تصعد على سلم معاناتك, تستخدمها, فتصبح كاتبًا كبيرًا, هذه هي الفكرة الرئيسية, التي تدور حولها رواية "المؤلف", لكاتبها الشاعر المصري صبحي موسي, والصادرة مؤخرًا عن دار الدار للنشر والتوزيع. بطل تلك تلك الرواية مؤلف وروائي, نشاركه تجربته وهو يكتب روايته, لنراه وهو يكتب ذاته من خلال الآخرين. وعلى الجانب الآخر يتحدى بقوة فكرة "شيطان الشعر", الذي يلهم الأدباء, لأن الشيطان نفسه يشعر أنه أسير لقلم المؤلف!
****
حاول صبحي موسى في هذه الرواية أن يعبر عن سيكولوجية الكتابة, وما يشعر به المؤلفون وهم يكتبون رواياتهم, كيف تتكشف لهم الأحداث, فجأة, كأنها تهبط عليهم, فيكتبونها, كيف تكون علاقته بشخصياته, التي يكتبها محملة بقدر من القمع, وقدر من الحب, لا يستطيع كلاهما الافلات منها.
نصحب بطل الرواية؛ المؤلف, وهو يكتب روايته, التي تدور حول شخص "مسخ" قبيح الصورة, لقيط, يبتعد عنه الناس ويتبرأون منه, وحين يصبح المسخ -واسمه عبد اللطيف- غنيًا ينتقم من الناس, يقتل البعض, ويكذب بشأن تاريخ عائلته, ويجمع حوله من يشتريهم بنقوده. الفكرة شديدة الكلاسية ومكررة, لكن إنفراد هذه الرواية يأتي فيما تعرضه ببراعة من علاقة المؤلف بتلك الشخصيات, كيف أن المؤلف يستخدمهم ليسقط احساسه الشخصي بالوحدة والنبذ الاجتماعي, وابتعاد الناس عنه, لنصحب المؤلف بذلك في الرحلة المليئة برائحة الحزن, واللعنة, والتي نكتشف فيها معه أنه ينتقم من ذاته فيما يكتب, أو ربما يتطهر منها.
لأن المؤلف يكتب روايته عن هذا الشخص المنبوذ والملعون من الناس, فإنه لا يعرف من أين هبطت تلك الشخصيات, لنكتشف معه في نهاية الرواية أن بطل روايته الممسوخ هو المؤلف نفسه, الذي يعاني من عقدة نفسية, هو ابن المعاناة -وربما الروائيون جميعًا أبناء المعاناة- حيث عانى المؤلف في شبابه مع أمه المريضة, التي يقول عنها أنها كانت "تنام على المصطبة, وأنام أسفلها, لأمسح بولها, وأجفف رائحة جسدها النتنة, حاملاً الديدان والقمل, وهاشًا الذباب والنمل عن أعضائها الشليلة. ما كان بوسعي أن أفعله سوى العبث مع الكائنات, مسلطًا عيني على الأشياء, ثم صارخًا فيها بالتحرك" , كبرت اللعبة مع المؤلف, حتى نظر إلى أمه المريضة, وتمنى بداخله أن تتوقف عن طلب الغذاء, والتبول, فماتت, ليدرك بعدها أنه هو الذي قتلها في خياله, حين طلب بداخله أن تموت فماتت.
تنمو العقدة مع المؤلف, حتى يصبح روائيًا مشهورًا, فيكتب روايته عن عبد اللطيف هذا الشخص المنبوذ, فيرمز بذلك المؤلف إلى نفسه, كأنه هو الشخص المنبوذ, الذي نبذه الناس هو وأمه وتركوهما وحدهما, وهو الشخص المنبوذ, الذي قتل أمه بأمنياته الشريرة, ويؤكد ذلك عن عبد اللطيف قائلاً أنه "صورة طبق الأصل مني" . ولا يكتفي المؤلف بذلك, بل يكتب قصة عن مقتل امرأة, فيجدها تتحول إلى حقيقة, والمحقق يبحث عن القاتل, فيشعر المؤلف أن قلمه وخياله ككاتب يجره, ويجر شخصياته إلى الهلاك, حيث يحكم عليهم بالموت, الذي يختاره لهم في خياله, فيصبح واقعًا, ليعترف المؤلف: "أدركت كم صنعت من العبث في الوجود" . "ولسوف يأتي المحقق, ليجدني بجانب جثتها, فيسألني عن موتها, وموت آلاف غيرها, ولن أجيب عن شيء" . لكنه يجب أن يستمر في الكتابة, لأنها تشعره بوجوده, وتجعله يهب الوجود لشخصياته المكتوبة, ليتغلبوا على كل آلامهم, وليداوي آلامه, أيضًا, لأنه: "لم يكن لديَّ ما يمنع من مصافحة الجحيم ذاته, لأشعر بالدفء مرة في حياتي" . فهذا هو طريقه الوحيد للخلاص.
