" التجربة التي أكونها عن أناي يمكن أن تؤثر في التجربة التي يكونها أنا آخر عن أناه".
أدموند هوسرل
يتداول الحديث اليوم عن الإنسان كضحية للدعاية والاستهلاك والآلة ولبعض تشويهات السلطة والإفراط في الحلم والرغبة وللانخراط في عدة أنشطة وممارسات تحط من قدره وتنقص من قيمته وكل هذا له هدف واحد وهو فقدان الإنسان لهيئته ووجه الذي يبرز به أمام الآخر. فكيف يتراءى لنا الشخص الانساني في ظل تجلي عالم الأشياء؟ ثم أين يقيم هذا الكائن البشري؟ هل في عالم الكلام أم في عالم مشترك مع الآخر؟
1- ثمة إنسان:il ya un homme
إن الناس المنتشرين في الزحام وحيث الاكتظاظ الذين ينشغلون في اليومي ويفكرون في قوتهم لا يستحقون بالفعل هذا الاسم لأنهم لا يواكبون التغيرات الحاصلة خارج ذواتهم رغم تغييرهم للآلات والوسائل التي يستعملونها والفيلسوف وحده هو الذي يستيقظ ليفكر في الإنسان في حد ذاته بمعزل عن عالم الأشياء وفي قلب عالم الأشخاص.لقد فهم الإنسان منذ القدم على أنه كائن وسائطي فهو ليس ملاكا ولا أحمقا وإنما الاثنين معا، إذ هو حيوان عاقل يوجد في مرتبط وسطى بين الأحمق والملاك، وهو أيضا كون صغيرMicrocosme يعكس في ذاته صورة ونظام وترتيب الكون الكبيرmacrocosme ، بيد أن تلاشت الحدود وبان الوضع المبهم لواقعة الحمق وتحطيم الكوسموس قد أدت جميعها إلى النظر إلى الإنسان على أنه لا يظهر سوى مرة واحدة في خطوط التطور. أما اليوم فقد أصبح الإنسان ذلك المخلوق الغامض الذي لا يمكن أن نعثر له على مكان وهو ما عناه هيجل بقوله أن الإنسان تقمص للنفي عندما يفكر ويتكلم ويفصل الماهيات عن الموجودات والأشياء عن الأشخاص فهو الثقب الذي يدخل منه العدم إلى العالم عند سارتر والكائن الموجود هناك عند هيدجر، لكن هل يعقل أن نقبل هذا النفي الدائم للإنسان لذاته؟
الإنسان يملك قدرة على أن يكون ماهو وعلى أن يكون ما ليس هو إذ هناك دائما مشروع يرسمه لنفسه ويسعى إلى تحقيقه أو لنقل الإنسان هو مشروع جوهري وبالتالي يكون ما يريد أن يكون أي أن وجوده هو كل ما أراده. إن ما ينبغي رفضه هو بالضبط الأمر التالي:أن يكون الإنسان مجرد لاشيء.
عندئذ لكي نكون فكرة فلسفية عن الإنسان ينبغي أن ننطلق من الأحداث والأزمات والحروب التي مرت بها الإنسانية، إذ عانى الإنسان ثقل وعيه بالأشياء التي تسبب الشقاء تحمل أكثر مما كان يتصور أي الموت. كل شخص يحمل موته كسلاح وحيد تحت يده يهدد به غيره وفي ذلك تكمن مأساته.
إن الإنسان لا يتأمل الموت إلا لينشئه ولأنه كائن الأمل والتفاؤل يكون كائنا شجاعا ومقبلا على المستقبل وبالتالي فإن شجاعة المحارب هي الفضيلة الحقيقية وهي التي تعطي للمدينة حسب الإغريق الأمان وبالتالي كل شكل من أشكال الثقافة الإنسانية يعود في قلب المعاناة إلى تطلع الروح نحو نمط مغاير من الوجود ويصبح الإلهي متحققا بيد الإنسان ألم يقل شكسبير ذات مرة:" ليس الإنسان السند والدعامة والحامل للوجود على عاتقه بل هو المتحدي والمتصدي والمبارز- الحذر..." انه الوحيد الذي يعرف أن القيس لا يقبل القيس وأن الذي يقيم لا يقبل التقويم النهائي. هنا الإنسان خاضع للتطور والتقهقر وللنمو والتراجع والازدهار والانحطاط والدور وتتابع الحلقات.
إن الإنسان الجوهري يبقى هو نفسه بكل ما فيه من طيبة وخشونة خاصة وأنه ليس هناك سوى الإنسان في هذا الوجود والوجود نفسه هو كل الإطار الذي يلعب فيه الإنسان ويمرح، ولكن هذا الكائن البشري يطرح دائما وأبدا شيئا ما وراء نفسه وفوقه يتعالى به عن عالم الأشياء ويحصن به نفسه من الوقوع في الشيئية التشييء.
إن الوجود ينبثق في اللحظة التي يفكر فيها الإنسان في التجاوز والتعالي وان الإنسان وحده الذي يخلق المطلق لأنه ما انفك يطمح نحو المطلق ولن يكون هناك تاريخ إذا لم يكن الإنسان يعتقد في إمكانية بلوغه للمطلق.
الإنسان هو الكائن الذي يتعالى ويتجاوز ويصعد إلى القمم، انه يتعالى على التعالي دون أن يدمره ليكتفي بالمحايثة وهو يعرف أن العقلانية ليست سوى فرع من التأييد وتكرار الولادة والاتحاد مع الاختلاف. مسافة واتحاد هذا هو الإنسان. انه يتخذ بينه وبين الأشياء مسافة ولكنه ما يلبث أن يردمها بسرعة من أجل الانخراط في العالم لكي يتواجد جنبا إلى جنب مع الأشياء ويلح على الوجود.
