مروا
من هنا بخطاهم الواثقة ، وأيديهم المتشابكة ، وقاماتهم الشامخة ، عبروا
بأجسادهم فوق قهر السلطة وبغي الحكم ونزلوا هناك إلى الميدان ، حولوا كل
شبر في ثرى الوطن إلى ميدان صغير، وأعادوا الروح إلى شعب ظن جلادوه أنه مات
منذ عقود ، ومن عجب أنهم استخدموا الحناجر ولم يستخدموا الخناجر ليعزفوا
أنشودة الرحيل لهؤلاء الذين رحلوا خارج الميدان ، وألقى العابرون بالأوراق
واللفائف ولم يلقوا بالقنابل والقذائف ، وأمسكوا بالأقلام منزوعة الرصاص
ليخطوا على جبين الوطن سطور ملحمة جديدة .
لقد أزال هؤلاء
العابرون كل الأقنعة وكشفوا زيف هؤلاء الذين صفعوا وجه الوطن وأدموا قلبه
وكبلوا قدميه ووضعوا على كتفيه أوزارهم ، هؤلاء الذين زاحمونا بملياراتهم
في الخزائن والبنوك ، فزاحمناهم بالملايين في الشوارع والميادين ، هؤلاء
الذين سلبونا روح الإنجاز لكنهم لم يسلبونا روح الحياة .
فما
بين عابرين هنا إلى الميدان غاضبين ثائرين ، وبين راحلين هناك مخذولين
خاسرين تبدلت خرائط الأماكن وتغيرت لغة الكلام ، واستيقظ النائمون من
ثباتهم العميق على قرع طبول الغضب وترديد أنشودة الرحيل ، لقد قرر العابرون
بقوة أنهم لن يرحلوا بعيداً هذه المرة ، لن يتركوا الوطن بحثاً عن بريق
الدراهم أو طلباً لوهج الدولارات ، ولن يموتوا هناك على قوارب التهريب أمام
شطئان أوربا ، بل إنهم سيجبرون النائمين فوق أسرة الحكم على الرحيل ،
سيجعلون الحالمين بالخلود يعرفون أنهم راحلون ، فلقد أدرك العابرون إلى
الميدان هذه المرة أنهم هم الباقون بعد زوال الأنظمة ، وأنهم هم السائرون
بعد رحيل القافلة .
يخطئ من يظن أنهم خرجوا هكذا بدون جذور ، أو
أنهم ولدوا بلا معاناة الوضع وأوجاع الولادة ، أو أنهم أطلوا من صفحات
الفيس بوك ، بل هم خرجوا من جذور الأمة تلك الجذور الممتدة بعيداً حتى قبل
أن يظهروا للوجود ، أليسوا هم أبناء العابرين في بارليف والزاحفين في حطين
؟! وهم قد ولدوا من رحم المعاناة ومخاض الولادة الذي استمر لعقود ، أليسوا
هم أبناء المقهورين الذين فتشت ضمائرهم في أمن الدولة فلم يشعروا أنهم في
دولة الأمن ؟! وأطل العابرون من صفحات التاريخ الذي اختزلوه في كلمات
معدودة ( تغيير .. حرية .. عدالة .. دستور ) أليسوا هم من تربوا على أن
التغيير مضاد للاستقرار ، والحرية معناها الفوضى ، والعدالة غاية لا تدرك ،
والدستور هو كتاب النظام المقدس ؟!.
ويخطئ من يظن أنهم كانوا
شباناً لم يتجاوزوا مرحلة الشباب ، بل هم كانوا رجالاً وكهولاً ، حوَّل
النظام شبابهم إلى شيب وأحلامهم إلى عيب ، وأوقف الزمن عليهم فكأنهم كانوا
يعيشون يوماً مكرراً معاداً لا يتخطونه ، لكنهم قفزوا فوق أسوار الزمن
وجمعوا إلى شبابهم رجولة متوثبة وكهولة متأنية بل وطفولة حالمة ! لقد
اختزلوا مراحل العمر في لحظة من العمر !
ويخطئ من يظن أنهم عبروا
إلى الميادين لأنهم جائعون يلتمسون أرغفة الخبز ، أو لأنهم عاطلون يبحثون
عن فرصة عمل ، بل لأنهم كانوا يشتهون الحرية ، وكانوا عاطلين عن الفعل
محجوبين عن التأثير والمشاركة ، لم تكن قضيتهم الجوع والفقر فحسب ، فالجوع
والفقر في الوطن الحر هو الشبع والثراء ، والغنى في الوطن المكبل هو الهوان
والشقاء ، فعندما تتساوى كل الرؤوس وعندما يكون ابن الرئيس مثل ابن الخفير
، سـيرضى هؤلاء العابرون بالفقر بل ربما سيأكلون التراب رضىً بفقر عادل ،
لا رضىً بعـدل فقير .
