رأس
لانوف: الثوار يسخرون من الموت
|
شاب من الثوار في رأس لانوف أمس (أوغاريت دندش) |
|
|
|
|
|
اوغاريت
دندش
رأس لانوف :
يرقد الثائر خلف الشجرة. سلاحه
مصوب إلى الأمام وعيناه تبحثان عن طريدة. من الجو من البر وحتى من البحر
الرصاص ينهمر من كل مكان. هدير الطائرات يروح ويجيء ليزعق في كل مرة اقرب
قليلاً إلى موقعه. عيناه تائهتان في بحيرة دماء مطعمة بأشلاء صغيرة كانت
لرفيق السلاح منذ لحظات. الخوف غاب من العيون لكثرة ما اعتادت القسوة،
وأصبحت تنتمي إلى كاسر أكثر منه إلى شاب في العشرين. الغضب هو ما يحركهما.
يتمتم بضع كلمات بالانكليزية ليشرح نوع الأسلحة المستعملة، ظناً منه ان
الصحافيين الأجانب هم فقط من يغامرون من اجل صورة، وأن العرب، كما حكامهم،
اقرب إلى القصور من ميادين الواقع. يركز نظره باتجاه المسجد ويطلق بضع
طلقات.
تضرب البوارج المرابطة في البحر المتوسط قبالة شاطئ رأس لانوف
مجدداً. يتفرق الثوار في محيط المسجد الصغير ليتجمعوا بعد ثوان معدودة
ويتوغلوا مجدداً باتجاه وسط البلدة. «رأس لانوف ستطيح برأس معمر»، يؤكد
احدهم وهو يركض باتجاه المسجد، ويشهر خنجراً صغيراً هو كل ما امتلكت يداه
من سلاح، «والله لأذبحك يا معمر. فظحنا (فضحنا) بين العالم حامل خيمته
ويجري بيها (يركض بها)».
يخرج شاب من خلف المسجد وهو يصرخ «قناصة...
احتموا يا شباب. قتلوا راجل (رجل) مخو (دماغه) طلع برا». يهتف الثوار «الله
اكبر» ويركضون في اتجاه إطلاق النار. في لحظات قليلة تتوالى الضربات
الجوية والبحرية ويعلو صوت المضادات الأرضية. تتوتر الأجواء وينبطح الجميع
أرضاً، يزحفون باتجاه مبنى أو بقايا مبنى قريب للاحتماء... أما هو، فيواصل
الركض باتجاه المسجد، يحمل حجراً متوسط الحجم يشهره أمامه ويصرخ بأعلى صوته
«بهادا ابِي واجه الطيارة والمدفع» (بهذا أريد ان أواجه الطائرة والمدفع).
يتشجع ثوار آخرون ويتجهون إلى قلب المدينة. خلت الشوارع من معظم السكان
الذين نزحوا إلى البريقة القريبة، فيما يغامر احد المقاتلين بحمل مذياع
ينادي به في الشوارع ليطالب من يملك قطعة سلاح بأن يتبرع بها للثوار، ويدعو
إلى جمع السلاح الثقيل «فالمواجهة بالمتوسط لم تعد مجدية». ينهي الشباب عن
إطلاق النار في الهواء فلكل طلقة دور في المعركة والذخيرة تشح مع الأيام.
منذ
أيام وجبهة رأس لانوف مشتعلة. بنفس طويل يرابض فيها الثوار ويقاومون تقدم
القذافي الذي تظهر قواته تصميماً مشابها في وقف الزحف المتعطش باتجاه عرين
القذاذفة في سرت. أدخلت البوارج إلى المواجهة لتطوق المدينة، ومنعاً للمد
البشري، فالمدينة النفطية أصبحت مقصد ثوار الشرق، حديثي العهد – بمعظمهم -
مع القتال واستخدام السلاح، ولم يتعاملوا مع الأسلحة من قبل، ومن التحق
بالخدمة العسكرية كان له الحظ بالتعرف على الأسلحة الفردية والمتوسطة ويبقى
الاتكال بشكل أساسي على العسكريين الذين التحقوا بالثورة. هؤلاء يعول
عليهم في قيادة المعارك. وقد أقيمت لإعداد المقبلين على الثورة معسكرات
تدريبية سريعة، أهمها اثنان في بنغازي أحدهما لتعليم استخدام السلاح الفردي
والمتوسط. «تعلمنا فك كلاشن وتركيبه في يوم. وثاني يوم تعلمنا إطلاق
النار. وفي اليوم الثالث قدمنا اختباراً امام المدربين والتحقنا بالجبهة»،
يخبر احد الملتحقين برأس لانوف بين جولة قتالية وأخرى. أما مركز التدريب
الثاني في بنغازي فهو لتعليم استخدام الـ«ميم طاء»، أي مضاد الطيارات، وهو
السلاح الثقيل الأكثر شيوعاً بين الثوار الذين حصلوا عليه من مخازن السلاح
المصادرة في الشرق.
لا تبدو إمارات الحداثة (في القتال) على محيّا
هؤلاء. يتآخون مع الطبيعة المحيطة ويحتضنون السلاح بخبرة أم تحمل اصغر
الأبناء. يتنقلون بين المواقع ولا تؤثر بهم كثافة القصف. ولا يمكن حسم
مشاعر الدهشة أو الإعجاب امام رؤية بعضهم لا يهتز بعد أي ضربة جوية، ولا
يسعى للاتقاء من شظايا القذائف. يواجهون اللحظة بثبات وصدور عارية، ولكن
كما يقول عبد الرحمن «بقرار حر».
