توقفتْ هجرةُ الشعراء من محيط لبنان إلى بيروته عشية الحرب الطويلة والجارحة في سبعينيات القرن المنصرم. في تلك الأيام، عَبَرَ إلى لبنان نزار قباني ويوسف الخال وفؤاد رفقة ونذير العظمة وأدونيس. تبعهم الماغوط وكمال خير بك وفاتح المدرس والبقية. لبنان كان لهؤلاء - ولسواهم - مدى مفتوحًا لتطلعاتهم ولكلِّ ما يُرى وما لا يُرى. هناك أثْروا نفوسَهم وعرفوا ذاتَهم الحَيِيَّة وفُتِنوا بها.
لبنان الحبِّ والحرب وفلسطين والمقاومة والتحرير والقمر وأرز جلجامش والشمعات الذهبيات الأنفاس وأغاني مهيار الدمشقي وماء إلى حصان العائلة ولن ومقدمته ومجلة شعر و"خميسها" وتوفيق صايغ وحواره وخليل حاوي و"جسره" والنثر والشعر وأنطون سعادة وشارل مالك ومحمود درويش والحيوات المتعددة والمتمردة والمتناقضة تناقُض الورد... لبنان الذي وصل شعراؤه بين الغرب، بلغاته الفرنسية والإنكليزية، وبين الشرق، بمتصوِّفيه وحرياته الموقوفة. هكذا خرج صلاح ستيتية وناديا تويني وجورج شحاده وهدى أديب وفينوس خوري غاتا وصباح خراط زوين وإيتل عدنان وفؤاد غبريال نفاع... حتى آلان تاسو.
لبنان العالم الرحباني، وميشيل طراد وطلال حيدر وعصام العبد لله، بعدما فتح سعيد عقل بوابة الزجل على الشعر. حتى في الحروب، في زمن الوجوه المحروقة والشوارع الميتة والمخيلات المقطوعة، بقي الشعراء "أحصنة مذبوحة تتدحرج من أعالي صهيلها"، كما يقول بول شاوول. الشعراء في لبنان بأمِّ أعينهم رأوا تحولات المكان، فقاتلوا بأسلحتهم التي هي أسلحة المسيح - أسلحة الضعف والعدم والأبدية ونقطة اللاشيء، مليكة العالم الفريد، وسيدة السيطرة الشعرية إلى آخر الأزمنة.
من الجنوب خرج أنسي الحاج - "الأمير" الذي نادى على المرأة كي "تقتل الوقت الذي يقتلنا" - ومحمد علي شمس الدين وشوقي بزيع وآخرون. ومن الحروب خرج يوسف بزي واسكندر حبش وفادي أبو خليل ويحيى جابر وزاهي وهبي وشارل شهوان وشبيب الأمين وبلال خبيز وندى الحاج وآخرون أيضًا. ومن المهاجرين خرج وديع سعادة وجاد الحاج وميراي سابا وغسان علم الدين وآخرون. ومِمَّن بقي خرج بول شاوول وعقل العويط وأنطوان أبو زيد وعبده وازن وإسماعيل فقيه وعناية جابر وبسام حجار وعباس بيضون وآخرون. ثم من سلامِه القَلِق أكمل المقيمون حبَّهم وتوجُّسهم وصمتهم في أشعار وقصائد جديدة، فخرج باسم زيتوني وسامر أبو هواش وغسان جواد وفيديل ولوركا سبيتي، والقادمة التي حوَّلتْ أنوثتَها إلى إشارات شعرية: جمانة حداد.
خمسون عامًا من الشعر، و36 شاعرًا وشاعرة كتبوا عن الحبِّ كمقدس يولِّد نفسه ويتجدد كلَّ يوم وكلَّ عمر. قصائد عارية وعابرة إلى القلب والزمان، في بلد محبوب. فيها من الحسِّية - سمة القصيدة الحديثة - ما هو أرقى مما وَرَدَ في بعض الكتب الدينية؛ وفيها من الشعر الشخصي المتخلِّص من الإيديولوجيات والأفكار المسبقة ما يكفي للتعبير عن حنان الأنفاس والحياة المحلومة كلما اقتربتْ شفتان من شفتين، في وطن سرقتْه المشاريعُ الضخمة والاحتلالاتُ وسياساتُ بنيه من جماله وصحَّته.
