-1-
إنّ الناس" لا يحييون كأموات " (1) ضمن الفضاء الذي يشغلونه جسدا وذهنا ولكن أيضا عبر ذاكرة جماعية . توصل هذه الذاكرة الفاعل بالذي كان في الفضاء ذاته أو في الفضاءات المرجع . فالناس لا ينقطعون عن ماضيهم أي ذاكرتهم ، عند التحوّل من فضاء إلى آخر مغاير ضمن المدينة أو من فضاء ريفيّ أو تخوميّ إلى مدينيّ : أي من تمثّل وتصوّر للفضاء ونمط عيش إلى آخر ومن يومي معاش إلى آخر . فالفرد ـ مثلما الجماعة ـ يتحوّل ويتحوّل معه كلّ موروثه الثقافي وكلّ ثقافته المعيشيّة وتصوّراته وأوهامه وأساطيره وخيالاته وتمثّلاته وأحلامه التي تلتصق بالفضاء المحتلّ وتشكّله . ولعلّ أوضح مجال لإختبار صحّة ذلك هو لبمركّبات السكنية المشيّدة عبر الباعثين العقاريين الخواص أو الدولة والتي تستند فيها الوحدات السكنية الى نفس المعايير وتوحّد الشكل واللون وإن إ ختلفت المساحات أحيانا . ففي هذه الفضاءات نلاحظ بعد مدّة من الحيازة ليست طويلة خضوعها الى تدخّلات من الشاغلين لها على مستويات الواجهة أساسا بالدرجة الأولى ثمّ على مستوى الألوان العامّة أو تناسق الألوان بين الجدران والأبواب عبر الشبابيك الخارجية مثلما الداخلية ، إلى مستوى إعادة رسم التوزيع الفضائي لوظائف الجسد داخل المنزل : أي ترتيب الغرف بما يستجيب لمعايير أخلاقية وجمالية بالأساس (2) . يعني ذلك أنّ كلّ هذا المخزون الذي يشكّل ويكوّن الذاكرة ويتجسّد رمزيّا ، يصبغ الفضاء الذي يشغله الفاعلين . وهو ما تعكسه كما أسلفنا المدينة العربية من خليط متباين ولا متجانس ضمن الفضاء الواحد بين أشكال حيازة وإستعمال الفضاء مثلما التواصل معه . تحيل الموضعة الفضائيّة للذكريات في نظرية ( هالبوشز ) حول الذاكرة الجماعية وأطرها الإجتماعية ، إلى " وجود مورفولوجيا للحياة العقليّة داخل مساحة جغرافية وإراثيّة ـ طوبوغرافيّة ّ (3) . ثمّ إنّ الإجتماعي مثلما الفضائي يرتبطان بقانون مورفولوجي ديناميكي (4) . فإعادة بناء أنماط التبادل الرمزي الإجتماعي يحوّل مجال الذاكرة " إلى مسرح معرفة موضوعيّة " (5).
تشكّل هذه الذاكرة لدى جودي كليّة يستنفد ضمنها الإجتماعي في منظومات علامات ثقافية وهو ما يمكّنها على غرار الرمزية الإجتماعية من أن تكتسح كلّية الحياة القائمة ، أين تلعب الأشياء والصور والحكايات دور شواهد على الذاكرة لدى جودي أو الإستفزاز
--------------------
1-Jeudy ( H.P ) : Memoires du sociale ; Paris ; Puf ; 1986 ; P 9 .
2ـ اليحياوي ( شهاب ) . دور الفاعلين الإجتماعيين في توزيع الفضاء المديني والتغيّر الإجتماعي ( الحفصية نموذجا ) : أطروحة دكتوراة في علم الإجتماع , عن كلية العلوم الإنسانية والإجتماعية بتونس 9 أفريل 1938 م ، ص ص : 223ـ 234 .
3- Duvignaut ( J ) : Anthropologie des sociologues français : paris 1994 ; P 23 .
4- Bouchrara ( Traki, zannad ) : Essai d’analyse socio-morphologique ; la relation entre les pratiques corporelles féminines et le cadre urbain à tunis ; Thèse 3ème cycle ; P 38 .
