لا تكاد خطابات المرشّحين في الانتخابات العربيّة، هنا أو هناك، وعلى
اختلافاتهم الأيديولوجيّة والسياسيّة والدينيّة، تتعدّى النفخ في بوق
"الديمقراطية"، وادّعاء تبنّيها من قبل الجميع.
عندما تتابع التغطية الإعلاميّة التي تحظى بها "الانتخابات" في البلاد
العربيّة تجد نفسك للحظات مُتواطئاً مع الحلم، متخيلاً روح الديمقراطية
تغلغلت فيها حتى الأعماق. تشهد بخيالك انتخابات تضع فيها الأحزاب برامج عمل
تُبيّن رؤيتها للحكم والخدمات التي سيجنيها الناخبون جرّاء انتخابها، وفق
خطط واضحة قابلة للتحقيق، قابلة للمقايسة مع برامج انتخابيّة أخرى لا بحسب
انتماءات المرشّحين أو أديانهم.
في الحُلم، تستطيع تخيّل ناخب مسلم يمنح صوته لمرشح قبطي في مصر مثلاً،
لأنّ هذا المرشح يمتلك هو أو حزبه رؤية لزيادة عدد الجامعات، ويمكنك تخيّل
مُرشح عراقي شيعي يفوز في منطقة أكثريتها من السنّة لبرنامجه بتطوير قطاع
الصحّة. ثمّ تفيق على أنّ ذلك ليس إلاّ من قبيل الهذيان الديمقراطيّ!
دفع الكثيرون ثمنا باهضا لأحلامهم، ورغم ذلك يبقى الحلم حقّا مشروعا، وإن
لم يكن مدرجاً بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان. لكن قبل الشروع بحلم
الديمقراطية في بلادنا العربية لابد من التسيلم بوجود أساسيات واضحة مُتفق
عليها في ديمقراطيات العالم أجمع، على تنوع تطبيقاتها. وأضعف الإيمان أن
يكون (احترام حقوق الإنسان) أهمّ هذه الأساسيات، لكن المصيبة في بلادنا
أنّنا مازلنا أفراداً وجماعات وحكومات لا نعطي الإنسان حقوقه ولا نقرّ له
إلا بالنزر اليسير منها. فالتحفظ من قبل الحكومات والمجتمعات يسري على كثير
من مواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من جهة، ومن جهة أخرى يجد المتابع
للأحوال في بلاد العرب أن السائد هو ربط مفهوم الديمقراطية بالصعيد السياسي
فقط، وإغفاله عن باقي المستويات، حيث لا يوجد توجه حقيقي لتكريس ثقافة
ديمقراطية في المجتمعات العربيّة. وطالما تعلقت الديمقراطيّة بالسياسة فهي
لابد أن تدخل دوامتها وتخضع لعمليات التجميل والتشويه بحسب المصالح
السياسية المتأرجحة في كثير من الأحيان، فتارة تعلي الأنظمة أو الأحزاب شأن
أحد مبادئ الديمقراطية وتمسخها فيه، وطوراً تنادي بتطبيقها من خلال تنفيذ
أحد أدواتها ويسقط كل ما يتعلق بها غيره وبكل ديمقراطية!
تغيب الديمقراطيّة، لتحضر مع الانتخابات. عندها، يبدأ الصراع لإثبات ضرورة
وجود العدالة والديمقراطية وتحقيق انتخابات ديمقراطية ليأخذ "كل ذي حق
حقه". يُعاد توزيع كعكة السلطة بين المنتصرين الدائمين، ويبقى الشعب هو
الخاسر الأكبر الذي غالباً ما يختار مرشّحاً لا يملك من المؤهلات شيئاً سوى
أنه يعبر عن الطائفة والمذهب، أو لأنّه يمثّل قوة قامعة لا يمكن قهرها.
