حين تصبح المعجزة حجّة، يدخل
العقل في حالة من التعطيل الإدراكي والمعرفيّ، وبقدر ما تحضر المعجزة ينتهي
دور الفعل الإنساني معها أمام الفعل الإلهيّ "الافتراضيّ" الذي يجري فرضه
كمطلق غير قابل للجدل، مانعا التساؤل والتشكيك ليصير أيّ انزياح عن هذا
الخطاب منطقا تحريفيّا "تضليليّا". وحيث يحضر الخوف من مواجهة الواقع، ينام
العقل وتصحو الرغبة لإنتاج واقع متخيل يصير بديلا للواقع المعاش.
في كتابه "المعجزة أو سبات العقل في الإسلام"، يحاول الباحث والمفكّر
جورج طرابيشي رصد هذا التوجّه الذي هيمن لعقود طويلة على العقل الإسلامي
العربيّ، هذا العقل الذي تغذّى من ثلاثة عوامل أساسيّة: أولها التسلّط
السنّيّ الرسميّ "الأمويّ والعبّاسيّ" للخلافة الإسلامية عبر إنتاج خطاب
يعزّز مشروعيته ويكرّسها، وثانيها التهميش القسريّ الذي لحق الإسلام
الشيعيّ وإقصاؤه عن (حقّه) في الخلافة. وثالثا، دخول أمم كثيرة في إسلام
الفتوحات، حيث المعجزة اللغوية غير مفهومة لديهم، فكان لا بدّ من طريقة
تحاكي المخيال الجمعيّ لمعتقداتهم، حيث المعجزة حاضرة في كل الديانات.
أمَا فيما يخصّ معجزات "الأئمة الاثني عشر"، جاء نتيجة للإقصاء
والتهميش، مع ما رافقه من تشتّت وتمزّق في الصفّ الشيعيّ وضعف المواجهة في
استرداد ما يعتبره "حقّا". كان لا بدّ من خطاب "ميثولوجيّ – تعويضيّ" يحقق
قدراً من التماسك والاعتبار لذات مجروحة ومنكوبة.
عبر هذا المسار يحاول طرابيشي مقاربة النصوص واستنطاقها مبينا تناقضاتها
من خلال تفكيكها وإعادة تركيبها ضمن سياقها التاريخي، بشكل عقلانيّ بعيداً
عن الهوى، واضعا إصبعه على آفة العقل : "المعجزة"، والتي كانت السبب
الرئيسي في سُبات العقل محملاً بذلك الذات مسؤولية التردّي والانحطاط الذي
آل إليه العقل، رادًا بذلك على محمّد عابد الجابري لعدم تناوله هذا العامل
المهمّ والأساسيّ الذي يصادر العقل العربيّ الإسلاميّ، حيث يعتبر الجابري
أنّ كلّ ما لحق الإسلام من شوائب هو من الآخر "البرّاني" في محاولة لتبرئة
الذات وإلقاء التهم على مشجب الآخر.
يعود بعدها طرابيشي إلى الإسلام القرآني، معتبرا إيّاه، حالة فارقة عن
الديانات السابقة لعدم تضمين رسوله أيّ إعجاز، واعتبار الإعجاز الوحيد هو
في لغة القرآن البيانية والذي أنزل لقوم "يعقلون"، مستشهدا بعشرات الآيات
التي تنفي حدوث المعجزات للرسول ومن بعده. نسوق بعضا منها على سبيل المثال
لا الحصر.
في الفصل الأول من الكتاب "نبيّ بلا معجزة"، وهو محور البحث، يرى
طرابيشي أن الآيات، بمعنى المعجزات، هي عنوان لمحاورة مركزية في الخطاب
القرآني. الطرفان الرئيسيان في هذه المحاورة اثنان لا ثالث لهما: الله من
جهة أولى والمشككون أو المتشككون في رسالة رسوله من المشركين ومن أهل
الكتاب سواء في مكة أو في المدينة، من جهة أخرى.
نموذج هذه المحاورة تقدمه لنا الآية "وقالوا لولا نزّل عليه آية من ربه،
قل إنّ الله قادر على أن ينزل آية، ولكن أكثرهم لا يعلمون". (الأنعام /37
).