إن الإنسان مبدع يطرح أسئلة على مبدعاته ويمتلك جوهر ولكنه يحطم كل الأمور الجوهرية التي يشكلها ويسائل الوجود والموجودات التي تتشكل فيه كماهيات. إذا كان العالم في وجوده يتعلق بالتفاتة الإنسان إليه ومحاولته معرفته وإدراكه فانه يكون لا محالة موجودا جادا ومنفرجا بدرجة ممتازة. فهل يمكن أن نشير إلى النشاط والفعالية لديه إذا ما كان كائنا منفعلا ومتأثرا بمجموعة من الميولات؟
2- ثمة كلام il ya une parole :
المعرفة والكلام هما حدثان تربط بينهما وحدة حميمية وإذا أخذنا الكلام في معناه العام فإننا نستنتج أنه لاأسبقية بينهما بل هما في حالة تواشج أصلي وما يبرر ذلك هو أن كل جسد هو تعبير وكل حركة هي إشارة إلى معنى وكل كلمة لها دلالة وبالتالي فإن اللغة هي الوجود بالمعنى الأولي للكلمة أي خروج نحو العالم وانفتاح نحو الخارج ومثل كل فواصل الوجود تشكل عناصر اللغة وحدة متماسكة، فالكلمة هي قبل كل شيء حدث يدركه الجسد وفي نفس الوقت يسكن الأشياء وان الفكر يسكن الكلام وفي نفس الوقت يطمح نحو اكتماله ويسعى إلى الانثناء على ذاته والتوجه نحو التفكير لكن لا ينبغي أن نتصور الكلام على أنه ثياب الفكر وإنما هو حضور الفكر في العالم.
ثمة علاقات جوهرية بين الكلام والعقل فالعقل يتكلم والكلام يعقل إذ كان الفعل الأول الذي سيطر به آدم على الكائنات هو إعطاؤها أسماء أي نفيها كما هي وجعلها مثلا وبذلك تجاوز الموجود التجريبي بواسطة اللغة وجعله مثلا ومبادئ عامة. إن الكائنات الحية نفسها هي مفاهيم متحققة وان مقولات الجنس والنوع والخاصة والعرض عند أرسطو تشير إلى الطبيعة وان ميزة الإنسان عن بقية الكائنات هو هذا المرور من المفاهيم المحققة إلى المفهوم في حد ذاته عن طريق اللغة. فاللغة تتضمن أكثر من مجرد سيلان الكائنات الجزئية بل تهتم بماهو ثابت لكونها وحدة.
عند الإغريق يشير لفظ اللوغوس إلى فكرة التجميع والتنظيم والتوحيد، كمما أن الجملة ليس لها وجود مستقل عن كلية الشخص الذي يتكلمها فهي في حد ذاتها كلية. إن الذين يقسمون اللغة إلى عناصر وأصوات ومصطلحات ووحدات وبنى يقعون في مخاطر جمة ويجعلون اللغة تفقد طابعها العضوي وما فيها من ثبات وكلية ومن وفرة وديناميكية.
إن النظريات العلمية غير قادرة على فهم ما تعنيه ظاهرة الفهم لكون هذا الأخير بعيد كل البعد عن التفسير بالاعتماد على الكلام المعلن أو إيقاظ الكلام ما يوجد في الفكر من أفكار نائمة ، لأن ما يحدث هو أننا نحتل مكانا مناظرا للشيء الذي نتحدث عنه ثم نشاهده بأم أعيننا ونتمثله وننتهي إلى تعريف الحقيقة من خلال ثنائية ذات وموضوع كتطابق بين الحكم العقلي والواقع بتوسط اللغة. غير أن هذا التعريف الميتافيزيقي لا يكترث بالغيرية خصوصا وأن اللغة ليست شيئا جاهزا ومعرفا ومحددا بل يخترقها الصمت واللامنقال بل إن كلام الآخر يمكن أن يحدد المعنى الذي يعطى لمقاصد الأنا.
ما نلاحظه هو هيمنة الكلام على اللغة وخاصة في الشعر وان الإقرار بوجود علاقة بين الجسد والكلام واضح للعيان في ظاهرة فقدان الكلام عند البعض. إن الفكر لا يوجد باستقلال عن تعبيره أي عن الأشكال التي يعبر بها عن وجوده ولذلك يكون الدماغ عضو تحديد وانفتاح على الخارج ويكون الفكر هذا الميل من الكامن إلى الراهن. إن اللغة هي في نفس الوقت متعلقة بالجسد وتعبير من تعبيرات الفكر وبعبارة أخرى هي تقمص لشيء قبلي غير جسدي ربما يكون روحيا.إن الدال يتضمن معنى محايث بمعنى هناك دلالة في الكلام نفسه يجب أن نعترف بها ونؤسسها.
نحن نعبر عن شيء موجود بشكل معروف دون أن نتمكن من التعبير عنه بشكل تام لأن قبل الكلام توجد الأهواء والميولات التي تحاصر الأفكار والأهواء لكن دون أن يؤدي ذلك إلى نفي وجود الذهن والتقليل من دور الفكر وحضوره في خدمة اللغة. إن قيمة العلامات في كونها ترسم نقاط الاختلاف بين الكلمات فيما بينها واللغة لا تمتلك معنى إلا بالاختلاف والتميز والاختلاف في المعاني المتشابهة والمترادفة هو الذي يميز بين الكلمات وكما يقول اسبينوزا:" كل تعريف هو سلب".
الثلاثاء أكتوبر 13, 2009 10:02 am من طرف سميح القاسم