ومادامت الديمقراطيّة تعني حكم الأغلبيّة، فماذا لو أنّ
انتخابات ديمقراطيّة طالب بها الجميع أوصلت من لا يؤمن بها إلى كرسيّ
الحكم.. فهل سيحترمون الحق بالتعبير عن الرأي للأقليات التي لم تَفُز
بالانتخابات أو للمختلفين معهم فكرياً وعقائدياً للسعي بشكل ديمقراطي
للوصول إلى الحكم؟! أم أن المناداة بالديمقراطية ستبقى سلّماً يصعد من
خلاله البعض، ثم يتم حرقه في مواقد الدكتاتوريات والقمع وفرض الرأي الواحد،
والتحكم بحياة الناس من خلال رفض الآخر وعدم الاعتراف بحقوق الإنسان؟
الديمقراطية يصنعها الديمقراطيون فأين هو الديمقراطي المسؤول عن إشاعتها
في البلدان العربية؟ هل هي الحكومات والنظم السياسية؟ ربما نعم. لكن
المعطيات تقول أن غالبية الأنظمة تؤمن بالديمقراطية شريطة ألا يتزعزع
الكرسي تحتها، وهي ترى في الديمقراطية "وسيلة جيدة يُحكَم بها الفرد، لكنها
ليست وسيلة جيدة ليَحكُم الفرد بها! حسب تعبير لاري دايموند في كتابه
(الثورة الديمقراطية، دار الساقي، الطبعة الأولى، 1995، ص 93)، وهذه ليست
ديمقراطية. هل تنحصر المسؤولية بالشعب المحاصر من كل حدب وصوب بالضغوط
وأشكال التطرف السياسية والدينية وحتى الاقتصادية ؟
أعتقد أن وصف دايموند ينطبق على الكثيرين في مجتمعنا حين يقول بلسانهم
:"نحن نؤمن بالديمقراطية، لكننا لسنا ديمقراطيين" ويعلل ذلك: "بأن تقبّل
الفرد للديمقراطية من الناحية الفكرية لا يعني انه صار ديمقراطياً.
الديمقراطي: هو الذي اعتاد السلوك وفقا لأفكار وقناعات وقيم ديمقراطية"
والديمقراطية الفاعلة عنده هي "نمط سلوكي، وطريقة للعيش" ومجتمعاتنا التي
لم تعش تجربة ديمقراطية حقيقية لا تقبل الهزيمة على الصعيد المجتمعي ولا
تعترف بها، وعموماً هي غير متسامحة وليست مستعدة للتسوية، وبالتالي فإن
"الإقرار بان الحياة الاجتماعية الهادئة ترتكز على التسويات شيء، وأن يكون
الإنسان مستعدا ومقتنعا بالإسهام في ذلك شيء آخر" وهذا ما نفتقر إليه: أن
يساهم الجميع بخسارة القليل لتحقيق الكثير على الصعيد المجتمعي.
كان الدكتور فرج فودة قد استهلّ كتابه (حوار حول العلمانية) بحادثة اشتهرت
كطرفة سياسية في عشرينيات القرن الماضي، حيث يُرشح الأستاذ أحمد لطفي
السيد نفسه لعضوية البرلمان في مصر، ويجد منافسه في جهل المجتمع بالمصطلحات
ومعانيها وسيلة شديدة الدهاء والخبث يستخدمها ليثير الرأي العام ضدَّه،
فأخذ يجوب المناطق معلناً أن "لطفي السيد رجل ديمقراطي ـ والعياذ بالله ـ
ومن يريد ترك الإسلام واعتناق الديمقراطية فلينتخبه وذاك شأنه وهو ما عليه
إلا البلاغ".
ورغم محاولات المدافعين عن لطفي السيد إلا أنّها باءت بالفشل، خاصة عند
انعقاد مؤتمر شعبي وسؤال السيد عن الموضوع فأجاب أنه "ديمقراطي وسيظل
مؤمناً بالديمقراطية حتى النهاية". وفهم الجمهور ، كما تعلّم، أنّ
الديمقراطية مرتبطة "بالكفر والإلحاد"، بل إنها تدعو إلى "الفسق والفجور".
وفهم بعض من وعى درسه جيّدا أنّ كلمة ديمقراطي تعني أنّ "مراتك تبقى
مراتي..!"
بعد قرن تقريبا من تلك الحادثة، لا يبدو أنّ ما يحدث الآن قد تغيّر في
الصميم، وإن ادّعى بعض "الديمقراطيين" غير ذلك!