كانت
قناعتي السياسية ، وما زالت ، أن مصر في المرحلة الانتقالية المقبلة بحاجة
إلى رئيس للجمهورية غير "مؤدلج" ، ولا ينتمي إلى تيار سياسي أو عقائدي له
حضور مسيس في الشارع المصري ، رئيس أقرب إلى شخصية القاضي أو الإداري
المتميز أو الحقوقي المرهف ، وهي قناعة تفرضها لحظة التحول ، وحاجة كل
القوى إلى الاطمئنان السياسي ، والشعور بالأمان إلى أن "رأس الدولة" لا
يحمل تحيزا لجهة أو تيار سياسي أو عقائدي محدد ، في نفس الوقت الذي يحمل
فيه خصائص إنسانية وأخلاقية تجعله حكما وعادلا وصاحب ثقافة سياسية وقانونية
وحقوقية متميزة .
من هنا كان ترشيحي للدكتور محمد البرادعي ، الذي تصورت أنه الأقرب بين
المرشحين الحاليين لتلك المواصفات ، لكني فوجئت بالرجل وهو يندفع بقوة إلى
"فخ" الانحياز الأيديولوجي ، والارتكان إلى دائرة صغيرة وضيقة الأفق ومترعة
بالجشع السلطوي والمالي ، دفعت به إلى خصومة مبكرة ومؤسفة مع القطاع
الأوسع من الشعب المصري ، بل جعلته في صدام حقيقي مع إرادة الشعب ، ومستخفا
بأبجديات حقوقه في الممارسة الديمقراطية ، أن يفرض إرادته واختياره في
استفتاء عام حر وشفاف .
خسر البرادعي كثيرا بموقفه السلبي من الاستفتاء الدستوري ونتائجه ،
وخسر أكثر عندما تصادم مع التيار الإسلامي تحديدا ، ولا أقصد ذلك التيار
الإسلامي المؤطر في جماعات أو أحزاب ، وإنما أقصد التيار المليوني الذي
يمثل نسيج مصر الحقيقي والعميق الآن في المدن والقرى والبوادي والأرياف وفي
مختلف الشرائح الاجتماعية والطبقية ، وهذا التيار الهائل عندما يخسره أي
مرشح أو يهينه أو يحاول استفزازه أو احتقاره ، فإنه ينهي مشواره السياسي
مبكرا جدا .
لكني ـ للأمانة ـ ما زلت لا أحبذ مرشحا للتيار الإسلامي لرئاسة
الجمهورية ، وقد اندهشت من اقتحام الشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل ، ابن شيخنا
وأستاذنا وحبيبنا المرحوم صلاح أبو إسماعيل ، للانتخابات الرئاسية ، وما
نقل عنه من تصريحات عنترية ، وفيها استعراض زائد للقوة لا يناسب اللحظة
والمقام ، وتحفظي على ترشح الإسلاميين للمنصب لا يتصل أبدا بتقييم شخصي أو
التقليل من قيمة الرجل أو مكانته أو حتى تقديرنا لتاريخه ، ولكنه من باب
الملاءمة للحظة التاريخية الحالية ، وبنفس المنطق أرفض تماما قبول أي مرشح
له انتماء سياسي أو عقائدي صارخ ، يساري أو ناصري أو علماني ، أو تكون له
معارك سابقة مع تيارات الفكر والسياسة في مصر ، لأن هذا سيؤدي إلى حالة
استقطاب شديدة وعنيفة حول شخص رئيس الجمهورية ، ويبعث برسائل قلق وعدم
اطمئنان إلى بقية القوى التي لا يمثلها ، خاصة وأنه منصب الفرد الواحد ،
بخلاف البرلمان ، الذي إن غلبت عليه قوة أو تيار إلا أن بقية القوى ستكون
ممثلة فيه بدرجة أو أخرى ، كما أن البرلمان المقبل لا أشعر بأي قلق من
هيمنة تيارات سياسية وعقائدية عليه ، لأن المستقلين سيكونون هم رمانة
الميزان فيه ، ولن يقلوا عن نصف البرلمان ، وسيوزعون على أحزاب أخرى بكل
تأكيد فيما بعد .
أيضا ، أتمنى أن تكون روح الدستور المقبل متجهة إلى الجمهورية
البرلمانية ، فمصر ـ بكل تأكيد ـ في حاجة إليها لعدة عقود من السنوات
المقبلة ، حتى تبرأ من روح الفرعونية وبصماتها التي حفرت في الدولة
ومؤسساتها ، لا بد من تحول منصب الرئيس إلى منصب شرفي أو أقرب إلى ذلك ،
لعشرين أو ثلاثين عاما مقبلة على الأقل ، لأن هذا المنصب تحول إلى نوع من
"الوثنية" السياسية في البلاد ومؤسساتها ، في الشوارع والميادين وأقسام
الشرطة والوزارات والإدارات والشركات والمصانع والمطارات ومحطات القطارات
والمترو والفنادق وحتى المحلات الصغيرة ، يفرض نفسه "الوثن" وصوره ، وهي
وثنية تعود إلى ثقل وطأة الزعيم أو الرئيس أو القائد ، وسيطرته المطلقة على
كل شيء في البلد ، بفعل دستور مخصص لصناعة الطغاة ، آن لتلك الوثنية أن
تنزع من ثقافة المؤسسات الرسمية والخاصة ، وهذا لن يكون إلا بتحول مصر إلى
جمهورية برلمانية ، يختفي فيها الزعيم والقائد ، ويبرز فيها الشعب وأحزابه
وقواه السياسية ومجتمعه المدني وقضاؤه وبرلمانه كوطن ودولة وحكم وحكومة تسع
الجميع وتجعل المواطنة درجة واحدة في الكرامة والحقوق ، وليس عشر درجات أو
أكثر كما كان في زمن الديكتاتورية .