فيلم "ماندرلاي" الذي حققه المخرج الدانماركي "لارس فون تراير" عام 2005 اعتبر وفقاً لتصريحات مُخرجه، الجزء الثاني من ثلاثية سماها (U.S.A - أرض الأحلام)، التي تلقي نظرة على القيم الأخلاقيّة الحاكمة في المجتمع الأميركي، منذ الانهيار الاقتصادي الكبير في أواخر عشرينات القرن العشرين، وتحديداً سنة 1929. بدأ تراير ثلاثيته هذه بفيلم " دوغفيل"(2003) الذي اعتبره البعض، ليس علامة ً فارقة في تاريخ هذا المخرج فحسب، وإنمّا نقطة تحوّل في مسيرة السينما باعتبارها "الفن السابع"، و اعتبره آخرون قصيدة هجاء عنيفة للمجتمع الأميركي، حيث أعاد إنتاج المعنى الفلسفي لمسرحية
الكاتب الأميركي ثورتون وايلدر "بلدتنا"، على ضوء زيف الأخلاقيات الإنسانية التي تحكم هذه القرية.
يبدأ الفيلم بخارطة تمثل الولايات الأميركية المتحدة، مرسومة على رقعة بيضاء وحدود ولاياتها ملونة بالأسود وقد كتبت عليها أسماء الولايات. تسير على الخاطرة أربع عربات سوداء، لا يُرافقها إلا صوت الرواي، بعد أن نكون قد قرأنا على الشاشة- كمشاهدين- عبارتي: (فيلم ماندرلاي كما تمّت روايته في ثمانية فصول) لتتبعها عبارة (الفصل الأول: وفيه نتعرّف على ماندرلاي، ونلتقي الناس هناك).
يُخبرنا الراوي عن غريس (بريس دالاس) التي تتابع رحلتها مع والدها (ويليام دافو)، بعد أن هجرت قرية "دوغفيل" وخلعت عنها رداء المسيحية السامية حتى حدود "أبله"ديستوفسكي، تسير القافلة متجولة ً في مناطق الجنوب الأميركي باحثة ً عن صيد ٍ جديد. قرب احدى المحطات التي تتوقف فيها القافلة للاستراحة تأتي امرأة سوداء طالبة ً المساعدة، هناك عبد أسود يُعاقب جلداً بالسوط بتهمة سرقة زجاجة مشروب كاذبة، لأنّ هذا هو قانون مام الذي يحكم عبيد مزرعة ماندرلاي. لتدخل غريس إلى عالم المزرعة بكل إيمان بضرورة إلغاء هذه العبودية التي تجاوزتها أميركا في دستورها منذ سبعين عاماً، وحين يطلب منها والدها ألا تتدخل في مسألة محليّة تجيبه أننا مسؤولون عن أولئك الزنوج الذين اقتلعناهم من بلادهم رغماً عنهم، لنجعلهم عبيداً لنا.الدخول إلى عالم مزرعة ماندرلاي المحاطة بسور ٍ حديدي لا تفتح بوابته أبداً، ولكن يُنزع جزءٌ منه عندما يُجلد أحد العبيد، هو ولوج ٌ إلى عالم سحري، مكانياً وزمانياً وسينمائياً. مكانٌ منسي من ولاية ألاباما في الجنوب، مكانٌ خارجٌ عن قوانين العالم المحيط به بكافة تفاصيله، من حيث طبيعة أناسه وبنائه، مكان لم تصل إليه الكهرباء بعد أو أيًّ من أشكال التكنولوجيا التي بدأ العالم بمعرفتها آنذاك. مكان يرسم لنفسه سيرورة مختلفة عن صيرورة التاريخ الأميركي الذي ألغى العبودية منذ انتصار الشمال على الجنوب في نهايات القرن التاسع عشر (1865)، واليوم تأتي غريس لتحاول كسر هذه السيرورة وفرض صيرورة جاهزة بدلاً عنها، هي زمنياً ثلاثينات القرن العشرين، وتحديداً سنة 1933، المتمثلة بمبادئ الدستور الأميركي في الحريّة والمساواة والديمقراطية، وحق الحياة والتعلم،
وسوى ذلك من القوانين النظرية المتعلقة بالوجود الإنساني في تجليه الأسمى.سينمائياً، يُعيد تراير تصميم خشبة "دوغفيل" المسرحية البيضاء المحاطة بستائر سوداء من كل الجهات، قاطعاً بهذا أيّة علاقة مع المكان الواقعي، مُقدماً مكاناً جديداً يؤسس فيه لعوالم روائية تذكر بالحكايات القديمة من جهة، ولكنه من جهة ثانية يبقى عالماً مُغلقاً على نفسه، كما ماندرلاي ذات البوابة المغلقة.
