- (اليوم الثامن ) للمخرج (جياكوفان دورمايل) ، فيلم فرنسي لكنه أكثر من مجرد فيلم سينمائي ، لا لأنه يستوحي ( من بعيد وبشكل ملغز رواية أمريكية للمؤلف: ( إلليري كوين ) ، بحيث حافظ الفيلم على العنوان نفسه لأنه الخيط الأخير الذي ظل يربط بينهما ) بل لأن الفيلم يدور حول سؤال ( ميشيل فوكو ) المحوري : (من هو المجنون ..؟) ويدور بالتالي حول السؤال الأساسي : ( ما هو العقلاني..؟) . قصة الفيلم صداقة تنشأ بين رجل سوي (عقلاني ) هو هنري ، ورجل متخلف عقليا هو (جورج ) وإلى هنا فإن حبكة الفيلم ليست نادرة لا في الأدب ولا في السينما ، ولكن الفيلم لم ينقل مسألة ( العقلاني / اللاعقلاني ) من مجال البحث الفكري إلى أفق العمل الفني وحسب ، ولم يقم بتحطيم أسطورة (العقلانية ) فقط ، ( حين يرينا بؤس وعقم حياة هنري .. لا جورج ) ، بل أكثر من ذلك فان الفيلم قاوم إغراء الوقوع في ( الأسطورة المضادة ): أي تمجيد اللاعقلانية (حين ينتحر جورج .. لاهنري ) .
وإذا كان سؤال ( الجنون ) يقود إلى ( فوكو ) مباشرة ، فان سؤال ( العقل ) يقود إلى مفكرين من مشارب متباينة .. يقول ( هربرت ماركيوز ) في كتابه ( الإنسان ذو البعد الواحد ) : " إن محاولة فرض العقل على المجتمع بأسره ، لهي فكرة غريبة وفاضحة " ويمكن الرجوع زمنيا إلى القرن التاسع عشر ، قرن التفاؤل بالعلم ، لكنه قرن ( نيتشه ) أيضا ، الفيلسوف الذي تعقب آثار كل من ( العقل ) ومن ( المأساة ) ، عبر التراث الأوروبي ، عائدا بهما إلى اليونان – مصدرهما المشترك – ولم يكن ذلك هو اكتشافه المرير بل هذا : إن طريق العقل والمأساة .. طريق واحدة ، وهكذا نادى نيتشه بما أسماه : ( العلم المرح )! أو : المعرفة السعيدة .
ومن نافل القول أن يقوم أصحاب الفكر النقدي بتحطيم الاستلاب والاستلاب المضاد، أما الفيلم وهو كعمل فني يقع خارج شروط التفكير المنطقي ، فقد قاوم إغراء مضاعفا حين كان انجذابه للأسطورة المضادة أكثر سهولة، ومن الممكن الانزلاق إليها، وكانت ستلاقي ترحيب المشاهدين .. الذين صدمهم انتحار (جورج ) في المشهد ما قبل الأخير، وظنوا أنه مشهد الخاتمة، ووجدوا فيه جرعة فائضة من المأساة لم تكن متوقعة لأن سياق الفيلم ذي الطابع الكوميدي لم يكن قد ( وعدهم ) بها ! وكما لو أنه لا مفر من المأساة التي يقود إليها العقل، في النهاية ، العقل الذي أغلق المنافذ على (هنري ) وعلى (جورج )، وكما لو أن الفيلم ينتهي كما تنتهي قصيدة ( ت. س. إليوت ) " البشر الفارغون " :
"على هذا النحو ينتهي العالم
بالبكاء
لا بالضجيج "
ولكن كلا ، سرعان ما يتبين لنا أن الفيلم لم ينته بعد موت ( جورج ) وأن هناك مشهد أخير ، هو خاتمة الفيلم وهو ، فوق ذلك ، مشهد مليء بالتفاؤل ، فما معنى هذا بعد مشهد انتحار ( جورج ) المليء بـالحزن ؟؟ هنا يقع مغزى الفيلم الذي طرح بعمق مشكلة العقلانية ، من خلال إظهار افتقارها للإنسانية _ بل افتقارها للمعقولية _ بالمقارنة مع إنسانية ومعقولية المريض (المنغولي) ، ويذهب الفيلم إلى أبعد مدى في معالجة الإشكالية ، فرغم تعاطفنا مع (جورج ) الذي أدخل السعادة إلى حياة (هنري) ، فانه يموت لكي يحيا العقلاني ، ولكن.. أي عقلاني ؟! إنه هنري بعد أن تعلم من (جورج ) أن يرى الحياة بعين جديدة ، ومقولة الفيلم هي التالية : إذا كانت العقلانية الغربية لا إنسانية فهذا لايعني أن الإنسانية الوحيدة الممكنة هي إنسانية اللاعقلانية ، لأن هذا اشتراط لا معقول . وهكذا يكون الفيلم قد سار على كل الطريق الذي قطعه الفكر النقدي الطليعي .