بالمتابعة المحمومة والمتواترة كهمٍّ شعريٍّ لأيِّ شاعر أولاً، وبالظنِّ ثانيًا، أحسب أني قرأت معظم النتاج الشعري في لبنان - البلد المتفوِّق في سجاله الشعري، الحيوي والمتعدد. هاهنا مختارات من قصائد النثر والتفعيلة، إضافة إلى أنثولوجيا بيت الحبِّ الواحد اللبناني - التي تحدث لأول مرة في العالم العربي - من دون أن أعني أنني أهملت الكبير سعيد عقل وناثر مهمٍّ كفؤاد سليمان. فقط حاولت أن أفرد حساسيتي على المشهد الشعري، برجاء وأمل إلى إله ذي عينين صافيتين، كي يكون الحاضر والمستقبل بلا حروب أو هجرات، وكي يظل الشعراءُ مشاةَ الأحلام الملكيين، وكي تظل الحريةُ عطر بيروت...
***
خمسون عامًا من الحبِّ والحرب
أنتولوجيا من اختيار
جبران سعد
أرى جلدكِ ناقل ضوء
يوسف بزِّي
قضيتُ سنةً واحدةً من التَّلمُّس الأعمى،والصومِ، والتنفسِ، كي تستحيلَ الرغباتُ قويةً
كأسناننا. أحيانًا يخطر ببالي: سنعيشُ في غابة،
لدينا مطبخ، باب قديم، ونستعمل الطاولة
للحب.
لا منجلَ عملاق ولا كتب.
***
تَعَبُ شهريار
محمد علي شمس الدين
والآن
دعيني أكتشف ثانية جسدَك الحقيقي
يدك... فمك... دمك
ودعيني أركض على سهل ظهرك الفسيح
مثل خيَّال يقطع سهل البقاع
ويبلعُ الرياح.
وأصعد إلى ذروة نهديك العاليين
مثل مغامر يتسلَّق ذروة حرمون
ثم تزلُّ به قدمُه
فيتدحرج إلى أسفل قدميكِ العاريتين
ويرتطم بالسماء.
***
قرينة الرخام
جاد الحاج
منذ اعتَرَاكِ التحديقُ إلى الهواء
وجفَّ وهجُكِ
وأصبحتِ قرينةَ الرخام
وأنا رمحٌ
مسامي نسور الأسوار
لهفي أن تلدَكِ الطريق
أن تمطركِ المسافة.
***
مرساة النوم
إسماعيل فقيهتبعتُك
صافي العينين والقدمين
في شفتي
صداقة مذهبة
وقمح يتفاقم
أتحدث مع الغرفة
في مساءات تناهز الخوف،
أتجمَّع في ذروة
عاداتها
قسوة ووردة قاتلة.
***
دفء الورق
عبده وازن
شعرُكِ يبعثر الغرف والأصداف
شمسُكِ تتنهَّدُ تحتَ وَخْزِ العنب
أشرقي بين السطور
قبلةً لجلجامش
وعصا تشقُ الضفافَ المسافرة.
***
كم أذكُرُ الآن حزني
باسم زيتونيكالأطفال ضِعْنا في غابَةٍ مُعتِمَة
وَعُدْنا إلى البُكاءِ حُفاةً
كَمْ كانَ لِطَعْمِ الخَوْفِ حَلاوةٌ
وَلِسَرِقَةِ القُبْلَةِ مِلْحُ بَحْرٍ هائجٍ.
***
هيام أو وثنية
صباح خرَّاط زوين
إني أنبشكَ من الأرض
لكي أجعلكَ مثل المرمر أبيض مرتعشًا
نزرعنا نسَّاكًا في وسط مكاننا
ونحيطنا بنُصْبٍ من الصفحات المقدسة.
***
أغنيات حبٍّ جنوبية
على نهر الليطاني
شوقي بزيع
على ضفة النهر كانت ترنِّخُ أثوابها
في صباح نقيْ
طفلةٌ،
خصَّلتْها الطبيعةُ من ورق البطمِ،
مشغولةٌ بالأناملِ،
صافيةٌ كإلهٍ
ومهجورةٌ كنبيْ.
***
نَجلسُ على الحَافةِ القَريبة لألفَتِنا ونُفَكِّر
بسَّام حجَّار
وأَذكرُ
أَنَّني، مُلتَصِقًا بكِ،
كُنتُ أَسيرُ لكي أُعطيَكِ رسالتي الأخيرة
أنَّكِ، مُلتَصِقةً بي،
كنت تبحثين عنِّي،
لكي تجدي أَنِّي على الكُرسي
مازلتُ
أَنْتَظِرُ أَنْ يَجِدني أحد.
