القوى التي أعادت المالكي رئيساً للحكومة
د. بشير موسى نافع
2010-12-08
عاد المالكي رئيساً للحكومة العراقية، بالرغم من الكراهية العميقة التي تكنها له القوى السياسية الشيعية، التي يفترض أنها تشكل قاعدته البرلمانية الأساسية، وبالرغم من أن أغلب الأعضاء المقدمين في قائمته ذاتها، 'دولة القانون'، كانوا يتمنون إطاحته. طوال معظم فترة التفاوض على تشكيل الحكومة العراقية، أعلنت الكتلة الصدرية أن رئاسة المالكي للحكومة هي خط أحمر؛ وقد بذل المجلس الأعلى، الطرف الآخر في التحالف الوطني، كل جهد ممكن للتخلص من المالكي وإبعاده عن رئاسة الحكومة المقبلة. أما خارج نطاق التشيع السياسي، سواء في القائمة العراقية ذات الصبغة الوطنية، أو في أوساط الكتلة الكردية بكافة مجاميعها، فلم تكن هناك لا ثقة في المالكي ولا أدنى استعداد للقبول به. ولكن المالكي عاد في النهاية رئيساً للحكومة، ووجدت الأطراف المختلفة للسياسة العراقية نفسها مجبرة على التعاون معه. يبدو نجاح المالكي في تأمين رئاسة ثانية اليوم أقرب إلى المعجزة، وهو ما أثار العديد من الأسئلة والتفسيرات.
أحد أبرز التفسيرات يؤكد على البراعة السياسية التي أظهرها رئيس الحكومة العراقية السابقة، بعد أن استطاع، في خطوة تلو الأخرى، كسر الاعتراضات الحادة عليه وكسب مزيد من الأنصار والأصوات في كل منعطف من منعطفات التفاوض الطويل والمرهق حول تشكيل الحكومة. في المقابل، أظهرت القائمة العراقية، المنافس الرئيسي للمالكي وكتلة القانون، بقادتها المتعددين، ارتباكاً وعدم كفاءة في إدارتها للعملية التفاوضية، في الوقت الذي كان بعض من قادتها المتنافسين يرسل إشارات متباينة للمالكي ومفاوضيه. فازت القائمة العراقية بواحد وتسعين مقعداً من مقاعد البرلمان العراقي، وأصبحت بالتالي القائمة الأكبر، متفوقة بمقعدين على ما حققته قائمة دولة القانون. وكان من المتوقع، بالرغم من الفارق الضئيل بين القائمتين، أن تكون العراقية في موقع تفاوضي أقوى من المالكي وقائمته. ولكن ما حدث أن المالكي، طبقاً لوجهة النظر هذه، دفع العراقية إلى زاوية صغيرة طوال أشهر التفاوض، وحرمها بالتالي من هامش المناورة الضروري في ساحة سياسية تتصف بقدر ملموس من التشظي والانقسام الطائفي الإثني وتباين المصالح. ما يجعل نجاح المالكي إنجازاً هائلاً بكل المقاييس أن السنوات الأربع الماضية من حكم رئيس الوزراء شهدت حرباً واسعة النطاق ضد التيار الصدري، وضعت حداً لنفوذه في البصرة، وضيقت على ميليشياته في بغداد الكبرى، وزجت بالمئات من أنصاره في المعتقلات والسجون؛ كما شهدت تعهد الحكومة العراقية لسياسات طائفية لم يعرفها العراق في تاريخه من قبل. فإلى أي حد تبدو نظرية البراعة والمهارة التكتيكية صحيحة فعلاً؟ وإلى أي حد يمكن فهم مجريات السياسة العراقية الحالية في ضوء السياق العراقي الداخلي؟
أظهر المالكي في السنوات الأربع الماضية قدراً لا يمكن تجاهله من الجرأة والاستعداد لاتخاذ قرارات وتبني إجراءات، لخير العراق وشره، غير متوقعة دائماً. وربما أشار رد فعل المالكي على خسارة قائمته للانتخابات، ورفضه القبول بالنتائج وإعلان التصميم على الانقلاب عليها، بوضوح إلى طبيعة هذا السياسي العراقي الذي جاء من خلفية سياسية متواضعة ليصل إلى أعلى مواقع حكم العراق في حقبة ما بعد الغزو والاحتلال. ولكن أبرز ميزات المالكي على الإطلاق أنه أدرك سريعاً أصول وقواعد اللعبة التي وضع على رأسها. فإن كان المفترض أن يكون العراق الجديد ديمقراطياً، فلابد من التوكيد على التوجه الديمقراطي للحكم، كلما كان من الضروري استدعاء هذا التوكيد؛ وإن كان العراقيون قد أصاب أكثرهم الضيق والقنوط من سيطرة التوجهات الطائفية وانهيار لحمتهم الوطنية، فلابد من الحرص على تبني لغة وطنية جامعة؛ وإن كان العراق الجديد أصبح ساحة مستباحة للقوى الخارجية، القوى المحتلة وغير المحتلة، فلابد من انفجارات غضب من وقت لآخر، تظهر الحرص على اسنقلال العراق وسيادته.