..في مشهد الخاتمة نجد ( هنري ) في الشارع وهو يأكل شطيرة ، أشعث الشعر ، ثيابه غير مرتبة ، إنها المرة الأولى منذ مدة طويلة يكون فيها (هنري ) بدون (جورج) ، ويمر بقربه عمال النظافة من ذوي البشرة السوداء والسمراء ، ينظر إليهم وينظرون إليه .. ثم يبتسم لهم فيبتسمون له .. يقترب منهم ويدفع معهم عربة القمامة…وعلى هذا النحو ينتهي الفيلم ..ليس بالبكاء ولا بالضجيج ، بل بتبادل الابتسامات الودية بين..(هنري) البرجوازي الفرنسي ، وعمال نظافة من زنوج وعرب..! وهكذا يظهر ( الآخر ) بوضوح في النهاية .
2 - إن العقلانية الغربية – ويتوجب علينا القول : إيديولوجيا العقلانوية – تعتبر كل نقد جوهري يوجه إليها نقدا غير واقعي ولذا فهو غير عقلاني ، و ( اللاعقلاني ) هو.. الآخر ، أي كل ما ليس أوروبيا ، وهذا يستند إلى اعتقاد بأن العقلانية الغربية هي هوية الغرب ! وما عدا ذلك من أنشطة للفكر والروح هي من اختصاص البشرية الباقية . في أول لقاء لهما عندما كان (جورج ) صامتا ، ظن ( هنري) أن (جورج ) المريض ( المنغولي ) ليس فرنسيا ، وليس صدفة أن الفيلم هو (كوميدي/ تراجيدي ) حيث يلعب دور هنري الممثل الفرنسي المعروف ( دانييل أوتووي ) فالفيلم يضحك المشاهدين في البداية لكنه سرعان ما يستدر دموعهم . مرةً غضب ( جورج ) من ( هنري) فوجه إليه سلسلة من الشتائم لا تكاد تنقطع ، ومع ذلك لم يهتم ( هنري ) كثيرا طالما أنها صادرة عن مريض (منغولي ) ماعدا شتيمة واحدة استوقفته وجعلته يرد وذلك حين قال (جورج) :
- نذل..حقير.. وغد..تافه..خسيس.. منغولي !!
صعق ( هنري ) لسماع هذه الكلمة تصدر عن (جورج) فقال له :
- أنا منغولي؟!
- نعم ..أنت منغولي..
- أنت منغولي!!
فقال (جورج ) ببساطة :
- نعم ، منغولي..
ولم يجد ( هنري ) إجابة سوى أن يضحك ..فضحك ( جورج ) أيضاً..وهو يقول : ( منغولي)!! فأخذ الإثنان يضحكان معا.. إنها إشارة إلى أنه من الممكن أن يكون ( العقلاني ) مريضا أيضاً ، وليس صدفة أن الفيلم الذي ينطلق من المقابلة بين ( العقلاني واللاعقلاني ) ، يجري مواجهة بين ( الوعي و اللاوعي ) في مشهد الشاطيء :
حين يتعب (هنري) – في بداية علاقته مع جورج- يقرر تسليمه إلى من يتولى مسؤوليته ، يستطيع بإلحاح وصعوبة ، أن يحصل منه على عنوان (والدته) ، يأخذ (جورج) ويذهب به إلى العنوان ويطرق (هنري) على الباب فيخرج مالك المنزل ويخبره أن صاحبة المنزل السابقة قد توفيت .. منذ سنوات ! يشعر (هنري) بالصدمة، يعود إلى (جورج) شاعرا بالعطف عليه ويقول له :
- لكن أمك ماتت..ألم تكن تعرف ؟
- نعم كنت أعرف،ثم نسيت..!
يغضب (هنري ) ويشعر بالضياع ، غير أن مالك المنزل يعطيه عنوان شقيقة (جورج) ويذهبان إليها ، لكن سرعان ما يتبين أن شقيقة (جورج) - وزوجها خصوصا- لا يريدانه وتطلب من( هنري ) أن يعيده إلى (معهد تأهيل المتخلفين ) الذي يكتشف (هنري) أن (جورج) قد فرَ منه . يقف ( هنري) صامتا وحزينا وهو يراقب المشكلة التي وجد نفسه فيها .. لا أحد يريد (جورج) ..وهنا يعلن(جورج) بثقة :
-"..لا..لن أعود إلى المعهد..أريد أن أذهب في رحلة إلى الشاطيء " !!