***
عائدةٌ إليك
جمانة حداد
من عزوف عينيَّ
عن الذهاب إلى ما بعدكَ
من حصار صوتكَ للفجر
من همسكَ الذي غدا المفتاح
من إبحاري المطيع لرياحكَ
وانفجار شهوتي عند وهمكَ
عائدةٌ أنا إليك.
***
قصائد
جورج شحادهدخلتُ إلى الكنيسة راكضًا فوقعت
دخلت لأرى الفجرَ مثقلاً بالسنين
من أجلي ومن أجل خيري خُلِقتْ هذه المرأة
التي تساوي ابتسامتُها حفنة من التراب ذُرَّتْ على الثديين
لمرة واحدة، أكون معكِ حين أنام
أنتِ في كنائس حلمي.
***
عابرون
إسكندر حبش
أنا نوافذك
لكن
هذه الكلمات التي تتساقط
منِّي
لا تشكِّل قصيدة
خلفية لمستقبل
نتكئ عليه.
***
كان شعرُك حجرة فسكت
عباس بيضون
السَّهم تحت قدميكِ
المنجل تحت قلبكِ
كانت يدك آية
فسقطتْ علينا
كان شَعركِ حُجْرة فسكت
اتخذنا من نَفْسكِ ميناء
ومن عماكِ مغارة
شيبتك هطلتْ علينا
زنبقة أنت
والصيف أسد في وجهكِ.
***
حكاية رجل مغناج
زاهي وهبي
كُنْتُ آتيكِ مِنْ خَلْفٍ، أُطَوِّقُ عُنُقَكِ
أُزيحُ خُصُلاتِكِ قَليلاً، أُوَسِّعُ فَتْحَةَ
القَميصِ، أُراِقبُ حُبَيْباتِ الماءِ تُؤَلِّفُ
جَدْوَلاً صَغيرًا في فُرْجَةِ النَّهْدَيْنِ نُزولاً
إلى أسفَلِ السُّرَّةِ حَيْثُ الماءُ أشدُ بَريقًا
وطاعَةً، ولا أعودُ أعْرِفُ أيَّكُما الماطِرُ:
السَّماءُ الصَّافِيَةُ فَوْقَنا أمْ جِلْدُكِ الَّذي يَئِنُّ
تَحْتَ راحَتَيَّ.
***
كان ليلاً ولهاثك
باسم زيتونيكان لَيْلاً يَكْسِرُ وَجْهُكِ لَوْنَهُ
كُنَّا طِفْلَيْنِ على مَقْعَدِ الرَّغْبَةِ
ومَسافةٌ تأخُذُنا
طَيْفانا يَلْهُوانِ بمدينةٍ تَموتُ.
كان لَيْلاً ولُهاثُكِ يَقْطِفُ وَجْهي
أصيرُ لِرِدْفِكِ إلهًا
لخَصْرِكِ سماءً
واسمًا أصيرُ.
كان لَيلاً وأحْرَقَني.
***
أوراق خولة
أدونيس
زُرْتُ آثارَنا
بين بَيتي وبيتِكَ. فَوَّضْتُ أمري إليها،
وتَنَسَّمْتُ عِطْرَ الطَّريقِ وعِطْرَ المكانْ،
وتَخيَّلتُ أنِّي
بِاسمِها، رُحْتُ أَخْتَطُّ تحت السَّماءِ سماءً
كي تُظَلِّلَ عُشَّاقَ هذا الزمانْ.
***هويَّةُ إنسَانٍ مُعَاصر
منصور الرحبانيتندهُني العوالمُ المطفيَّهْ
والجُزرُ الليليَّهْ
يا زهرةَ الخطيئةِ البريَّهْ
أحبُ من أجلكِ أن أغامرْ
أُحب أن أهاجرْ
طيرًا على صمتِ بحارٍ... طائرْ
***
قبل أن نعود
عقل العويط
كُنَّا عندما صفَّقَ البحرُ لنا،
نضحك للطريق التي أخذتْها العاصفة
وغافلتْنا.
كذلك فعلْنا عندما لطَّفَ رذاذُ الجنس عقولنا،
فحفظْناه لنَروي به في الموت حديقة أجسامنا.