في أحد المشاهد ترتفع كاميرا المخرج مُفسحة ً المجال لإلقاء نظرة دقيقة على خارطة المكان دائرية الشكل:
قرب البوابة الكبيرة التي فتحت غريس بدخولها مع محامي والدها وبعض رجال، باب بوابتها الكبير، ارتفع سلمٌ دائري الشكل يقود إلى غرفة العجوز البيضاء مام ، حيث نجد سريراً كبيراً بغطاءٍ أحمر وبجانبه منضدة وكرسي خشبيان، تحيط بهذه الغرفة أربعة أعمدة مشكلة ً ما سيُعرف بقصر العائلة، حيث يقع المكتب في الطابق السفلي وهو مؤلف من مدفأة رخامية بيضاء اللون، وبضعة كراسي جلدية وطاولة خشبية صغيرة تمثل المكتب. هذا القصر يقف عارياً من الأبواب أو الجدران، باستثناء باب خشبي غريب في إطار الفراغ الذي تشكله الأعمدة الأربعة، وهو الباب الوحيد في المكان بعد البوابة، ومن احدى الجهات في غرفة مام، الذي استطال إلى الأمام قليلاً، وعبر جزءٍ من سور حجري كانت الشرفة التي اعتادت مام أن تطل منها على عبيدها الواقفين في الساحة أسفل الشرفة، وفق أماكن مُخصصة لهم على شكل جدول ٍ غريب الشكل بأرقام ٍ لاتينية. لاحقاً غريس هي من سيقف على هذه الشرفة.
مجموعة من الصناديق، شكلت أكواخ العبيد مع كرسي هنا أو هناك ربما، في الطرف المقابل لهذه الصناديق ارتفعت منصة بشكل ٍ ضئيل ٍ جداً، تحيد بها أربعة أعمدة خشبية قديمة ولا سقف لها أو باب أو جدران، وتتوسطها مائدة خشبية كبيرة تحيط بها مجموعة من الكراسي بعدد العبيد قاطني المزرعة. مع الوقت سوف تنتقل غريس من الجلوس في طرف المائدة إلى ترأسها وفي المقابل يجلس عجوز العبيد الحكيم ويلهيام.بئر ماء دائرية وتحيط بها دائرة أكبر يسير في الفراغ بينهما حمارٌ رمادي اللون، وفي احدى الزوايا ارتفعت منصة صغيرة ستحيل لاحقاً إلى مكان استحمام الزنوج، ومجموعة من الأخشاب وحزم القش شكلت الحظيرة، وبقربها قن دجاج رسم على الأرض، لينتصب المنزل الخوخي الذي يقطنه أفراد عائلة السيد مايز البيض، بنفس الشكل الوهمي.
اكتفى المخرج تراير بأنّ رسم حدود الأمكنة التي تحدد فضاء المزرعة الحياتي، بواسطة اللون الأسود على الخشبة البيضاء العارية شبه الفارغة، فحتى حقول القطن وهي الاستثمار الاقتصادي الوحيد للمزرعة، كما حديقة العجوز التي تتوسط هذه الحقول كممر تحفه الأشجار الكبيرة، كل هذا رسم على الأرض وكتب عليه بالأسود اسم المكان. فاضحاً بهذا الوهم السينمائي، المتمثل بحضور المكان الطاغي على الشاشة، بجمالياته الواقعية غالباً، خاصة مع استخدام تقنيات الإضاءة وأبعاد الكاميرات الحديثة، بالإضافة إلى تضخيم المؤثرات الصوتية والفنية لإنتاج تأثير أقوى على المتلقي، يأسره حتى حدود الغياب الكلي عن الذهني لصالح انفعالات شعورية قوية، كما فعل ميل جيبسون في فيلمه " آلام المسيح".هذا الاصطناع المقصود لخلق الوهم بالمكان على الخشبة، بشكل يُخالف التصوّر التقليدي للمكان في السينما، يجعل من محاكاة المكان الواقعي غير الموجود فعلياً، أساساً لحضور مفهوم المسرَحة الذي سيحكم الفيلم من بدايته إلى نهايته، مُحيلاً الذاكرة إلى تقنيات سينمائية من أفلام السينما الصامتة. إذ لا يوفر تراير أيّة وسيلة للتأكيد على هذا المفهوم الذي يحضر كأسلوب سينمائي جديد ومجدد حتى الراديكالية.
