مرن قرن كامل على رحيل المفكر عبدالرحمن الكواكبي ومازالت مسالة الاستبداد التي عالجها في كتابه الموسوم "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"على حالها ، سؤالا يطّوف به المفكرين والمثقفين الذين اثخنوه تشريحا وتقويضا ، تركيبا وتفكيكا ، دون ان ينجزوا تغييرا حقيقيا لواقع الاستبداد الذي لم يتبدل.
هذه الصورة القائمة للاستبداد وشروطه وآلياته التي مضى في توصيفها الكواكبي منذ ذلك الزمن كانت حافزا للوقوف على تجربته الفكرية وقرأتها من جديد وذلك في الامسية الثقافية التي نظمها مركز الشيخ ابراهيم بن محمد آل خليفة في البحرين يوم الاحد الماضي بمناسبة الذكرة المئوية الاولى لرحيله ، وحاضر فيها المفكر اللبناني الدكتور علي حرب.
أين نحن من قضية الكواكبي هو عنوان محاضرة حرب ، وفيها يبين عزمه على الافتراق عن الكواكبي فيما انشغل به من حديث عن آليات الاستبداد وممارساته باعتبار ذلك موضوعا مستهلكا ، والانصراف الى ملامسة جذور الاستبداد ، والعمل على صناعة سؤال جديد هو : لماذا يتزايد الاستبداد ؟ ولماذا فشلت كل المشاريع في هزيمة الاستبداد؟
شواهد عدة يرصدها حرب للدلالة على هزيمة العقول التنويرية ومشاريعها ، بدأها بالاشارة الى احداث الحادي عشر من سبتمبر واصفا هذا النوع من الارهاب بأنه صنيعنا الثقافي الى العالم ، ملفتا في محطة أخرى الى تراجع مستوى الحريات وعودة الحجاب بعد السفور وهزلية الديمقراطيات العربية كنماذج أخرى تحيل على غياب التقدم على ذات الصعيد ، أي إزالة الاستبداد.
يتقدم المجتمع ومؤسساته ومرجعياته الثقافية جذور الاستبداد في خطاب حرب ، ويعتقد بأن الكواكبي برغم اقترابه من موضوع الاستبداد الديني وعلاقته بالاستبداد السياسي لم يكن بمنأى عن الوقوع في "فخ الاستبداد الفكري ، فهو برأيه لا يتمثل مفكرا حرا كامل الحرية ، حين يتخلى عن حريته وسؤاله النقدي في مواجهة تراثه و مرجعياته الدينية بوصفها سلطة مطلقة ،وحين يرمي المسيحية واليهودية بالاستبداد ويمسك عن مساءلة التقديس في الإسلامية ، وتقديم النص على العقل فيها ، فالمرجعيات الدينية بحسب حرب تشترك جميعها في تغليب النص والتسليم بالأمر على المساءلة العقلية الحرة ، وهو أساس الاستبداد كما يشير حرب حيث "فقدان المرء حريته الفكرية ازاء شخص او نص او حدث يجري التعامل معه كأصل ثابت او كمرجع مطلق او كرمز مقدس".
لا يدعو حرب للقطعية مع التراث كمرجعية ثقافية ودينية ، كما يرفض السعي المضلل للمطابقة معه .. ما يقترحه حرب هو أمر بين أمرين..لاتطابق ولا انقطاع وانما علاقة متحركة نسبية نتعامل فيها مع التراث كمعطيات ومخزون فكري من القرآن الى ما بعده.
ويعرض حرب في جانب آخر من ورقته لوجوه المأزق الذي تعانيه الثقافة العربية ، تبرز فيها هشاشة المفاهيم ، كما في مفهوم الحرية الذي يظن كثيرون ومنهم الكواكبي بأنه أصل او شيء يمكن استرداده ، فيما هي برأي حرب ليس أكثر من القدرة على خلق الامكان والتغيير ..الى جانب الطوباويه والنمذجة في فهم الديمقراطية ، والاحادية التي تعكسر المجتمع خلف مقولة واحدة او مشروع ايدلوجي بخلاف روح الديمقراطية التي تعني ممارسة للتعددية، وكذلك النخبوية التي تقسم المجتمع الى نخب وجماهير بنقيض ما تتطلع اليه الديمقراطية من جعل كل المجتمع فاعلين ومؤثرين ، وهذا يتصل على حد حرب بنرجسية المثقف الذي يحبذ ممارسة وصايته على الغير.
أمور ثلاثة يخلص اليها حرب في آخر حديثه كضرورات للخروج من هذا المأرق هي : صناعة لغة التداول ومفرداتها التي تجاوز مفهوم تداول السلطة الى تداول الخبرات والافكار والخدمات ، واتقان لغة الشراكة مع الغير في صناعة الحضارة بعيدا عن أي نرجسية ثقافية ، اضافة الى لغة الخلق والتحول ، بمعنى ان نمارس الابتكار والتطور وامتلاك القوة.
الى ذلك ، وزع المركز اصدارا خاصا بهذه المناسبة ، تضمن عددا من الدراسات والمقالات عن فكر الراحل ،وكان من المشاركين فيه الدكتور منذر العياشي ، والدكتور محمد جمال الباروت ، وفوزية السندي والدكتور حسن مدن وذاكر الحبيل وعلي الديري وآخري
الأربعاء أكتوبر 28, 2009 11:38 am من طرف قيثارة الحب