***
اتبعني
ندى الحاج
أنادي شعرَ الأرض كلَّه
أكتبكَ على صفحات الوجْد
سيِّدًا
أحفظكَ
أخترع لكَ الأحلام
وألوِّنك بأقلام مستحيلة
ألفتُ إليك أنظار الجنَّ وآلهات الأساطير
لتغدقَ عليك وهج خرافاتها
أمحوكَ بدمعه ساخنة
أو ضحكة ساخرة
لأزرعك من جديد سنبلةً بين أناملي.
***
الجهة الأخرى المحترقة للبالغ النَّقاء
صلاح ستيتيَّة
هذه المرأة بوجهها المظلم
على طاولات الثلج
قيثاراتُها محترقات حتى الجذور
كل هذا الذي ترى
تعصر اسم النهار بين ساقيها
واعتصار ما لا يُسمَّى
والرغبةُ حولها
أيتها الأسنان أيتها الشائخات
تبرقين عذبةً في الرَّهيب
***
على سحَابة رجليك
أنسي الحاج
كُلُّ ماء يغسلك يتمزَّق. هناك ينبوع يُرفْرِف
ماؤه كفراشة. اصعدي والْمسيه ليتمزَّق. طالما
شاهَدَك تُمزِّقين سائر المياه، ونار الغَيْرة تنهشه حتَّى
البحر.
***
قصيدة الندم
شوقي بزيعكلَّ صباحٍ تكرِّرُ نفسَ العذابات:
ضحكتُها في السرير،
وداعتُها في التنصُّتِ،
رغبتُها في الأمومةِ.
منحدرٌ ظَهْرُها من مساقطِ
جَمْرٍ مريضٍ
ومتَّصلٌ بالألوهة من جِهَة البحر.
***
نشيد سالومي ابنة ليليت
جمانة حداداجمعني
فالمطلوب واحد
تعال في سيول عينيك اجمعني
مَسْمِرْ قممكَ في هاوياتي
احفرْ تقاطيعك على ذاكرة راحتيَّ
وتنشَّقِ النِّمرة الكامنة عند مسقط الكتفين.
***
تحولات العاشق
أدونيسكان تنهُّدي سحابًا يسندُ الأفق
رداءً أنسجه وتلبسينه مصبوغًا بالشمس
وكان اللَّيلُ ضوءًا يقودني إليكِ،
في طيَّات ثوبك اختبأت
رافقتُكِ إلى المدرسة
سرقتْ خطواتُنا أجراسَ العتبة
وانسللنا
جلستُ إلى يسارك في الصفِّ
نمتُ بين أهدابك
وما رأيتكِ
في سفَرِ لم يصل إلينا كنتِ.
***
أوْرَاق الغَائِب
بول شاوول
أَلْقَادِمَةُ مِنْ تَلاويحَ وبُكاءٍ وَما اسْتَبْقَتْهُ
تَهاويلَ للسَّرْو وِللْمُغْتَرِبِ ولِمنادِيلَ تُعَلَّقُ في
العَيْنَيْنِ تُشِعُّ في الْغَبْرَةِ وتَلْفَحُ بِالْماءِ ما
تَحْفَظُهُ فِيَّ كَيْ أَتَرَدَّدَ في ضَمَّةِ الْغِيابِ وَتَصْفو
مِنْ هَاويتِها الْعَميقَةِ إلَيَّ.
***
اللَّمسة
عباس بيضونكنَّا على أرض الحمَّام، تعطينني ظهركِ وأنا أنبض بطولكِ. أغمض
عينيَّ وأنساهما، وحين يعود فمي يكون كلُّ شيء رموش لمسة
هذا الصيف المطمور، صيف من الذاكرة، عريكِ دون أن يكون قوس
قزح على سجادة الحمَّام، أعطى لكلِّ شيء ذكرى قريبة.
***
أسماء الرغبة
حمزة عبودوكنت أتنفَّس مسام البشرة وميناء
الحوض لأتبلَّل بمائك وأحتضن حواسي
وكنت لا أميِّز بين حواسي وأعضائك
وكنت أرى وأسمع وأحس وأذوق وأشم لأبلغ
غير حواسي.
وكنت أتدرَّج متنسِّمًا عَرَقَ النهد فيتبعني
الأسفل ويختلط تيهي بانكساري.
***