خلف ذلك، ثمة سياسي انتهازي، ضيق الأفق، وقليل الاكتراث بما تعنيه التعددية العراقية، وما يعنيه وزن العراق التاريخي وموقعه في توازنات القوى الإقليمية. حكم المالكي العراق في السنوات الأربع الماضية بتفرد لا يختلف عليه كثيرون، ليعزل لا شركاءه في الحكم وحسب، بل والحلفاء وكبار قادة حزبه أيضاً، مرتكزاً إلى مجموعة صغيرة من المساعدين والموالين. وفي ظل الغيبة النسبية للرقابة البرلمانية، سيطر رئيس الحكومة ومكتبه على كل ما استطاع السيطرة عليه من مؤسسات وهيئات ودوائر حكم. وبالرغم من تبنيه لخطاب وطني مبكر، عندما كانت هناك حاجة ضرورية لتوفير الشرعية الوطنية، فقد اتسمت سياسات حكومة المالكي، سيما في الدوائر التي وقعت تحت سيطرته ونفوذه أوسيطرة المقربين منه، بنزعة طائفية متطرفة، أدت إلى استبعاد الضباط السنة من كافة المواقع القيادية في المؤسستين العسكرية والأمنية، فقط لأنهم سنة، وإلى تحويل مناهج التعليم المدرسي إلى وسائل تثقيف طائفية، وإلى التخلص من الوجود العربي السني في عدد كبير من الوزارات ومؤسسات الدولة. كل العراق، بالطبع، عانى في السنوات الماضية من النهب والاختلاس وانحطاط الخدمات، ولكن مناطق الأكثرية السنية كانت الأكثر تأثراً عندما تعلق الأمر بقرارات وميزانيات الحكومة المركزية. وبالرغم من أن المفترض أن يستطيع العراق تدريجياً إغلاق منافذ التدخلات الخارجية في شأنه السياسي ومؤسسات حكمه، فقد شهدت السنوات الأربع الماضية اتساعاً لنطاق هذه التدخلات.
والحقيقة أن التدخلات الخارجية هي التي حسمت مصير الحكومة العراقية الجديدة في النهاية، لا براعة المالكي السياسية ولا صفقات التفاوض المتحركة بين القوى والقوائم السياسية المختلفة. بدأت التدخلات بدفع إيران القوى السياسية الشيعية المختلفة إلى تشكيل التحالف الوطني، اتبع تشكيلها مباشرة فتوى المحكمة العليا المثيرة للجدل التي أثارت الشكوك حول إمكانية أن تكون العراقية القائمة الأكبر في البرلمان، بالرغم من أن القوى التي دفعت للتحالف ظلت طوال فترة المفاوضات غير متحالفة على أي نحو من الأنحاء. ثم جاء التدخل الثاني الأكبر عندما ضغطت طهران على القائمة الصدرية، في لحظة بدا أن المالكي في طريقه لخسارة موقعه، وأجبرتها على التخلي عن اعتراضها على المالكي وتبني ترشيحه لرئاسة الحكومة. أما التدخل الثالث، فتمثل في الضغط الإيراني على سورية، صاحبته مبادرات مصالحة من المالكي ووعود بتطوير العلاقات الاقتصادية والتجارية مع سورية، بهدف التخلي عن تبنيها لترشيح عادل عبد المهدي وتأييد المالكي. الضغوط الإيرانية الموازية على المجلس الأعلى، وعلى طالباني وقائمته الصغيرة، نجحت في جلب طالباني إلى معسكر المالكي، وإن لم تحرز نجاحاً مشابهاً مع مجموعة الحكيم.