بداية يُلغي تراير كل ما يُمكن أن يكون زائداً أو مكملاً في الأحول الطبيعة للمكان السينمائي، مُكتفياً ببعض قطع الإكسسوار التي تحيل إيهامياً إلى المكان المقصود، مُقتصراً على بعض الأغراض ذات الدلاليّة الرمزية العالية. أولها هو كتاب "قانون مام"،الذي يُمثل دستور المزرعة، وفيه كافة القوانين التي تظهر الطريقة المُثلى للتحكم بالعبيد، كما يشرح طريقة التعامل معهم بالاعتماد على تقسيم الجدول المرسوم أسفل شرفة القصر، الذي يقسّم العبيد وفق طبيعتهم السيكولوجية كاشفاً أسلوب كل منهم في التعامل والعيش والتفكير، وبالتالي يتعامل السيد مع العبيد بالشكل الذي يراه مناسباً لاختلافاتهم، من توزيع حصص الطعام حتى توزيع المهام وطبيعة العقوبات، فالعبد الفخور يتلقى عقوبات أكثر من غيره ليذكرهم بأنهم عبيد، والعبد الساخر يخلق جواً من الكوميديا يحتاجه الجميع للتنفيس عن غضبهم تجاه السلطة القائمة عليهم، وبذات الأسلوب يبدو البعض عنيفين وآخرون متكلمين…. برأي الحكيم الأسود العجوز، الذي تكتشف غريس في النهاية أنه واضع هذا القانون، يُمثل هذا القانون أسلوبيّة حياة هي أهون الشرور بالنسبة للزنجي المرفوض من العالم الخارجي، وبالنسبة للعائلة، الجاهلة من واضع القانون، ترى أنّ الحيوانات لا تتساوى في حصص الطعام لأنّ هذا سيتسبب بأذى لمعدة الجميع. الغرض الثاني هو الساعة، التي يُعلق عليها الراوي بأنها تقليد للنسخة الأصليّة السويسرية المنشأ. هذه الساعة التي يرقص في أعلاها ملاك أسود صغير يدور بعدد دقات الساعة.
كذلك يحضر غطاء السرير بلونه الأحمر، مغرياً بالشهوة والغموض والسلطة، وفوق هذا الغطاء يمتزج اللونان الأسود والأبيض، في مجامعة تبدو كأنها انتقام. فغريس التي تشوشها رغباتها الداخلية، وتقلق نومها أحلامها بتيموثي الزنجي الأسود، ينتهي بها الأمر ملقاة ً على السرير، وتيموثي يُنفذ لها رغبتها، ولكن بشكل ٍ يذلها أكثر كامرأة، كما يذلها كسيدة للمكان انطلاقاً من لونها الأبيض، هنا تغدو السلطة للزنجي، المتحكم بها، الذي يرضي رغبات جسدها. وهنا تجدر الإشارة إلى المنديل الأبيض الذي يلعب به تيموثي في بداية حضور غريس إلى المزرعة، لاحقاً في تلك اللحظة التي جمعتهما يضع المنديل على وجهها، حاجباً إياه، وكأنه يلغي خصوصية الشخص- غريس- لصالح الفكرة المتمثلة بجسد المرأة البيضاء الذي يُنتهك، إذ تغيب العينان والنظرة وحرارة النفس. وربما يُحيل إلى منديل ديزدمونة الأميرة البيضاء الذي أهداها إياه الفارس الأسود عطيل، وكان فقدانها له دليل خيانتها القاطع، دليل الخطيئة الأخلاقية.