الأقل خبرة بينهم يشكلون جبهة الدعم
شرقي المدينة للمقاتلين على جبهة بن جواد - رأس لانوف . هنا لا تبدو مقاييس
البعد والقرب من الناحية الجغرافية منسجمة مع الانطباعات اللبنانية على
سبيل المثال، فالمسافة بين المدينتين المتقاتلتين المتجاورتين تبلغ 70
كيلومتراً. أما رأس لانوف فتبعد عن بنغازي، مصدر التمويل الأول لهذه
الجبهة، نحو 400 كيلومتر.
يتسلل الهدوء ظهراً إلى المدينة النفطية.
رائحة الدماء تنتصر على البارود. يلملم المقاتلون جرحاهم ويرصدون الأضرار:
الصيدلية قصفت، الاعتداءات طالت المركز الطبي ومداخل المدينة إضافة إلى
المسجد... «المدينة تحتاج إلى إمدادات».
يستريح البعض في أنحاء
المدينة، ويحتفظ آخرون بمواقعهم على المضادات تخوفاً من ضربات مباغتة،
وتوزع وجبات الطعام المؤلفة من كرتونة زبادي وقطعة حلوى. يتناول المقاتلون
وجبتهم ويبادلون المراكز من المتمركزين على الآليات.
هل هذه الوجبة
تكفي لسد الرمق بعد صولات المقاتلين في مدينة شبه صحراوية؟ يبتسم احد
المقاتلين ويهز رأسه متهكماً «الحرية زودتنا بحاجة سنوات من الطعام
والمشرب، الكرامة قوت كافٍ».
من صوب البريقة تلوح وفود سيارة في الأفق.
يتحضر الجميع. تلقم الأسلحة على عجل. لكن الألوان الخضراء والسوداء
والحمراء لعلم الثورة تهدئ النفوس. ينزل شباب من السيارات ويتوجهون إلى
الثوار بعبوات المياه، والبنادق على الأكتاف، ويهتف احدهم لجندي على آلية
«على استعداد»، فيسأله آخر، «من أين الشباب؟» فيجيبه «اخوك من درنة ...ابِي
(اريد) أدافع عن كرامتي الليبية... والله شباب الزاوية خجلونا ما قدرنا
نرقد في الحوش (البيت) بعد اللي نشوفو منهم».
في حر المدينة المتكئة
على المتوسط يمضي شباب 17 فبراير في طريقهم الى الحرية. لم يعد هدير
الطائرات يقض مضاجعهم: «إحنا ميتين ميتين نريد نبني لينا ولولادنا مستقبل
افضل»، لا يتجاوز عمر هذا الفتى 19 عاماً، لكن الأعوام رسمت على وجهه
تضاريس اعتق، «أنا من البيضاء انا حالتي كويسة (المادية) بس ابِي (اريد)
الحرية... قتلنا والله من قبل ما نموت المجرم. يهودي هادا والله».
لم
تحسم رأس لانوف معركتها ولا عادت الى أحضان الثوار براحة، ولكنها من دون شك
«لن تكون طريدة سهلة». وعد يقطعه شباب ليبيون قرروا ان زمن الحساب قد حل،
وأن سنوات ليبيا القذافي قد ولت.
تغيب الشمس خلف الأفق حاملة شهداء
كثراً معها. يجمع الثوار عدتهم. يحصون ما تبقى لهم من عتاد بعد خميس أذاقوا
فيه خميس القذافي وكتيبته مرارة التقهقر. يعود بعضهم ليشارك في جمعة
الحرية التي أعلن فيها شباب ثورة 17 فبراير أهداف الاعتصام المفتوح في ساحة
الحرية في بنغازي (محكمة شمالي بنغازي)، وهي «ليبيا جسد واحد وطرابلس قلبه
النابض...»، بمشاركة مئات الآلاف من المحررين في الشرق الليبي.
يدرك
الليبيون ان طريق طرابلس بعيد. في باب العزيزية يجلس «مجد « العرب والعالم
لذلك يتشبثون بحفنة أمل. يقاتلون كأنهم قََُتلوا مسبقاً مستهزئين بالموت في
كل مرة يخطئهم، ساخرين من صوت آلة القتل، وعينهم ترصد الحرية الوليدة في
الغرب التونسي والنامية في الشرق المصري. ولمن يهمه الأمر محطات الوقود في
رأس لانوف تعبئ البنزين مجاناً للجميع.
بعيداً عن رأس لانوف يستريح
المتحدث باسم المجلس الانتقالي عبد الحفيظ غوقة الى ان معنويات الثوار لا
تزال مرتفعة على الرغم من إدراكه ان حجم الخسائر البشرية أصبح مرتفعاً
جداً. يؤكد لـ«السفير» من بنغازي أنها مسألة أيام وينتهي القذافي. يتابع
اخبار الجبهة لحظة بلحظة، ويتواصل مع «الأبناء» ويطلع على حاجاتهم.
ينفي
غوقة وجود مبادرة لمناقشة مسألة تنحي القذافي في مقابل عدم محاكمته لأن
عليه ان يتنحى من دون اي حوار وان «عدم محاكمته لا يملك حق اتخاذ القرار
فيه لا المجلس ولا غيره، هذا من حق الشعب الليبي فقط»، مضيفاً انه حتى بحسب
الشريعة من يملك حق التنازل عن القصاص فقط هو ولي الدم. يسخر غوقة من
الاتهامات الموجهة الى الثوار بتنفيذ اجندة خارجية مشيراً إلى ان الذين
يثورون اليوم عليه هم من ولدوا ولم يشهدوا غير الظلم والقمع من نظامه. ولا
يستبعد ان يرتكب القذافي كل انواع الجرائم لحفظ حكمه لأنه من طينة الحكام
الذين يعتبرون «من بعدي الطوفان»