كان
الرئيس الأميركي باراك أوباما، أول من كرّس، منذ بدء الثورة المصرية في 25
كانون الثاني، الموقع التركي الإقليمي المتعاظم، وذلك من خلال حصر دائرة
اتصالاته المتعلقة بالأزمة بثلاثة مسؤولين إقليميين: رئيس الحكومة التركية
رجب طيب أردوغان، والملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز، ورئيس الوزراء
الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. وهناك طرف رابع كان لا بد أن يتواصل أوباما
معه لو كان ذلك ممكناً، وهو القيادة الإيرانية بالطبع.
يمكن القول، من دون مبالغة، إنّ العين التركية كانت من بين الأكثر تركيزاً
على التطورات المصرية. بدأ الموضوع عند حكّام أنقرة بحذر شديد تجاه التعليق
على أحداث الأيام الـ 18. فحسّاسية الزعامة السنية للمنطقة عند الحكام
المخلوعين في القاهرة، خلقت عدم ارتياح واضح إزاء الأتراك الراغبين في
استعادة دور تركي إقليمي كبير، سيكون لا شك على حساب الرياض والقاهرة. عدم
ارتياح قابله الأتراك بالمثل لكن بطريقة ضمنية، إذ لم تخرج الحماسة التركية
الحكومية لتغيير النظام المصري، إلا عندما بات واضحاً أنّ حسني مبارك آيل
إلى السقوط، أي في الأيام العشرة الأخيرة التي سبقت تخلي الطاغية. عندها
فقط، صار بإمكان أردوغان أن يجاهر بأنّ «على النظام تنفيذ رغبات الشعب»،
وحينها أصبح بإمكانه وصف تفويض الرئيس صلاحياته لنائبه (المخلوع) عمر
سليمان بأنه «خطوة غير كافية»، على قاعدة أنّ «التنحّي الفوري سيكون الخيار
الوحيد الذي يلبّي طموحات المصريين».
تأخَّر الموقف الحاسم لأن تركيا لم تكن تتحمل فكرة أن يصمد نظام مبارك، وأن
يعود إلى الانتقام من أنقرة وحكّامها بحملة شوفينية عربية ضد «أحفاد
العثمانيين الذين يريدون استعادة حكمهم على أهل العرب»، وخصوصاً أنّ ساحات
نفوذ الأتراك والمصريين مشتركة، وكذلك مناطق اهتمامهم، أكان في فلسطين أم
لبنان والعراق، أم إيران والسودان وسوريا.
ويرى المراقبون الأتراك أنّ قيادتهم تأكّدت من حتمية سقوط مبارك ونظامه يوم
الثلاثاء 1 شباط الجاري، عندما خرج أردوغان بخطاب مؤثّر، رأى البعض أنه
كان ورقة نعي النظام المصري، وفيه ذكّر مبارك بأنه ليس خالداً، وأنه لا بدّ
له أن يقدم على الخطوة التاريخية قبل فوات الأوان لأنّ «الله سيحاسبه
وسيسائله». وفي اللحظة الأولى لما بعد تخلّي أنقرة عن حيادها إزاء «ثورة
النيل»، فُتح الباب أمام المقالات والدراسات في الصحف العالمية كما
التركية، لتخلص إلى أن «النموذج التركي هو الحل» لدول العالم العربي، في
مقدمته مصر وتونس، على نسق شعار الإخوان المسلمين المصريين «الإسلام هو
الحل». شعار يُقصَد به أنّ تجربة حزب «العدالة والتنمية» منذ 2002 هي
الأصلح لإحداث تزاوج بين الإسلام والديموقراطية على قاعدة أنه حل رابع،
كبديل عن الجيش في الدول العربية، والأنظمة الفاسدة الحاكمة، والتيارات
الدينية الأصولية أو المتشددة. كلام وجد فيه الزعيم الإسلامي التونسي راشد
الغنوشي، العائد أخيراً إلى بلاده، ضالّته، عندما رأى أن حزبه «النهضة»
أقرب إلى «العدالة والتنمية» الحاكم في تركيا أكثر من «جماعة الإخوان
المسلمين» المصرية.
ولم يكن ينقص المسؤولين الأتراك ليفرحوا بالكلام الداعي إلى تعميم نموذجهم
على الدول العربية، إلا ما أظهره استطلاع للرأي أجرته «المؤسسة التركية
للدراسات الاقتصادية والاجتماعية»، وخلص إلى أن 66 في المئة من المصريين
والإيرانيين والعراقيين والأردنيين واللبنانيين والفلسطينيين والسوريين
والسعوديين، «يرون في تركيا نموذجاً ودليلاً على تعايش الإسلام
والديموقراطية»، وهو ما يترجم حالياً بكون أن تركيا تتصدّر قائمة أفضل
الوجهات السياحية بالنسبة إلى العرب.
وبالفعل، بدأت الأسئلة المحرجة تواجه حكام أنقرة؛ فعندما سئل الرئيس عبد
الله غول، قبل يومين، عما إذا كانت تركيا تمثّل نموذجاً بالنسبة إلى العالم
العربي، لم يكن أمامه سوى الإجابة بأنه «من الطبيعي أن يرغب الناس في
الاستفادة من الأمور الإيجابية».
أمّا وقد سقط نظام مبارك، فإنّ الوقت قد حان لمعالجة الهمّ الحقيقي بالنسبة
إلى المسؤولين الأتراك، وهو مستقبل النظام المصري ودور الجيش. فبالنسبة
إلى أردوغان ورفاقه، الكابوس الحقيقي سيترجمه استمرار الجيش طويلاً في
الحكم، عندها قد يعضّ الأتراك أصابعهم، ويتمنّون لو يعود مبارك وزمرته.
الديكتاتوريات العربـية بداية النهاية