5- Jeudy ( H.P ) : OP ; cit ; P 35 .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
-2-
أي إستحضار الذكريات لدى هالبوشز . إلاّ أنّ الذاكرة في تصوّرنا لا تتعقّل كنوع " من تكتيل الذكريات " (1) كما لدى جودي بل أنّ الذكريات المتّصلة بالماضي الفضائي للجماعة مثلما الفرد المديني تحمل معها شحنة ثقافية ، بمعنى أنّها تصطحب وتخزن معها في الذاكرة الفردية مثلما الجماعية تصوّرات ومفاهيم وصور وقيم الذي كان ومازال يحيا مع الفرد قناعيّا وبالتالي رمزيّا ، في توحّد مع ما تحتفظ به ذاكرته من أشياء وعلامات وذكريات الماضي الفضائي للفضاء المرجع . وهو ما يفسّر إعتبار كابال أنّ " التحوّلات الهامّة للفضاء الحضري ـ ظهور أحياء جديدة ، إكتساب وظائف جديدة ـ تتأخّر كثيرا لتندمج في تصوّرات المواطنين " (2) حول هذا الفضاء . ينفي هذا الفاصل الزمني بين التغيّر في الفضاء المديني وفي صورة الفضاء لدى شاغليه ، العلاقة المادية والمباشرة المعطاة بين الفضاء وشغله .
فالفضاء علاقة أو هو نتاج علاقة تواصلية وعلاقة إستعمال يتخلّلها كلّ المخزون الثقافي والرمزي أي الذاكرة الفضائية . وتحدّد طبيعة هذه العلاقة وظيظية هذا الفضاء في التصوّر والممارسة اليوميّة للفاعلين الإجتماعيين . فالفضاء هو نتاج علاقة الفضاء المدرك بالفضاء المتصوّر (3) . ثمّ إنّ ما يبدو " ليس بالضرورة الحقيقة" فمن الخطأ إذا حسب دوبو " أن لا نفهم ما يرتسم في الواقع " (4) .
لا تختزن ذاكرة الجماعة الظواهر فحسب بل أيضا كيفيات عيش وتفكير الذي كان . والذاكرة الجماعية ، في نظرية هالبوشز ، تنشط عبر الإثارة التي يصنعها حضور شخصيات نصبيّة أو متحفيّة حيّة شاهدة على الماضي . وتترسّخ هذه الشخصيات النصبيّة الشاهدة والواصلة بين الماضي والحاضر أي بين ماضي هذه الشخصيات النصبيّة كالجدّ والأب والأشياء الدّالة عليه وحاضرنا . لكن الشاهد الحيويّ المعطى والممكن لنا إستدعائه في كلّ آن ومكان من الفضاء الذي نتحرّك ونفعل ضمنه هو نحن أنفسنا . فنحن حسب هالبوشز " نحمل معنا وفينا كميّة من الأشخاص الذين لا يتداخلون فيما بينهم " (5) .
يتموقع هذا النحن وينتشر فضائيّا وبالتالي يستمدّ وجوده مثلما جوهره من الفضاء الذي يشغله , إلا" أنّ ذلك لا ينطبق كليّا بهذا المعنى إلاّ على من يمثّل الفضاء الذي يحتلّة فضاء المرجع في الآن ذاته . ذلك أنّ النحن يتشكّل إنطلاقا من الطفولة وطوال التواجد والتفاعل ضمن الفضاء وحين ينتقل الى فضاء ، مهما كان مدى تماثله أو تباينه مع الأصل . ولا يتكيّف النحن الذي نستبطنه مع الفضاء بل العكس ما يحدث . فنحن نسقط ذواتنا على الفضاء أو نجسّدها فضائيّا وإنطلاقا منه ، أي أنّ الفاعل يخلق بشكل واعي أو لا واعي تناغما وإنسجاما بين ـ الهابيتوس ـ الفردي والجماعي وفضاء التكيّف أو فضاء التفاعل والتواصل مع الذات ومع الذاكرة { المنزل بالذات } ومع الآخرين { المدينة أو الفضاء العام } .
----------------------------
1- Jeudy ( H.P ) : op ; cit ; p 35 .
2- Horacio ( capel ) : L’espace gèographique ; Art : L’image de la ville et le comportement spaciale des citadins ;Janvier
–mars ; 1975 ; p 76 .
3- Lefevre ( H ) : La production de l’èspace ; èd Anthropos ; 1974 ; p 44 .
4- Fèrrier ( C.H ) : Le nouveau mode Amoureux ; Pref ; debout ; èd Anthropos ; P XIIV .
