نصر شمالي
2010-12-03
إن صدقت الوثائق الأمريكية المسرّبة التي يذيعها ويكيليكس اليوم، فإنّ الإسرائيليين قبل حوالي عامين، عشيّة تلك الحرب الإبادية الشاملة ضدّ قطاع غزّة، اقترحوا على الرسميين المصريين والفلسطينيين أن يشاركوا فيها مباشرة، عسكرياً وميدانياً، غير أنّ ذلك لم يحدث، واقتصر دور النظام الرسمي العربي، كما هو معروف، على إحكام الحصار ضدّ القطاع أثناء العمليات الحربية، وبعدها حتى يومنا هذا.
لقد صمد شعب القطاع الباسل، وأخفقت تلك العمليات العسكرية الحربية الهائلة في تحقيق أيّ من أهدافها الأساسية، وها هو الخزري المتهوّد المرتزق المدعو بنيامين نتنياهو (حيث هذا ليس اسمه الحقيقي بالتأكيد) يعلن اليوم عن أمله في أن يساعد نشر ويكيليكس للوثائق الفضائحية على انتقال النظام الرسمي العربي من حالة التعاون غير المباشر وغير المعلن مع القوات الإسرائيلية ـ الأمريكية ـ الأطلسية إلى حالة التعاون المباشر المعلن.
إنّ الإسرائيليين والأمريكيين، والأطلسيين عموماً، يعوّلون كثيراً على دور النظام الرسمي العربي في حربهم المفتوحة ضدّ الأمة العربية، لأنهم حققوا جميع أهدافهم ضدّها، على مدى القرن الماضي، باستخدام هذا النظام بالدرجة الأولى، وإن تظاهروا دائماً، مناورة وتضليلاً، أنهم واجهوا مقاومته الرسمية وانتصروا عليها، فهذا النظام صنيعتهم من أساسه، وهو كان ولا يزال أداتهم الأشدّ فاعلية. وبالفعل أخذ النظام الرسمي العربي على عاتقه دائماً مهمة إجهاض كلّ محاولة لاستنهاض الأمة، وإجهاض كلّ ثورة من ثوراتها، والافتراء على كلّ شريف من رجالها، خاصة في الميدان الفلسطيني، فلو عدنا إلى وقائع القرن الماضي جميعها، لرأينا بوضوح تام حقيقة الدور الذي مارسه هذا النظام، وما زال يمارسه.
في عام 1936، على سبيل المثال لا الحصر، هبّ الشعب الفلسطيني في ثورة عارمة كان مقدّراً لها فيما لو استمرّت أن تعدّل في موازين القوى وأن تبدّل في مسارات الأحداث الإجمالية وفي نتائجها، أي أن تحسّن مواقع العرب في حربهم الطويلة المفتوحة، غير أنّ النظام الرسمي العربي سارع حينئذ إلى مطالبة الثوار الفلسطينيين وغير الفلسطينيين بتسليم أسلحتهم، وبتسليم أمورهم للإنكليز، الذين اعتبرهم النظام طرفاً ثالثاً محايداً في الصراع بين العرب واليهود الصهاينة (مثل الأمريكيين الآن) وظلّ يكــــرّر فعل ذلك إلى أن تمكّن الصهاينة من إقامة كيانهم رسمـــياً في العام 1948، وبدلاً من إدانة الخائن الحقيقي راحت الأجهزة الرسمية والمتواطئة تلقي الـــلوم على الأمة وعلى رجالها المخلصين.
لقد اشتدّت الحملات واتسعت حينئذ ضدّ الشعب الفلسطيني والمجاهدين العرب عموماً (تماماً كما يحدث اليوم في لبنان) لتأخذ مداها بعد اغتصاب فلسطين، وفي معرض الردّ على تلك الحملات، التي شاعت واستمرّت لسنوات طويلة، تعطينا مقالة للأستاذ حبيب جاماتي صورة عظيمة الأهمية والوضوح عن دور معسكر الخيانة في تعبيد الطريق أمام الصهاينة كي يحققوا أهدافهم الشريرة بأيسر السبل وبأقلّ الخسائر.