أما الآيتان (94-95 /يونس)، فتذهبان إلى أبعد من ذلك، إذ تتوعّدان
الرسول نفسه بأن يكون من الخاسرين إذا امترى وانتابته الشكوك في ما أنزل
إليه، لمجرّد أن ما أنزل عليه ليس مسنودا بمعجزة، خلافا لمن خلا قبله من
الرسل والأنبياء : "فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون
الكتاب من قبلك لقد جاءك الحقّ من ربك فلا تكونن من الممترين، ولا تكونن من
الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين".
وبما أنّ كلّ الأنبياء رافقتهم معجزات مادّية ومحسوسة، فإنّ الرسول
محمّد كما يجيب القرآن لم يأت بمعجزة، ويعلّل طرابيشي ذلك بالنص القرآني،
حيث يحدّد خمسة مستويات للتعليل وفي كلّ تعليل هناك عشرات الآيات، وهي :
1. التعليل بالتكذيب: "وإن يكذّبوك فقد كذّبت قبلهم قوم نوح وعاد
وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين وكذّب موسى" ( الحج / 44 ).
2. التعليل بالتأويل السحريّ: فعيسى بن مريم، الذي أذن له الله أن يبرئ
الأكمة والأبرص وأن يحيي الموتى، قوبلت معجزاته من قبل الذين كفروا من قومه
بقولهم :"إن هذا إلا سحر مبين" (المائدة / 110). ومن قبله موسى "ثم بعثنا
من بعدهم موسى وهرون إلى فرعون وملأه بآياتنا فاستكبروا"، و"قالوا إنّ هذا
لسحر مبين " (يونس / 75-76). فموسى قد رمي بأنه "ساحر كذّاب" (غافر / 24)،
فما الداعي لأن يركب الرسول المركب نفسه؟ ألم يرمه قومه بأنه "ساحر كذّاب"
(ص / 4).
3. التعليل بالتعذيب : إذ ليس بعد برهان المعجزة سوى نار جهنم. "سل بني
إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإنّ
الله شديد العقاب" (البقرة /211). "إنّ الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم
نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب " (النساء /
56).
4. التعليل بعدم النجاعة وعدم العلمية : من قال إنّ الرسول نفسه هو
المكلّف بإقناعهم؟ - سؤال مهمّ يسوقه المؤلّف- فهو ليس له من مهمة أخرى سوى
التبليغ، وباستثناء التبليغ فهو مكفوف اليد : "ليس لك من الأمر شيء" (آل
عمران / 128). فالرسول معرّض للمساءلة والملام إذا عارض المشيئة الإلهية،
"أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين" (يونس / 99). إنّ المشيئة الإلهية،
لا المعجزة، هي التي تتحكّم بإيمان الناس أو عدمه : "ولو أننا نزّلنا إليهم
الملائكة وكلّمهم الموتى وحشرنا عليهم كلّ شيء قبلاً ما كانوا ليؤمنوا إلا
أن يشاء الله" (الأنعام / 111).
5. التعليل بالآيات الكونية: والتي تكاد تؤلّف نصف القرآن المكّي. ونجد
واحدا من أتمّ نماذجها في الآيات 20-25 من سورة الروم. لكن ثمة توضيح
وتساؤل ختاميّ يسوقه المؤلّف: فالمعجزات الكونية إن أريد لها أن تكون شاهدا
فهي لا تشهد في هذه الحال إلا على إلوهيّة الله وكلية قدرته. والحال أنّ
طالبي برهان المعجزة من أمّيين وكتابيين ما كانوا يمارون في تلك الإلوهية
ولا في كلية القدرة هذه، وإنما كان مطلبهم معجزة أو معجزات تشهد على
رسالته. وفي أنظارهم على الأقل، ما كانت تلك تغني عن هذه.
إعجاز القرآن:"أم يقولون تقوّله بل لا يؤمنون، فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين"
(الطور / 23-24).
" قل لئن اجتمعت الأنس والجنّ على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون
بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا" ( الإسراء / 88 ).
لقد غدت فرضية الإعجاز عقيدة مركزية في جميع كتب التفاسير وعلم الكلام،
وتم تكريسه بوصفه المعجزة الباقية على مدى الزمن لرسول ما أوتي بمعجزة
غيره.