وأخيراً وليس آخراً، باقة القرنفل الحمراء، التي يعتبر والدها أنها كفيلة وحدها بإرضاء أيّة سيدة وإغوائها، مهما كانت طبيعتها. وهي ورود ترميها غريس على الأرض قبل دخولها المزرعة، لتخرج مُسرعةً إليها.
الميزة التي تجمع غطاء السرير بباقة الورود تكمن في لونهما، الذي يتحدى التشكيل البصري للفيلم الذي ينوس بين ألوان الأسود والأبيض وتدراجهما بشكل ٍ رئيسي، وإن حضرت ألوان أخرى عبر ملابس الشخصيات، كالبنفسجي أو الأصفر القاني، فإنها تبقى باهتة فاقدة لقوتها اللونية. وحضور اللون في الفيلم هو حضور واضح، ينفي عن الأشياء واقعيتها مُحيلاً إياها إلى عالم شبه حلمي، وهمي، لتأتي تلك الألوان وتكسر بحدتها الانسجام الخارجي الظاهر. ولكن الغياب اللوني بهذا الشكل المقصود، يؤكد نفي الصفة الواقعية عن المكان، فاللونان كلاهما أحمر، واحد خارج حدود المزرعة، والثاني ينتمي إلى عالم السيدة البيضاء، والاثنان مرتبطان بالمرأة والشهوة والغواية.
إنّ عملية خلق الوهم ثم كسر هذا الوهم بشكل متواتر، تمثل شكل المسرَحة التقنية التي يُحققها تراير. مؤكداً خطوة وراء أخرى، وتفصيلا وراء آخر أنّ هذه الأغراض وضعت ضمن قطع الديكور التي صممت بهذا الشكل لتلائم طبيعة هذا المكان التي تحطم شكليّة المكان التقليدي، كل هذا فقط لحكاية حكاية مُعينة، طريقة قص الحكاية تتبدى في هذا الشكل الذي يكسر الأحكام المسبقة في إنتاج التشويق الدرامي من جهة، ويحكم غاية القص من جهة ثانية. إنّ أسلوبية قص الحكاية تشرح ماهيّة الحكاية قبل أي شيء ٍ آخر. ويغوص تراير بأسلوبه هذا أكثر نحو تقصي جوهر السينمائي، وماهيته الأساسيّة، باحثاً عن معان ٍ جديدة للأساليب القديمة، مُستحضراً من عوالم المسرحي الألماني "بريخت" الجوهر الأسلوبي لمفهوم التغريب المسرحي.يسحب تراير ببراعة إخراجيّة أسلوب عمله إلى باقي عناصر الفيلم السينمائي، إذ يمتد المدى اللوني الباهت إلى مُجمل الخشبة وفضائها الدرامي، بواسطة ألوان الإضاءة الباردة والحيادية، وكأنه يُريد قسرها ضمن إطارها الوظيفي في الإنارة والكشف، ومن المسرح يستعير السبوتات الدائرية التي ترافق الممثل في سيره على رقعة الخشبة البيضاء اللون، وخاصة في المشاهد الليلة، حيث يسطع نورها الأبيض الجامد بلا أيّة خصوصيّة. الكشف عمّا يحدث هو مهمة الإضاءة الأساسيّة، لتغرق باقي الخشبة في ظلام يتحد بلون الستائر الأسود، ولون الليل ولون الزنوج. فإن تطلب أحد المشاهد درامياً توسيع بقعة الضوء إلى مكان آخر على الخشبة، اكتفى تراير غالباً بتوسيع دائرة الكاميرا لتشمل المكانين، وفي أفضل الأحوال سلط نوراً خفيفاً على المكان الثاني، دون أن يكتسب هذا النور أيّ لون مُميّز او خصوصيّة درامية بذاته. كذلك كانت الإضاءة