مَنْ كَسَرَ مصباحَ القمرْ؟
أيُّ مطرٍ هذا الذي
يُطْفِئُ النجومَ بحذائِهِ؟
أينَ نافذتي أيَّتُها الجدران؟
مَنْ أبْكَى الصفصافةَ على ضِفَّةِ روحي؟
وأنتِ يا يدي
مِنْ أينَ جئتِ بكُلِّ هذه الجُرأة؟.
هكذا تطل علينا الشاعرة اللبنانية سوزان عليوان من ديوانها الجديد "كراكيب الكلام" (بيروت ربيع2006) من الصفحة الأولى التي تمطر بكثافة الأسئلة، تصوغ بجرأة أصابعها غيوم الشعر كما لو أن الكتابة في الأصل عطب ما مع الوجود، والسؤال بداية السماء والمطر قميصه الأبدي. من عمق المساء الطفولي تدير مقبض النافذة، تصافح غيمة وتقفز لتمتطي قوس قزح وتمسك بخيوط المطر لحظة التشظي السحري. والمدهش، أنها ترسم بلمسات أبعد من السفر السريالي، هيكل الشتاء، جمجمة القمر وأسنان الخريف. تشك في جثة النافذة وتحطم أشباح الجدران.
من تقاطع هذه الدوائر التي تمطر بغزارة تصنع سوزان عالمها الشعري في قطرة مطر. غير أن المطر في "كراكيب الكلام" ليس نتيجة لمعادلة فيزيائية ولكنه هوية قد تضيع على حين غرة بين الأصابع مثلما يضيع خاتم في النهر. بين قطرة وقطرة تختلط تقاسيم الوجه بالشبيه عبر المرآة الناكرة للجميل وعبر الرنة الدراماتيكية ذاتها:
" مادام الماء حياة
فلماذا لا يتحول المطر
إلى بشر وبيوت وبلاد؟ "
إنها المعادلة السحرية للماء التي تحاول الشاعرة فكها بلغة الشعر التي تتراوح بين الرومانسية والسريالية. فالمطر كائن خرافي يكثف دهشتنا أمام العالم وحالة وجودية ملتصقة بالأسئلة العميقة للكائن ربما لأنه يذكرنا بالشتات والغربة والعزلة والضياع خصوصا حينما ينقر جدار الأسمنت ونحن نصغي إليه من خلف الزجاج ونرتشف كأس قهوة قادمة من غابات كولومبيا. فالمطر يؤثث فضاء لتراجيديا سوداء تبدأ بتهشيم الفراغ بمطرقة اليد وتنتهي بفقدان غابة الأصدقاء والحب البوهيمي النادر ليأخذ بذلك الديوان شكل الوجود والعدم معا.
" ماذا اسمي الفراغ الذي
بين شاهد قبري
وشهادة ميلادي؟
سور الثلاثين
بأحجاره التي
من طيني ومن دموعي "
إن قصيدة "كراكيب الكلام" الطويلة التي تشبه ليلة ماطرة نص بصري بامتياز يعكس توتر الشاعرة الجميل مع العالم والذي يستحق الإصغاء إليه بأذن الروح. لقد منحت للوحة المطر طاقة تعبيرية خارقة تمتزج فيها ألوان القلق والخوف المرعب بألوان الحب والأمل في تناغم لافت لذلك الغموض الجميل للشعر. فهناك شيء ما من ابتسامة لموناليزا لليوناردو دافنشي ومن كراسي بيكاسو الفارغة وشيء من عزلة غوغان )من نحن؟ ومن أين أتينا؟ وإلى أين نذهب؟( شيء ما يتعالى على معركة التأويل.
لقد أهدت سوزان للمطر ملامحها مثل صديق قديم
" من بعثر ملامحي دموعا
على رصيف؟
من منا خذل الآخر؟ "
يبدو أن المطر في متخيل القصيدة مرآة مفتوحة على الكينونة. تتماهى فيها خطوط الداخل والخارج؛ العصافير العطشى والكلمات؛ الدموع وقطرات المطر في تعالق مع القصيدة الجميلة لبول فاليري" هناك شخص ما يبكي في قلبي مثلما تمطر السماء فوق المدينة" أو قصيدة بربرا لجاك بريفير "تذكري بربرا. كانت السماء تمطر بدون انقطاع ذاك اليوم وكنت تمشين وأنت مبتسمة متفتحة مثل وردة سعيدة وسائلة". فحين يضيع الحب في ليلة ممطرة وتغيب الرسائل ويرفض القمر أن يستحيل قميصا للروح يصبح الفراغ الذي يحدثه المطر بين قطرة وقطرة بمثابة دوي هائل يأتي على كل شيء، على علبة السجائر والفكرة الفاسدة العالقة في الذهن وشجرة العائلة.
" حتما، ما كانت أحلامي لتفضي إلى هنا
لعلني غفوت على الطريق قليلا
كنت في أعماقي أبكي
دون أن يلحظ انكساري أحد
سواها "
إن الاشتغال على المطر كطقس من طقوس الكتابة والألم وغموض العالم هو اشتغال يندرج في بحث الشاعرة المستمر على عمق الفاجعة والعطب عبر تضاريس الذاكرة. هناك حيث تختط الغابة بالمدينة؛ والعصافير بجدار الاسمنت المسلح والأشجار بنوافذ الزجاج والسحب بالمظلات في بناء شعري سريالي يروم إعادة تشكيل ملامح الكون ومنحه عبر لغة منسابة وشفافة رعشة الدفقة الأولى. من يقرأ "كراكيب الكلام" يدرك أن للمطر حكايات أخرى؛ ألوان وإيقاعات أخرى فسوزان عليوان تمارس الشعر بمفهوم الكتابة عند بورخيس الذي يقول "أكتب بجدية الطفل الذي يلهو" مع فارق بسيط هو أن لعبة سوزان مع المطر تشبه إلى حد كبير لعبة الملائكة مع السماء مادام هذا الكائن المائي لا يمكنه أن يستحيل زجاجة نبيذ أو رسالة يمكن أن نضعها في الجيب.
أما السماء الملبدة بالطائرات الخفية وأمطار الصواريخ والقنابل الذكية التي تهطل بكثافة على جنوب لبنان فتلك حكاية أخرى يلزمنا لاستيعابها إعادة تفكيك الخريطة المناخية للديوان عبر 44 سحابة (عدد الصفحات)، فسُحب من هذا القبيل:
" يا قلبي العاطل عن العالم
أيها المعطوب بعشق مدينة كانت
عبثا حلمنا وحاولنا وأحببناها
الرسائل لم تصل
والمطر يمحو ملامحنا "
أو
" الآخرون دائما
بأحذيتهم الموحلة على صفحة روحي "
هي سُحب رافضة لأيديولوجية الموت وهمجية الحرب والنفي والنزوح. سحب تحتفي بكترسيسية الماء catharsis وشعرية الانكسار والتشظي وتحول بكيمياء الشعر "كراكيب الكلام" إلى مسرحية دراماتيكية ساخرة تدور تفاصيل أحداثها بين غيمة عابرة وأصابع ساحرة.