والسؤال هنا: أنه في سياق ما قدم من عرض لآيات القرآن تشدد على أن
الرسول لم يؤت معجزة إلا القرآن ذاته، فبماذا يعلّل الباحث معجزة
"الإسراء"؟ "سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد
الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا أنه هو السميع البصير". والسؤال،
لماذا أسرى ليلا؟ وما هي الحكمة في أن لا يراه أحد؟.
الإسلام السلفي يعتبر الإسراء من أفضل المعجزات التي اصطفاها الله
لرسوله محمد، دون سائر الأنبياء، فكان الرسول "الأعظم" إضافة إلى كونه
خاتما وناسخا للشرائع التي كانت قبله. واستطرادا على هذه المعجزة، ماذا
يقول طرابيشي، في"معجزة موقعة بدر"؟. وما قصة التباين في أعداد الملائكة؟
حيث يقول حسين بن مخارق عن سعيد عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال : "لم
تقاتل الملائكة إلا يوم بدر". وفي ذلك إجماع إسلامي.
" إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم إني ممدّكم بألف من الملائكة مردفين".
(الأنفال/9).
" إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة
منزلين ". (آل عمران/124).
" بلى أن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من
الملائكة مسومين".(آل عمران/125).
انطلاقا مما تم عرضه، يكشف لنا الكاتب زيف كلّ ما نقل ودّون من معجزات
نسبت إلى الرسول، أو آله وحتى صحبه. في الوقت ذاته يبدي المؤلف تفهّمه
للمعجزة وتضخيمها، معتبرا أنّ إسلام الفتوحات الذي أدخل إليه أمما كثيرة
غير ناطقة بالعربية كانت بحاجة لآيات حسّية كي تثبت إيمانها، حيث المعجزة
البيانية معجزة عقلية إن جاز التعبير، اقتصرت على من يفهم لغة القرآن، لذا
كان من الضروري إيجاد معجزات تتماهى مع اليهودية والمسيحية الإنجيلية لتزيد
عليها، وكأنها في حالة سبق معها.
في الفصل الثاني، عنوان رئيسيّ، يصف التضخّم الهائل الذي لحق بالنبيّ،
والعنوان هو:" نبيّ ثلاثة آلاف معجزة"، وهذا الرقم يقارب ما وصلت إليه
المدوّنات الشيعية للأئمّة ألاثني عشر حيث بلغت ألفين و63 معجزة.
يعرض المؤلف في هذا الفصل تطور المسار التضخيمي للمعجزة لدى كتاب السيرة
النبوية، إذ تبدأ عند ابن هشام في مطلع القرن الثالث الهجري بعشر معجزات
حصراً، وهي على التوالي:
سلام الحجر والشجر عليه، تحريك الشجرة، إعماء القرشيين، سيف عكاشة بن
محصن، عين قتادة بن النعمان. معجزة الكدية: يوم حفر الخندق، معجزة تكثير
التمر، تكثير الطعام، تحطيم الأصنام، معجزة نبع الماء. لتتضاعف بعدها أربع
مرات لتبلغ نحو أربعين بعد قرنين أي في مطلع القرن الخامس الهجري عن
الماوردي في "أعلام النبوة"، ليأتي من بعده البيهقي في مصنّف "دلائل
النبوّة" بتنويعاته للموضوعة الواحدة متفردا عن غيره في ذكر معجزات لا
للرسول وحده بل صحابته أيضا. أما القاضي عياض فقد ضمّت سيرته (الشفا بتعريف
حقوق المصطفى) في النصف الأول من القرن السادس، نحوا من مئة وعشرين آية.
ليأتي في القرن الثامن الهجري ابن كثير في كتابه "البداية والنهاية"
فيتوسّع في توصيف الرواية منتقلا بها من الآحاد إلى العشرات لإعطائها
المزيد من المصداقية، حيث الجدل على الآحاد كبير جدا.
وهكذا تتواتر المعجزات وتتضخّم، لتحطّ رحالها عند السيرة الحلبية
المصنفة في القرن الحادي عشر الهجري. وقد بلغت ما يقارب الثلاثة آلاف
معجزة. لم تتناول الرسول فقط قبل بعثه وبعده، بل تناولت قبيلته وجدّه وأمّه
ومرضعته، عبر عملية أسطرة لا سابق لها.
الفصل الثالث من الكتاب يتناول "معجزات الأئمّة". وللقارئ أن يتأكّد أنّ
نهج البلاغة المنحول للإمام علي لم يأت على أيّ ذكر لمعجزة.