وحدها هي التي ترسم تغيّر الزمن من ليل إلى نهار، ممثلة ً حركة الشمس على أرض المزرعة، وعلى هذا الأساس قد تتفاوت شدتها بين مشهد وآخر. ولكن في بعض المشاهد المفترض أنها ليلية، يتلاعب تراير بشدة الإضاءة وقوتها وكأنه لا يزال يبحث عن الدرجة الملائمة لاعتمادها، والإيذان ببدء التصوير، مُحيلاً المتلقي إلى عوالم الكواليس و التحضيرات التي تجري قبل التنفيذ. مُستعيناً في خلق هذا الإحساس بتقنيات الصوت، الذي يبدو وكأنه يُسجل وقت التصوير، ولا يَُضاف إلى العمل بعد انتهائه. إلى جانب الصمت الذي يحضر ثقيلاً لا تقطعه إلا بعض جمل الحوار، صوت عربة مارة، أو صوت رنات المرحة للساعة، لا أكثر. الصمت الذي يُبعد الواقعيّة عن تأثير الزمان في هذا المكان، فلا يختلف هدوء الصباح كثيراً عن سكينة الليلة، إلا بما يتعلق بحركة الأطفال وما يُمكن أن تولده من ضجيج، وهو قليل جداً هنا. التعامل مع الصوت والإضاءة بهذا الشكل، ينفي الأبعاد الواقعية عن المزرعة، ويحصرها في إطارها المتخيّل سينمائياً.الرابط الفعلي بين هذه العناصر جميعاً كان الممثل، بأدائه المحطم لقواعد الأداء الستانسلافسكي، أداءً بارداً، لا يفضح الكثير، بتلقائية تحيل إلى الأفلام التسجيلية. فمعظم العبيد هادئون، مطيعون لما يصدر لهم من أوامر، بلا أية مبالغات انفعاليّة في الغضب أو الحزن، إلا ما تناسب مع التقسيم السيكولوجي لكل شخصية، وغريس التي تعتقد أنها تملك القوة بفضل مثاليتها العالية، تحاول اقتحام عالمهم، بشخصيتها القوية والمتسلطة أيضاً. إلا أنّ الجميع متفقون على إيهاميّة هذا العالم، فيعيشون معها، وينتجونها. فلا احد من الممثلين يدخل أو يخرج إلى مكان على الخشبة دون أن يقرع الباب الوهمي، أو يفتحه ويغلقه، هذه العملية الإيهاميّة التي تكملها المؤثرات الصوتية المسجلة. كما أنّ الجميع يتفق على أنّ المساحة الفارغة هي حقول القطن التي يجب زراعتها، فيحمل البعض مناجلهم ويؤدون دور من يحفر، بلا أرض أو تراب أو فعل حقيقي، وآخرون ينثرون إيمائياً بذور القطن…التقنيّة الأصعب كمحاولة لتلمس حقيقتها كانت في حركتين، الأولى حين يبدأ الفيلم بصورة الخارطة البيضاء التي تسير عليها العربات السود الأربع وكأنها قطع دمى وظفها تراير لخلق الإيهام برحلة القافلة في ولايات الجنوب الأميركي، ولكن الكاميرا تقترب من العربات التي يكبر حجمها باقتراب الكاميرا، ليُفتح بابي السيارة الأولى وينزل منها رجلان، بلا أي قطع في صورة الكاميرا. والحركة الثانية مُشابهة لهذه تقريباً، متمثلة في العاصفة الرملية التي تضرب مزرعة ماندرلاي، إذ تبتعد الكاميرا لتكشف حدود المزرعة بشكل ٍ شبه كامل، وفوقها تمتد موجةٌ من اللون الأصفر، وأيضاً بلا قطع في حركة الكاميرا.