يقول ذلك ويصعد إلى مقعده داخل سيارة (هنري ) مخاطبا إياه بلهجة آمرة :
-" هنري..قدْ السيارة.."!!
والمضحك أن (هنري) يصعد إلى مقعده خلف المقود لأنه لم يعرف ماذا سيفعل غير ذلك كما لو أنه سائق (جورج) وكما لو أن المشكلة ، مشكلة الجميع إلا (جورج) .. لكن الوقت ليس وقت (نزهة) بالتأكيد..وينطلق (هنري) بالسيارة ، لكن في المشهد التالي تتوقف السيارة على مقربة من شاطىء البحر..لقد لبى (هنري) رغبة (جورج) المضحكة وغير المعقولة إذا ؟ وهكذا..فإن (هنري) يدع (جورج) يتوجه وحده نحو الشاطيء بينما يبقى هو بقرب السيارة.. أليس هذا ما يريده (جورج) ؟ الوقت مساء ثم هناك ضباب..يغيب (جورج) عن عيني (هنري) و يقترب من الجرف الصخري ويتأمل البحر و هنا – وكما يحدث معه دائما ـ تظهر له أمه المتوفاة : ".. أمي خذيني إلى عندك .. " هذا ما يطلبه منها عادة ولا نقول (شبح) أمه لأن هذا لا يعطي فكرة عن أجواء الفيلم ، فأم (جورج ) تظهر بشكل مشخص جدا أكثر تشخيصا من زوجة (هنري) التي تعيش مع طفلتيها عند أمها بسبب انفصالها عن ( هنري )..
يبتهج (جورج) بظهور أمه فيقترب نحوها ولكنها تقول له :
- انتبه يا جورج ..لقد اقتربت كثيرا ابتعد لكي لا تقع !!
وينظر إلى موضع قدميه فيجد نفسه واقفاً على آخر حد من الجرف الصخري العالي المطل على البحر ، وعبر العتمة والضباب الذين يفصلان بين (جورج ) و (هنري) ، كان (هنري) ما يزال واقفا قرب السيارة ، وأخذ يسمع صهيل حصان بعيد يأتي من خلفه ، ثم أخذ الصهيل يرتفع وسمع وقع حوافر الحصان فالتفت إلى الخلف لكنه لم يجد شيئا .. وعندما عاد إلى النظر باتجاه الأمام رأى الحصان من الجهة التي غاب فيها (جورج) ..كان حصانا دون سرج أو لجام..أحس ( هنري) بالقلق وأخذ ينادي (جورج) وعندما لم يتلق رداً أحس بالخوف فركض باتجاه الشاطئ ، في هذا الوقت كان (جورج ) قد سمع نداءات (هنري) فركض أيضاً باتجاهه وهنا اصطدم الاثنان ببعضهما ووقعا أرضا ثم احتضنا بعضهما ولأول مرة يشعر الإثنان بالخوف لفقدان بعضهما وبالسعادة لاستعادة أحدهما الآخر .
3- نحو مشهد " مدينة الألعاب " :
..يعود ( هنري ) ، أو يحاول العودة ، إلى مجرى حياته السابقة ، بعيدا عن تأثيرات ( جورج ) لكنه سيكتشف أن هذا قد أصبح صعبا ومستحيلا.. في المؤتمر يكون عليه أن يلقي الدروس التي كان يلقيها على طلابه من أجل تأهيلهم في مجال التسويق :
- القاعدة الأولى : ابتسم للزبون ! القاعدة الثانية : تصرف كما لو أنك تشبه الزبون فالناس لا يحبون المختلفين عنهم ! ويعقب (هنري) عادة ، عند هذه القاعدة : طبعا ، هذا لايعني أن تبتسم في المرآة.. القاعدة الثالثة.. الرابعة..
ويضحك مستمعوه عادة للنكتة – ببلاهة ـ حين يلقي (هنري) تعليماته بحيوية مبتسما ، مطبقا ما يدعو الآخرين إلى تطبيقه ، لكنها ليست مجرد نكتة ، فتلك القواعد النمطية ، قوالب للمجتمع العقلاني ، حيث كلهم أشباه بعضهم البعض ولا يتقبلون ( الآخر