تشويه صورة العلمانية في قناة "الجزيرة"
16 مارس 2006
بثت قناة الجزيرة في برنامج "الاتجاه
المعاكس" ليوم الثلاثاء 20 فيفري حوارا بين أحد أساتذة جامعة الأزهر بمصر
ودكتورة عربية من لوس أنجلس الأمريكية امتدّ إلى موضوع العَلمانية (بفتح
العين) التي وتّر خطاب المتحاورين وحملهما على التقاذف بالتهم والغُلوّ في
الأحكام واستباحة الحقيقة وهو ما ألحق ضررا فادحا بالإسلام والعلمانية على
حد السواء جراء خطابهما المتحامل رغم أن المناظرة كانت غير متكافئة بين طرف
محنّك وماسك بأطراف الموضوع وطليق اللسان وآخر أقل خبرة وإحاطة وقدرة على
الأداء، بما جعل المناظرة تنتهي في غير صالح العلمانية، بل تؤول إلى تشويه
حقيقتها. ولا أرى إن كان ذلك مقصودا في سياق خدمة المشاريع الأصولية،
وتقزيم خصومها أو هي الصدفة لا أكثر ولا أقل!
لقد قدّم الشيخ العلمانية على أنها تعني
"الإلحاد" و"الكفر" (لم يتورع الشيخ "الأزهري" عن سؤال محاورته: هل أنت
ملحدة؟ على غرار "حكام التفتيش)، وهذه قذيفة اعتاد أمثاله رميها في وجه
أنصار العلمانية بهدف تكفيرهم وعزلهم داخل محيطهم الإسلامي، قذيفة التكفير
يُرمى بها التفكير من أجل إسكاته وإخراسه، واختصار مجادلته. ولم تكن
السيّدة تملك القدرة على الردّ بأن العلمانية لا تعني الإلحاد وبأن هذا خلط
ماكر، وأن كل من ليس إسلاميا على طريقة شيوخ التكفير تلاحقه "تهمة"
العلمانية، سواء أكان فردا أو نظاما حاكما، وعليه فجميع الأنظمة التي وجدت
أو يمكن أن توجد في البلاد العربية سواء أكانت قومية أو بعثية أو لبيرالية
أو يسارية أو غيرها، أنظمة "علمانية" بمعنى كافرة حسب الخلط المذكور، طالما
الدولة التي تحكمها ليست دولة دينية على مقاييس هذه الطائفة أو تلك.
لا يغيب عن العالم والمنصف أو جوهر
العلمانية هو فصل الدين عن الدولة وبالتالي الشأن العقيدي المحكوم بالمطلق
عن الشأن السياسي المحكوم بالنسبي، خدمةً للدولة وللدين معا، وتحاشيا للضيم
الذي يلحق الدولة من هذا أو يلحق الدين من تلك. فصلُُ تمّ بناء على كون
المعتقد مسألة ضمير، وشأنا شخصيا يحسمه الإنسان بينه وبين نفسه، ويستوجب
حماية الدولة الديمقراطية له، وقد بينت تجارب الحُكم أن عدم الفصل بين
الدين والدولة اقترن دائما بعدم الفصل بين الحزب والدولة، والحزب والنقابة،
وعدم الفصل بين السلط، ومن ثمة اقترن بالاستبداد، وجرّ الخراب المستطير.
ولذا عُدّت حرية المعتقد وحرية نقد الدين (ولا يعني ذلك الإساءة إلى مشاعر
أهل الديانات وبث الكراهية الدينية) حجر الزاوية في صرح الحريات، ذلك هو
معنى العلمانية، وعليه فإسلام المسلم لا يمنعه من أن يكون علمانيا ينبذ
الإكراه والتعصب ويؤمن بالتسامح والتنوع وبحق الآخر في اختيار معتقده ورفض
الوصاية على ضميره. والدولة العلمانية، بهذا المنظور، حارسة على صيانة تلك
الحرية من الانتهاك، مانعة لتقسيم المجتمع وتصنيفه على أساس ديني وطائفي.