علاقة مع الشخصيات تعبر تلك الرواية بصدق عن حالة كتابة الرواية, وكيف يغوص المؤلف في أعماق الشخصيات, وكيف تنكشف الأحداث له فجأة, وفجأة تغيب, ثم يكتشف أنه متورط فيها, وأن خياله وكتابته تتحول إلى حقيقة, فيلوم نفسه!.
كتب موسى بعمق عن علاقة المؤلف بشخصيات الرواية التي يكتبها, ليصبح "المؤلف كمن يتلقى تعليمات لا يملك القدرة على رفضها, حين قالت: (أريدك أن تكتب عن امرأة كلما أحبت رحل من تحب)" , مما يعني أن الشخصيات تهبط فجأة داخل المؤلف, وتطلب منه أن يكتبها, لذلك فإن المؤلف مدرك أنه لا يبدع شيئًا من عنده, كما يقول: "لست ربًا, كي أكتب عما أجهل, وكأنني أعلمه علم اليقين, ولست شيطانًا لأدخل في الصدور, فأعرف ما تختلج به النفوس" .
على مدار كتابة المؤلف لروايته, يشعر أن علاقته تتوطد بتلك الشخصيات, التي يكتبها, فيؤكد أنه "حين يتبدون في مخيلته يشعر أن خيطًا ما يربطه بهم, كأنه عاش بينهم حياة مليئة بالشجار, الصراع, والدفء, والدم" . تصبح العلاقة بين المؤلف وشخصياته حميمة ومربكة جدًا, لدرجة دفعت المؤلف ليتسائل: "لا أذكر هل رأيتها من قبل, أم أنها جزء من خيالاتي المريضة؟" . الحقيقة الوحيدة التي يقتنع بها المؤلف, أن الشخصيات, التي يكتبها لا تستطيع أن تخون ما يكتبه في أوراقه, وأنه ربما يكتب ليشعر بوجوده, ولتبرز تلك الشخصيات إلى الوجود, أيضًا!
الشيطان يروي للشيطان دور ملتبس في الرواية, فيعتبر المؤلف أن تلك القصة الملعونة, التي يكتبها عن عبد اللطيف الممسوخ هي من وحي الشيطان, الذي يوسوس له بالرواية, لأنه أغضب الله, فتركه دون عنايته. لكننا نكتشف أن عقدة المؤلف النفسية, واحساسه بارتكاب الجرم وقتله لأمه, تتحول إلى مشاعر إدانة, إدانة حتى للرواية أنها مجرد وسوسة من الشيطان.
الحقيقة نعرفها من الشيطان, الذي يعترف بأنه بعد كتابة المؤلف للأحداث, فإنه كشيطان يتدخل ليحولها إلى واقع, وأحيانًا يعطيها تفاصيل متوحشة, وهذا هو دوره فحسب, لذلك يشعر الشيطان أنه أسير ما يكتبه المؤلف, وبالتالي فهو ناقم على المؤلف: "لماذا لا يكتب شيئًا عن الحياة, لقد سئمت أنا, أيضًا, الموت, رغم أنه كل ما أتقن حتى الآن. أريد تجربة غير تلك التي اعتدتها, فلم لا يغير]المؤلف[ دوري في لعبته الجديدة" .