هاتان الحركتان، لتًشِيان ببراعة بحقيقة الأسلوب المتبع لتنفيذهما، وفي نفس الوقت يؤكدان على لعبيّة أو اصطناعية العالم الموجود أمامنا على الشاشة. وتؤكدان على حضور التقنيّة العالي في إنتاج الفضاء الدرامي كاملاً. التقنيّة بمعنى الأدوات المستخدمة للتنفيذ من جهة، وبمعنى الأسلوبية من جهة أخرى. فإلى جانب هاتان الحركتان تحضر تقنية الراوي من العوالم الروائية والمسرحية، كاشفاً عمّا يجول في فكر الشخصية أو معلقاً بصوته الإخباري على تصرف ما، صوت خلق لنفسه مسافة نقدية، شبه ساخرة مما يُفترض أنه حدث، وهو الآن يُعيد قص الحكاية التي يُمثلها الفيلم، بمعنى ما يتم تصويره على أنه يحدث هنا .. والآن. وهو صوت لا يغيب طوال الفيلم. مُنطلقاً دوماً من مركز هو غريس، معلقاً على كيفيّة رؤيتها للأحداث أو كيفيّة تعاطيها معها. كذلك أتى تقطيع حكاية الفيلم إلى مجموعة من الفصول، أسلوباً يُحاكي تقنيات البناء الملحمي، بواسطة القطع الزمني الذي يعلنه هذا التقطيع في سيرورة الأحداث. مُجمل هذه البنية الدرامية التي تكملها باقي العناصر، تقوم على ترابط متين بين الجماليات الشكلية التي يؤسسها تراير بمسرَحته للفضاء المكاني والدرامي، وبين الطرح الذي ينحو إليه المخرج المعروف بشغبه السياسي.
يكشف السير مع تفاصيل الفيلم، عن مدى ارتباط هذه التفاصيل ببعضها البعض، فمثلاً بعد أن تفرض غريس وجودها في المزرعة، وتفرض الحرية على عبيدها، يأتي الفصل الثالث تحت عنوان "حديقة العجوز"، فبعدما اكتشفت غريس كسل وخمول الزنوج ترى أنّ عليهم تحمّل مسؤولية إصلاح أكواخهم على الأقل، وبحجة عدم وجود الأدوات اللازمة، تأمر غريس بدافع من كرهها للعجوز المتوفية مام، بقطع أشجار ما عرف بحديقة العجوز، فيحضر إلى الخشبة مجموعة من جذور الأشجار التي يعمل عليها الزنوج في أحد المشاهد. ولكن حين تهب العاصفة الرملية في الفصل الخامس المعنون ب "التكاتف" تضرب كل حقول القطن، إذ لا توجد أشجار لحماية الحقول من الرياح. وهكذا تتوالى مجموعة الأحداث التي تعيشها غريس في المزرعة، لتشكل حكاية الفيلم، مُستفيدة ً بشكل درامي من كل قطعة ديكور أو غرض حضر أو تمّ تمت الإشارة إليه. وهكذا نجد أنّ مجموعة التقنيات التي استخدمها تراير وخلقت البعد المسرحي بالأشياء والأحداث وحتى الزمن، وأوحت ببُنية ملحمية، شكليّة على الأقل، فإنّ الجوهر الكلاسيكي يبقى حاضراً، وإن أعاد تراير إنتاجه بما يتناسب وبحثه المسرحي، إذ حافظ تراير- وهو كاتب السيناريو- على الترابط السببي بين مجموعة الأحداث التي تقع، ويبني لها حواراً قوياً ومتماسكاً، راسماً لغريس خط سير إلى مصاف أبطال المسرح التراجيدي الكلاسيكيين، نبلها الأخلاقي الكبير ورغبتها الصادقة في فعل ما فيه تحقيق خير وخلاص الجماعة وليس خلاصها الفردي، رغبتها هذه التي تعارضها الجماعة، ليأتي فشلها نتيجة خطأ تراجيدي الكامن في لا وعيها، أو في مثاليتها الزائدة التي لا تناسب الواقع الأميركي، إذ تعجز عن إدراك حقيقة ما يقوله لها حكيم العبيد العجوز في بداية الفيلم : >> أخشى أن لا نكون جاهزين لطريقة حياة جديدة كلياً<<، أو ما يعود ويُفسره لها أنه اختار حين كتب "قانون مام" أهون الشرور التي تنتظر العبيد، فبرغم الوعود التي تلت الحرب، إلا أنّ أميركا على أرض الواقع لم تكن جاهزة بعد لاستقبال الزنوج كبشر مساوون للبيض في الحقوق، ولم تزل كذلك.