يقول حبيب جاماتي في مقالته التي نشرتها مجلة 'المصوّر' المصرية بتاريخ 15/9/1961 ما يلي: 'من المؤلم حقاً أن يقال أو يكتب أنّ عرب فلسطين قصّروا تجاه أنفسهم وفي حقّ بلادهم، ففرّطوا بأرضهم، ولم يدافعوا كــــما يجب عن وطنهم ولم يضحّوا في سبيله، إلى غير ما هنالك من تهم باطلة. حرام أن يلصق بهؤلاء الإخوان، الذين نكبوا في أشخاصهم وعائلاتهم وبلادهم وكلّ ما هو عزيز عليهم، هذا الافـــتراء الذي لا يخدم ســــوى العدو الذي سرق جــــزءاً من الوطـــن العربي ويتربص بالعرب ليسرق أجزاء أخرى من وطنهم. يا ناس.. عــــرب فلسطين قاومــــوا إلى أبعد حدود المقاومة، وأنجزوا أعمالاً فوق طاقة البشـــر ليصونوا تراث آبائهم ويحافظوا على وطنهم. قاوموا الإغراء بالمال.
الإنكليز حاربوهم بالإرهاب، واليهود حاربوهم بالدسّ والتزوير. حكومة الانتداب سنّت قوانين جائرة الغرض منها انتزاع الأرض من العرب وإعطاؤها لليهود. كانت القوانين تحرّم الحلال وتحلّل الحرام لخدمة اليهود والإضرار بالعرب. منعت (القوانين) أبناء البلاد العربية أن يقيموا في قطر من أقطار وطنهم، في فلسطين، وفتحت أبواب الهجرة لليهود من كلّ جنس وملّة. السجون امتلأت بالعرب الأبرياء في حين أنّ المجرمين اليهود كانوا يسرحون ويمرحون في طول البلاد وعرضها.
ثار العرب مرّة بعد مرّة. تظاهروا. أضربوا عن العمل. حملوا السلاح. قاتلوا في المدن وفي القرى وفي الجبال. شهداؤهم يعدّون بالآلاف. تضحياتهم الضخمة لا تتناسب مع عددهم ومساحة بلادهم. حرام أن يظلمهم المفترون، وعار أن يكون المفترون من العرب أنفسهم'.
إنّ المفترين المتآمرين يواصلون حتى اليوم افتراءهم وتآمرهم. غير أنّ المقاومة العربية تتمتع الآن بمناعة عصيّة على أيّة محاولة لاختراقها. لم نسمع أبداً عن جواسيس واختراقات في صفوف المقاومة اللبنانية، ولم نعد نسمع عن ذلك في صفوف المقاومة الفلسطينية، كذلك فإنّ هذه المقاومة تحتلّ اليوم مواقع متقدّمة، راسخة، لم يحدث أن احتلّت سابقاتها مثلها. لقد حقّقت من الإنجازات البنيوية والقتالية ما جعل العدوّ عاجزاً عن ضمان تحقيق أهدافه سلفاً، كما كان حاله في الماضي، بفضل استقلال إرادتها إزاء النظام الرسمي العربي. وهي إن لم تكن قادرة بعد على تحقيق الانتصارات الحاسمة فإنّها لم تعد عرضة للهزائم المؤكدة، كما أنّها، إن لم تكن مكتملة الشروط لتحقيق الانتصارات الحاسمة، من حيث الحجم والانتشار ميدانياً والتمثيل البنيوي مجتمعياً، فإنّها بإخلاصها واستقلال إرادتها سوف تستكمل هذه الشروط.
أمّا عن معسكر الخيانة والانتهازية والجهل فهو يواصل افتراءاته ومؤامراته ضدّ الأمة ومقاومتها ورجالها الشرفاء، برعاية وتوجيه من النظام الرسمي العربي، إنّما في ظروف إقليمية ودولية تغيّرت جذرياً في غير صالحه. وها هو فيلتمان، مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية، يعبّر عن أمله في أنّ هذا المعسكر لا يزال قادراً على تدمير المقاومة اللبنانية، التي عجز الجيش الإسرائيلي (الأطلسي) عن مواجهتها باعتراف فيلتمان نفسه. بينما نتنياهو يدعو هذا المعسكر إلى الخروج من حالة السرّية، بعد الفضائح التي نشرها ويكيليكس، والتعاون معه قتالياً وميدانياً، صراحة وعلناً، سواء ضدّ إيران أم ضدّ الأمة العربية ومقاومتها في لبنان وفلسطين. إنّ الخزري المتهوّد المرتزق (وكذلك فيلتمان الأمريكي الصهيوني) يرى في نشر الوثائق الفضائحية خلطاً للأوراق يناسبه، لأنّه يرغم معسكر الخيانة والانتهازية والجهل على الانخراط في حروبه القادمة مباشرة وعلناً، غير آبه لما يعنيه ذلك من دعوة إلى الانتحار.