لكن أمام المعجزات التي تسوقها المدوّنات السنّية للرسول ومن بعده
الخلفاء الراشدين الثلاثة، كان من الطبيعيّ أن يحضر خطاب المعارضة الشيعيّ،
مستندا في البدء على النبيّ لإعطاء شرعية الولاية من بعده إلى الإمام عليّ
ومن بعده باقي الأئمة الاثني عشر. وثانيا عبر تأويل النص القرآنيّ، بما
يخدم خطّهم السياسي والديني بجعلهم وحدهم المؤتمنين على القرآن وسنّة
النبيّ، باعتبار أنهم حجّة الله على الأرض "فالله الحجّة البالغة"، وهو ما
يجعل العصمة تنتقل من الرسل إلى الأئمة، نوّاب الله على الأرض.
معجزات الإمام علي: يعتبر طرابيشي، أنّ تضخيم الخيال كبديل تعويضيّ عن
انكماش الواقع، هو أوّل ما يميّز أدبيات المعجزات الأمامية، فإنّ أوّل ما
يلفت النظر في أوّل معجزة يرويها الطبري الشيعيّ عن أوّل الأئمة، عليّ بن
أبي طالب، هو انفلات الخيال من عقاله إلى حدٍّ يستحضر إلى الذهن غرائبيات
ألف ليلة وليلة وخوارق الإلياذة والأوديسة. وهنا لا يتّسع المجال لإيراد
الروايات كاملة، مكتفين بإشارات، محيلين القارئ إلى الكتاب. مثل ركوب سلمان
الفارسي مع الإمام علي على الحصان المجنّح في السماء، وتسكين غضب البحر،
وإخراج ناقة صالح من جذع شجرة عظيمة. والمعجزة الثانية أتت تحت اسم "كليم
الجام". ولعل أغرب المعجزات وأجرأها كما يروى عن الخصيبي، هو إحياء الإمام
علي للرسول ليشهد له بالخلافة.
وتتعاظم المعجزات في تطويع الإمام لقوى الطبيعة واختراق مقولات الزمان
والمكان، وهي تتكرر في الكثير من القصص التي رويت عن إسراء الإمام إلى سدرة
المنتهى. وهنا يأتي سؤال شيعة الإمام له: يا أمير المؤمنين،هذه القدرة لك
أريتنا إياها وأنت تجهّزنا إلى قتال معاوية، فمالك لا تكفينا ببعض ما أعطاك
الله من هذه القدرة؟." الهداية الكبرى، ص 125 ".
يؤكّد طرابيشي، على ما سبق، أنه من البديهي من منظور الواقع التاريخي،
لا المعجزة حدثت ولا السؤال طرح. ويقطع، أنّ مصنّفي المعجزات هم الذين
تعمدوا طرحه وإخراجه ذلك الإخراج. فعلى هذا النحو أكسبوا ما اختلقوه من
معجزات ظاهرا من مصداقية، فلو لم يطرحوا السؤال لطرحه كل قارئ لتصنيفهم. من
هنا كان الإمام يعلل موقفه الامتناعي بالرجوع إلى الآية (42/الأنفال)،
"ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا". (الهداية الكبرى/126).
معجزات الأئمة الأحد عشر:
علاوة على التوظيف السياسي المباشر، الذي أشرنا إليه، لمنطق المعجزة،
تنفرد المعجزات الأمامية عن المعجزات المحمدية والعلوية معا، بسمات ثلاث
متعيّنة بالإشكاليات الخاصة التي حكمت تطور الإمامية الاثني عشرية في
القرون الثلاثة الأولى:
1-إشكالية الشك والبرهان.
2-إشكالية الانشقاقات الداخلية.
3-إشكالية التصفية الجسدية.
فقد بدأت الشكوك حول هوية الأئمة تثور منذ الإمام السابع موسى الكاظم.
وتعاظمت الشكوك أكثر حول هوية ابنه الأمام الثامن علي الرضا. وليس من قبيل
الصدفة أن يكون الإمام التاسع قد نطق، وهو في السنتين من العمر، بأسماء
سلسلة الأئمة- إلى عهده- كاملة. فهذه السلسلة كانت موضع صراع داخليّ بين
شتّى الفرق التي توزّع بينها أتباع المذهب الإمامي. ودائما تحضر المعجزة
كحجّة لتغليب أو تثبيت إمام على آخر.