في الوقت نفسه، وكما أكدت برقيات السفارة الأمريكية في بغداد، التي كشف عنها مؤخراً، لم تتخل واشنطن مطلقاً، ولا في أية لحظة من لحظات التفاوض على تشكيل الحكومة، عن تأييدها لاحتفاظ المالكي بمنصبه، بخلاف ما أكدته التحليلات المتسرعة التي قالت بدعم واشنطن للقائمة العراقية ومرشحها لرئاسة الحكومة، إياد علاوي. وقد ساعد التأييد الأمريكي للمالكي على أن تتخذ القائمة الكردية موقفاً حذراً خلال مفاوضات القوى، إلى أن اصطفت إلى جانب المالكي. الإنجاز الوحيد الذي يمكن أن يعزى للمالكي وفريقه التفاوضي كان في توقيع اتفاق غير معلن، في الأسابيع الأخيرة من شهور التفاوض، مع قائمة الوسط بنوابها العشرة السنة، التي تضم النواب الستة من الحزب الإسلامي، والأربعة الآخرين من القائمة التي قادها وزير الداخلية البولاني (الذي أخفق شخصياً في الفوز بمقعد). وبالرغم من أن قائمة الوسط لا تمثل ثقلاً كبيراً في موازين القوائم، فإن الاتفاق بينها والمالكي عزز من موقف الأخير التفاوضي مع القائمة العراقية، التي ضمت الأغلبية العظمى من النواب الفائزين في مناطق الأغلبية السنية.
لم يكن التوافق الإيراني الأمريكي على المالكي نتاج تآمر خفي بين طهران وواشنطن، بل التقاء أهداف ومصالح، تصادف أن المالكي اعتبر الأفضل لتحقيقها. ترغب إيران في سيطرة شيعية سياسية موثوقة على الحكومة العراقية. وبالرغم من أن الإيرانيين ينظرون بشيء من الاحتقار لأغلب الطبقة السياسية العراقية، بما ذلك الحلفاء منها، فقد وجدت أن المالكي موضع ثقة أكبر من علاوي وعبد المهدي، المرشحين الآخرين المحتملين. ويرى الأمريكيون أيضاً أن من الأفضل، والأكثر أماناً، المحافظة على الصبغة الطائفية للحكم، طالما أن فكرة العراق الوطني الموحد لا تخلو من مخاطر عودة العراق إلى احتلال موقع فعال في الإقليم. عراق منقسم على نفسه، بكلمة أخرى، في مصلحة الطرفين، لأن مثل هذا العراق سيبقى أضعف من تهديد جواره، أو المس بموازين القوى السائدة في المشرق. إضافة إلى ذلك، ولأن المرحلة القادمة ستشهد انسحاباً أمريكياً إضافياً، فإن واشنطن تنظر بقلق إلى ما يمكن أن يثيره أنصار المالكي في المؤسستين العسكرية والأمنية لحكومة لا يقودها شخصياً. وفي ظل الوضع الحرج الذي يحيط بالحرب في أفغانستان، تبدو واشنطن في غنى عن المخاطرة بتأييد رئيس حكومة آخر، لا يمكن ضمان توجهاته السياسية. الشيطان الذي تعرفه، باختصار، أفضل من الشيطان الذي لا تعرفه.
في مواجهة التوافق الأمريكي - الإيراني، الذي انضمت إليه سورية في النهاية، لم يكن هناك من قوة خارجية مكافئة، لترجح أياً من المرشحين الاثنين الآخرين. وبالرغم من أن المبادرة السعودية، التي لم يتحقق لها شيء من النجاح، أوحت بوجود إرادة عربية ما للتدخل، فإن دوراً عربياً لم يسجل في أي مرحلة من مراحل التفاوض، اللهم باستثناء الموقف السوري، الذي اضطر في النهاية إلى تبني المقاربة الإيرانية، نظراً للحسابات المعقدة في العلاقات بين طهران ودمشق. وحتى أنقرة، التي لم تخف تأييدها للتصور الوطني الذي طرحته القائمة العراقية، لم تكن ترغب في التصادم مع السياسة الإيرانية، ذات السبق الملموس في العراق. حسابات توازنات القوى الخارجية هي التي حسمت عودة المالكي، لا مهارته السياسية ولا ارتباك خصومه، ولأن الأوضاع على ما هي عليه، فبين العراق الحالي وتحقيق الاستقلال وإعادة بناء اللحمة الوطنية، ثمة طريق طويل بالفعل.