ولهذا فإنّ الدرس الذي قدمته غريس للعبيد بأنّ الديمقراطية تعني : >> الحكم من قبل الشعب<< ويتخذ شكل التصويت على أي مشكلة، قد حصرها كما يقول لها الحكيم بأنّ عبيد ماندرلاي قد انتخبوها بالإجماع كسيدة جديدة لهم بدل مام الراحلة، وكما وثقت هي بعدالة أفكارها، حتى استعانت بقوة عصابة والدها على تطبيقها، فإنّ العبيد مؤمنون بعبوديتهم، ومستعدون لاستخدام القوة من أجل تطبيقها. وبالتالي عن أيّة ديمقراطية نتحدث هنا، وما هي صورة الزنجي التي يُقدمها الفيلم؟يعيد الفيلم إنتاج الصورة المرتبطة بالزنجي، كنموذج للوحشيّة والقسوة من جهة، ورمز الفحولة الجنسيّة من جهة ثانية، الحاضرة بشخص العبد تيموثي وحصانه الأسود. ففي جاذبيتهم سحر وقوة لا تقوى غريس على الصمود أمامها. ولكن دون أن تغيب عنهم الصفة الإنسانية، المتمثلة بخصائصهم السيكولوجية التي يملكها البشر جميعاً مهما كانت ألوانهم، هم أيضاً يجوعون حتى ارتكاب الخطيئة، وهم أيضاً يبكون وقت الوفاة، ولكن الغضب المتراكم منذ أجيال يأسرهم بعدائية خفيّة وعنف طاغي في حياتهم ولغتهم وحركاتهم.
ولكن الزنوج لا يحضرون لونياً كعبيد، بقدر ما يكون حضورهم إنسانياً وفكرياً. إذ لا يبدو الفيلم كقصيدة رثاء لهذا الشعب الذي ما زال يعاني من وطأة العنصرية البيضاء، وفي ظل القوانين الزائفة التي تأسره أكثر مما تحميه. وإنما تساؤل يطال الوجود الإنساني، معناه وحقيقته. ففي المثال الزنجي تتحطم نظرية الفيلسوف الفرنسي "سارتر" بأنّ الوجود يسبق الماهيّة ويُحددها. إذ أنّ طبيعة اللون الأسود للزنجي تعتقله من أي شكل وجودي باستثناء ما رسم له منذ القدم، كعبد للأبيض. ولهذا يبدو استنكار غريس مثالياً أكثر من اللازم : >> ولكنهم ليسوا أحراراً، وهذا هو المهم.< < رداً على رأي الحكيم بأنّ العبودية التي يختارها الزنجي بنفسه هي أهون من الصراع الحر الذي أعلنته القوانين المتمثلة بالحرية والديمقراطية، فلن يسمح الأبيض بمثل هكذا انتهاكات على أرض الواقع، وستكون الخسائر أكثر ألماً.
لهذا ينتهي الفيلم بعرض مجموعة كبيرة من الصور لتاريخ معاناة الزنوج في أميركا، الزنوج المتشردين في الشوارع بلا مأوى، مظاهرات البيض الرافضين لأبسط مظاهر الوجود الإنساني للزنجي الأبيض، وصولاً على صورة لبوش وأخرى لجنديين غالباً هما في العراق، إذ يطال التساؤل الفكري حول الديمقراطية النظرية التي تفرض بالقوة، المثال العراقي الأكثر حضوراً اليوم على الساحة العالمية، وقد اثبت فشله. إذ يؤمن الكثيرون بأنّ الحرية والديمقراطية لا يُمكن أن توهب أو أن تفرض بالقوة، بل يجب أن تكون نابعة من إرادة عميقة وإيمان حقيقي بهذه المبادئ، التي تدفع أثمان غالية جداً ولزمن قد يمتد عقوداً كثيرة من أجل تحقيقها. وإلا بقيت حرية وديمقراطية زائفة لا تتوضع إلا على المستوى النظري. والمثال السينمائي يستكمله تراير في فيلمه، فالزنجي الذي هرب في بداية الفيلم متعدياً الحدود الفاصلة بين لونه ولون الآخر، كما يُعلق الراوي، نراه في مشهد النهاية، مع هروب غريس، وهو معلق وقد اعدم شنقاً من رقبته على غضن الشجرة خارج سور ماندرلاي، حيث كان واقفاً في لحظة هروبه ينتظر السيدة البيضاء التي وعدت بمساعدته.