نشعر بتعاطف مع المؤلف, فهو في النهاية أسير للأحداث والشخصيات التي يكتبها, يعاني بسبب كتابته لها, رغم أنه يكتبها في الأصل, لأنه يعاني في الحياة, وهو الذي يدفع ثمن كل ذلك في النهاية من نفسه, ويكره نفسه حين يميتهم "فلابد أن تجيء النهايات, التي تطاردني في الحلم واليقظة, فأراها تكتمل, ولا أقدر على إيقاف شريط أحداثها, الكل يموت, واحد تلو الآخر, وتبقى البذرة التي غرستها فيه من البدء" . ولا ينتصر هذا المؤلف, ولا يشفى من عقدته, ويبقى منتظرًا لقدوم المحقق ليعاقبه على جريمة القتل, التي كتبها, فتحولت إلى واقع.
بهذا يبرز موسى أن ثمة عقد نفسية داخل المؤلفين, عقد قديمة تظل بداخلهم رغم شهرتهم, ورغم ما يحققونه من نجاحات, فيحيكون حولها قصصهم, وحكاياتهم, لعلهم يتخلصون منها, لكن لا فكاك, ولا شيء عدا أن تستمر في البقاء بداخلهم, ليهبوا الموت لعدد من الشخصيات التي يكتبونها ربما ذلك يمنحهم الحياة.
ليعبر بذلك صبحي موسى عن فكرة هامة؛ وهي أننا نحاول استعادة ذواتنا عبر الكتابة, لكن أحيانًا كثيرة لا ننجح , كما عبر عن ذلك موسى من قبل في قصيدته "ما تبقى من جثتي" قائلاً: "ربما كنا نحن هذا الذي لا تعيده الرصاصات الفارغة".
نتسائل بعد الانتهاء من قراءة الرواية, هل كل ما قرآناه مجرد ترهات تدور في عقل بطلها المؤلف المعقد نفسيًا؟. المهم أن الرواية تحمل وجه الحداثة بوضوح في بنيتها وتركيبتها, وفي الفكرة التي تدور في فلكها, لكنها تحمل بعض الكلاسيكية في مفرداتها, والصور المستهلكة, مثل: "رجفة شملته, فانتفض كسمكة خرجت لتتو من الماء". كما اهتم بشكل زائد بتفاصيل وصف الصورة.
الرواية, أيضًا, خالية تقريبًا من الأحداث, عبارة عن أفكار تدور في رأس كل من المؤلف, والشيطان, وأبطال الرواية التي يكتبها المؤلف, لتشبه بذلك خاطرة شعرية طويلة خرجت على شكل رواية, لصاحبها الشاعر صبحي موسى. مشكلة أخرى تكمن في أنها تقدم الشخصيات بسطحية من الخارج, وبدلاً من أن يصيغ موسى صفات الشخصيات من خلال الأحداث, فأنه يعددها بشكل مباشر. بهذا ثمة فانتازية وسطحية يقدم بها الشخصيات في الرواية, تجعلها كقشور قصة. ورغم أنه تتخللها كثير من الأفكار المبهرة, فإنها لا تكفي لقيام رواية متكاملة, وتجعلنا نتسائل طوال القراءة: هل كتابة الروايات بهذه السهولة؟!, وهل الأعمال التجريبة مجرد أفكار وخواطر وهواجس, لا تقدم شخصيات ناضجة مكتملة, ولا حتى أحداث مقنعة؟!.
لا يمكن إنكار ذاتية التجربة في الأعمال الإبداعية, وبالتالي قد يكون الشاعر صبحي موسى يكتب عن تجربته هو كمؤلف صدرت له أكثر من رواية من قبل. لكن الذاتية قد تتحول إلى نرجسية, وقد بدت ملامح لذلك في تصدير كتبه موسى على أول صفحة في الرواية: "هذا عمل لو تعلمون عظيم", ثم يتبعه بإهداء, يهدي فيه روايته إلى حروف وليس أسماء, مثل "ع س م", و"ش ن ع م"!
تأثرت الرواية بطبيعة الحال بخلفية موسى الشعرية, وبرز ذلك في الكثير من الصور, واستخدامه لفكرة الآلهه, والنجوم, وغيرها. كما ظهرت فكرة الثالوث من خلال العلاقة الثلاثية بين الشيطان والمؤلف, وبطل الرواية التي يكتبها المؤلف. في النهاية هي رواية تستحق أن تقرأ, تكشف العالم الخفي في أعماق الروائيين.