هم ليسوا غرباء هبطوا على كوكبنا المصري من
خارج الفضاء البعيد ، لقد كانوا يولدون على أيدينا ويتجمعون أمامنا
ويتحلقون حولنا ، ويقرعون آذاننا بأصواتهم الخافتة ( نحن موجودون ) كانوا
يحملون الرؤى وسط الضباب الكثيف ، ويصنعون الأحلام الغضة فوق مقاعد المقاهي
المتناثرة ، لكن نظامنا المتعالي كان يسد أفق السماء فلا يفهم إلا رؤاه ،
ويحتكر الأحلام ثم يعيد صياغتها إلى كوابيس ، ويصم آذانه ولا يسمع سوى صوته
وحده ، وكان يغلق عينيه فلا يرى إلا صورته معلقة فوق الجدران.
قد
لا يملك العابرون إلى الميادين مشروعاً مكتملاً للغد ، لكنهم بلا شك
يمتلكون هذا الغد ، قد لا يحملون عصا سحرية تحول طبيعة الأشياء ، لكنهم بلا
عصا وبلا سحر كشفوا لنا طبيعة الأشياء ، قد لا ينتمون إلى حزب أو جماعة
لكنهم ينتمون وبعمق إلى قلب هذا الوطن ، فليس من الضروري أن تكون إخوانياً
أو ناصرياً أو يسارياً لكي تكون مصرياً وطنياً ، يكفي أنك من تراب هذا
البلد الطاهر نبتت جذورك ، وامتدت في سمائه قامتك ، ورويت من مائه عظامك ..
لقد أعاد العابرون التاريخ القديم وصاغوا هذا الذي لم يأت بعد ، ورسموا
بكلماتهم وحروفهم خرائط الأمكنة ، وعبروا بنا زمن الزيف والحيف والدف ، زمن
الزيف لإرادتنا حتى أوهمنا الراحلون أننا بلا إرادة ، وزمن الحيف لحقوقنا
حتى صورونا أننا بلا كرامة ، وزمن المزمار والدف والرقص على كل الحبال حتى
تصدر الراقصون مشاهد الصورة وأزاحوا الفقهاء والعلماء والحكماء بعيداً في
زوايا النسيان !
فلا تُخَوِّنوا العابرين إلى الميادين فليسوا
خونة ولا عملاء ، ولا تهونوا من قوتهم فليسوا مستكينين أو ضعفاء ، ولا
تستغربوا حضورهم المهيب فليسوا بعيدين أو دخلاء ، لقد كان هؤلاء العابرون
في ميادين الوطن قوتنا الغائبة بل المغيبة ، ألقاهم النظام في ( غيابت الجب
) وظن أنه قد تخلص منهم ، فعاد هؤلاء العابرون كأنهم ملوك مصر الجديدة ،
ومن عجب أن النظام العتيق جاء يطلب منهم البقاء أياماً أو شهوراً قليلة !!
جاء يطلب منهم ( زاد بعير ) في تلك الأيام ( العجاف ) ، ونسي هذا النظام
أنه سرق ( صواع الملك ) واستولى على ( خزائن الأرض ) !!
فيأيها
العابرون سلاماً واحتراماً من الملايين التي خرجت ومن الملايين التي لم
تخرج ، ومن الملايين التي صمتت صمتها المعبر ، ومن الملايين التي هتفت
وراءكم ولأول مرة منذ عقود ( الشعب يريد ..) هذا الهتاف الذي كان يزلزل
وبحق حطام النظام وركام السلطة ، فكم كنت أحس بوقع هذا الهتاف وهو يصعد في
قوة ليرتفع إلى عنان السماء وينزل في غضب ليهز أركان الأرض وكأنه يؤكد على
أن ( الشعب هنا ) و ( الشعب يريد ) لقد كان هذا الهتاف المدوي و تلك
العبارة البسيطة سيمفونية التغيير والإرادة التي شدا بها الشعب .
ويا شهداء الميادين أنتم لم تغادروا دنيانا ولم ترحلوا عن عالمنا ،
فأسماؤكم قد حفرت في ذاكرة الوطن ، وصوركم قد رسمت في صفحات التاريخ ،
ودماؤكم الزكية قد خطت حدود فاصلة بين عهد قد ولى وعهد جديد يلوح في الأفق
القريب ، عهد سيخطو بنا إلى مكان قد تركناه ومكانة قد تخلينا عنها ، عهد
ستتغير فيه وبحق ألوان الصورة القديمة لتزهو بألوان جديدة في العقول
والأفكار والسلوك والعمل والإنجاز ، وعندها سنصبح كلنا عابرون إلى ذلك
العهد الجديد .