أما الإشكالية الثالثة، فإنّ اختيار ساعة الموت في سياق الحتمية
التنبؤية، يحيلنا إلى إشكالية التوفيق بين القدرة الإلهية المعزوّة إلى
الأئمة، وبين سريان مفعول التصفية الجسدية عليهم جميعا، وفي الغالب الأغلب
عن طريق القتل بالسمّ. والحال أنّ أدبيات المعجزات الإمامية تجمع على أنّ
الأئمة كانوا جميعهم يتنبّؤون متى وكيف يقتلون. "ما يعمر من معمر ولا ينقص
من عمره إلا في كتاب" (فاطر/11).فإن الأئمة بعلمهم المسبق بموعد موتهم-
فضلا عن كيفيته- إنما يثبتون أنّ عندهم علم "الكتاب" و"علم الساعة" معا.
وهكذا يتحوّل موتهم بالذات إلى دليل من دلائلهم وبرهان من براهينهم. وفضلا
عن ذلك يحرمون قاتلهم من حرية الإرادة ومن القدرة التي يتوهّمها لنفسه.
في الفصل الرابع، تطالعنا أدبيات المعجزة الشيعية بمسار تضخيميّ مماثل
للأدبيات السنية، فلدى الخصيبي في "الهداية الكبرى"، ما كان تعداد معجزات
الأئمة ألاثني عشر يتعدّى المائة، ومع الطبري في "نوادر المعجزات " ارتفع
العدد إلى نحو مائتين وخمسين، ومع الطبري الصغير في "دلائل الإمامة" ناف
العدد على الثلاثمائة، ولكن مع البحراني في "مدينة المعاجز" ارتفع العدد
إلى أكثر من ألفين.
هذا التضخم لم يبق محصورا بالكمّ، بل شمل أيضا الكيف، فبمرور القرون
تعاظمت القدرة المنسوبة إلى الأئمة على خرق مبدأ الواقع إلى حدّ أضحى معه
الخيال، المسرح البديل-وربّما الوحيد- للفعل في التاريخ.
وهو ما اندرج في مدينة المعاجز تحت العناوين التالية:
1-القدرة على تحدّي قوانين الكون والطبيعة الكبرى.
2-تحدي قوانين الطبيعة الصغرى، وفي مقدمتها البيولوجية.
3-الإلغاء العجائبي للحواجز بين الحياة والموت.
4-الحسم العجائبي للخلافات الأمامية.
الفعل العجائبي كتعويض عن اللافعل التاريخي.
ولنا هنا أن ننوّه إلى أن الشيعة تأخذ بالتأويل وليس التفسير الذي تأخذ
به السنة، باعتبار أن القرآن "حمّال أوجه"، وبالتالي قد لا يعكس الظاهر
حقيقة الباطن، وحتى لا نقف على ظواهر الأمور علينا النظر في شقّها
الفلسفيّ، وهو ما لم يعطه المؤلف حقّه، كما رآه بعض المشتغلين في الفكر
الإسلامي الشيعيّ، ممّن قرؤوا الكتاب، حيث تؤمن الشيعة بإحلال اللاهوت في
الناسوت، وهي حالة غنوصية موجودة لدى معظم الأديان منذ تشكّل الوعي الديني.
فكما كان المسيح كلمة الله على الأرض، ترى الشيعة في الأئمة استمرارا لتلك
الكلمة، كما في الآية "وجعلناها كلمة باقية في عقبه". فمن ناحية دينية
يمكن تفهّم المعجزة، باعتبار أن من يقوم بها هو الله، متجلّيا فيمن
اختارهم. ولنا سؤال، "إن الله وملائكته يصلون على النبي"؟ ترى لماذا ولمن
يصلّي الله؟
العقل الغيبيّ يؤمن بأي شيء إلا العقل النقدي الذي نحن في أمسّ الحاجة
إليه اليوم، لنخرج به من "سبات العقل". وإلا لن يكون لنا مكان تحت شمس
الحضارة، بعد أن أصبحنا أعداءها.
عنوان الكتاب " المعجزة أو سبات العقل في الإسلام " تأليف : جورج طرابيشي الطبعة :الأولى 2008 / 2009 .الناشر : دار الساقي / رابطة العقلانيين العرب