أما الدولة الدينية فطريقها محفوفة
بالدماء والدموع، وحال العراق الآن شاهدة على ذلك لأن التعصب الذي هو
وقودها يُعمي البصائر ويُحوّل أناسها إلى حطب سريع الاشتعال ولأن زمامها
بيد "إكليروس" متألّه متربّب ويحتكر الأخضر واليابس ويضع يده على الأجساد
والأرواح.
أما المغالطة الثانية التي قذف بها الشيخ
الأزهري السيدة العاجزة عن الردّ، فهي تقديم العلمانية كما لو كانت نبتة
غربية لا تنبت إلا هناك، في تربة "الكفر" وهذا كلام مردود لأن المسيحيين هم
أولا أهل كتاب بالمفهوم الإسلامي وليسوا كفّارا" والكفر ليس المقياس
المناسب، من الوجهة العلمانية، لتقييم البشر وتصنيفهم بل لقد صار تهمة في
أيدي التكفيريين المتعصبين يهشّون بها على رؤوس مخالفيهم. ولئن شاءت مشيئة
التطور أن تشهد العلمانية تكريسها الرسمي والمقنن في الغرب المسيحي غداة
حروبها الدينية وما ارتكبته الكنيسة باسم الدين فإن دولة الشرق الإسلامي لم
تعدم إبان قوتها قديما العمل بأحكام "العلمانية" تحت عناوين أخرى، بعد أن
اضطرها واقع المعاملات والتعدّد الديني إلى ذلك وكل تربة مهما كان موقعها
الجغرافي، مهيّأة مبدئيا لاحتضان الفكرة العلمانية، أو لبناء الدولة
المدنية، على قاعدة تحييد الدين عن السياسة وإخضاع السياسي للنقاش والخلاف
والتصويت وبالتالي منع ادعاء العصمة الدينية واحتكار الحقيقة، وتوظيف
الدين، في القضايا المجتمعية كالانتخابات، سواء من قِبَلِ النظام أو من قبل
المعارضة والتجربة أثبتت أن العلمانية، نبتت في الغرب وفي الشرق، وهي ما
تزال بعيدة عن صورتها المُثْلَى، حيث مازلنا نشاهد كيف أن الأنظمة التي
تدّعيها لم تتخلّ نهائيا عن استغلال الدين وعن الميز بين الأديان وعن
نزعتها الصليبية تجاه الإسلام والمسلمين خاصة. ثم إن الصورة التي قدمتها
السيدة للإنسان العلماني صورة مشوهة باعثة على الاستنكار لا على التعاطف،
وكأن الخيار الوحيد المطروح يبقى القبول بخيار التكفير الذي عبّر عنه
الشيخ، بعد أن وشحه بخطاب "وطني" مناهض للهيمنة الأجنبية ولما أصاب العرب
والمسلمين من كوارث الغرب الاستعماري.
أما السيدة فقد بدت "علمانيتها" مصطفّة
وراء تلك الهيمنة متبنية للطروح الاستعمارية وللإساءات العنصرية الموجهة ضد
الديانة الإسلامية ورموزها وأهلها منبتّة عن حاضر الأمة وماضيها، الأمر
الذي أفرغ خطابها "العصبي" المتعثر من كل محتوى جدّي ومُقنع، وجعلها تسيء
إلى العلمانية إساءة بالغة، حتى لكأنه لا بد أن يكون صاحبها معاديا للإسلام
والمسلمين، واجدا عذرا لأعدائهم، لا يملك شيئا من من وطنية وهوية قومية.
هل كان فيصل القاسم وهو يدير الحوار سعيدا بذلك وهو الذي عوّد مشاهديه على
البحث عن التوازن بين ضيفه؟ وما الذي جعله يقع؟