5- Halbwachs ( M ) : La Mèmoire collective ; Paris Puf ; 1950 ; p 2 .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
-3-
يطرح هالبوشز الذاكرة الفردية مثلما الجماعية في إقتران بمقولة الشواهد المحفّزة للتذكّر . إلاّ أنّ هذه الشواهد والتي تعني في الغالب لديه الشخصيات النصبيّة لا تستفزّ الذاكرة بذاتها كليّا . ففاعليتها وفعاليتها مقترنان بشرط وجود أثر ما للحدث الماضي لا في الواقع بل في الذهن . فالذاكرة الجماعية تعيد تركيب الماضي الذي نحتفظ منه بذكريات حقيقية وأخرى خيالية ، ماض يترك آثارا قابلة للملاحظة العينيّة أحيانا ، تدركه الجماعة ضمن تعبير الصور وداخل مظهر الأماكن وحتّى في " طرق التعبير والإحساس المحتفظ به والمعاد إنتاجها لاوعيا عبر أشخاص معيّنة وفي أماكن ما " .
فالذاكرة بماهي إعادة تركيب وبناء للماضي المعاش تستعين في تحقيق ذلك بمعطيات من الحاضر . من هنا يصبح الفضاء المديني بعبارة { جودي } متحفا لآثار ذاكرة الإجتماعي وشاهدة على الذي كان ، الذي يتواصل في الحاضر المديني حيّا . لكن في إرتباط ، فحسب ، بإستمرارية الجماعة في الفضاء ـ المتحف . والذاكرة الجماعية في تصوّره تفكير متواصل وديمومة ينتفي عنها الإفتعال " بما أنّها لا تحتفظ من ماض إلاّ بما هو حيّ بعد أو قادر على الحياة داخل وعي الجماعة التي تحفظه ." (1) يثبت هذا الفهم الهالبوشزي مرّة خرى شرط الحضور المادي للآخرين في فعل التذكّر أي إشتغال الذاكرة الفردية أوالجماعية في تواجد للجماعة ذاتها . فالتفكير الفردي لا يمتلك قدرة التذكّر أي الإستحضار إلاّ بعد تموضعه من جديد ضمن الأطر الجماعية وينخرط في الذاكرة الجماعية . هذه الأطر الجماعية للذاكرة التي هي دالّة جماعية تفضي بنظرية هالبوشز إلى صياغة رابط بين صورة الماضي التي تعيد تركيبها الذاكرة إستنادا للذكريات الفردية والتفكيرات المهيمنة للمجتمع في كلّ حقبة من تاريخه . وهي من ناحية أخرى نتاج أو حصيلة تركيب أو تجميع ما لذكريات فردية لعدد من أعضاء نفس الجماعة .
لا نستطيع أن نتحدّث عن ذاكرة جماعية نموذجية يتماثل محتواها كليّا لدى كلّ الأعضاء المكوّنة للجماعة ، بما أنّ هالبوشز نفسه يعنبر أنّ ذكرياتنا الطفولية منقوصة ومشوّشة وأنّ ذاكرة الفرد تتأثّر فيما تتضمّنه من ذكريات حولها ومن حوله بعوامل عدّة . فكلّ فرد يحتكم على " جغرافيا شخصية لا تتوافق مع الوسط الجغرافي الفعلي " (2) . ثمّ أنّ الذاكرة الجماعية لا ترتبط في نظرنا فعاليتها وحيويتها بحضور شواهد من هذا الماضي الجماعي كالأشخاص النصبيّة أو الأشياء فحسب بل أنّ الفرد يتّجه قصديّا أو لا قصديّا الى الإحتفاظ ضمن فضائه الخاص ـ المنزل ـ الخفيّ منه أكثر من الظاهر بأشياء توصله بالماضي وتديمه في الحاضر مثلما أنّه يحتفظ بما يتشابه أو يعتقد أنّه يتماثل مع ما يشكّل شاهدا حيّا على ماض لا يريده أن يستمرّ فقط بل أنّ هذا الذي كان يتواصل عبره ، عبر ديمومة سلوكيات وتصوّرات وإستعمالات الأفراد للفضاء اليومي المعاش/ الماضي . فالذاكرة الجماعية لا تختزن فحسب ماضي الجماعة بل تعيد تركيبه . وأبعد من ذلك فهي تعيد عيشه أي تحوّل التاريخ الشخصي مثلما الجمعي إلى تاريخ معاش في الحاضر عبر أشيائه وفضاءاته وعبر إستعمال الفضاء الخاص والتفاعل معه مثلما عبر الحي والجيرة والمدينة والأصدقاء والفضاءات المشتركة أو المعطاة للمعيّة الإجتماعية . إلاّ أنّ هذا الماضي على غرار الذكريات التي تحتفظ بها الذاكرة منه لا يكفّ " يقدّم وسائل ضرورية لإعادة إنتاجها " (3) .
----------------------------