرئيس "على الكلمة"، فعليه أن يتذكر أن الرئيس قطع
الطريق أمام من أراد ملاقاته سابقا، من تحمّس لاحتمال خروجه من الصورة،
وقال لهم أن خطاب القسم هو رؤيا ونهج، وليس وعودا. أحد أبرز أدوات التأريخ
للرؤساء هي خطاباتهم، وكان عجيبا أن يجابه الرئيس بإصرار خطابه، وتجد من
يقول "شو لاحقين الرئيس على الخطاب"... هل هي أحجية؟ بالطبع لا. المخرج
نفسه. أساسا، تغوّل وعنجهية الأمن هي من أشعلت الأزمة، وأفعالها سعّرتها.
الرئيس في الصورة، وهي تستخدم أكثر من أي وقت مضى في حجب الرؤيا، وهكذا لن
يجد "آكشن" ذات "المخرج" حرجا في التوبيخ: " شو لاحقين الرئيس على الفترة
الرئاسية"! الآن يُلمح كلام وقرارات من نوع آخر، فهل ستتبعها أفعال من نفس
النوع... هل بدأ الخروج من الصورة؟
(ملاحظة: تحيا الانتفاضة السورية، بفضلها صار يمكن القول: من المستحيل أن يكون هذا واقعا... هذا كاريكاتور)