دأب السلاطين دائمًا على استئجار قرائح الشعراء، وكيف لا، والشعر هو
الوسيلة الاعلامية الأكثر انتشارًا في عالم العرب في وقت قلَّ من يعرف
القراءة والكتابة، ولم تتغير الحال في وقتنا ، ازداد عدد من يعرفون القراءة
والكتابة ، ولكن القراءة صارت من أقل الكماليات ضرورة لحياة العرب ، اي لم
يتغير الحال وظل الرواة والمحدثون من مروجي الحكايات الشعرية والغيبيات
والخرافات والخوارق هم وسائل اعلام المجتمع.
حمل الشعر في وقته، الحكايات والأحداث ( السياسة بلغة اليوم )، حسب مفاهيم
ذلك العصر، وكان اما شعرًا هجائيًا أو مديحًا اما إذلالاً او تكريمًا، اما
حبًا أو كراهية...أو بطولات اسطورية، وما زلنا في نفس الساحة لم يتغير فينا
الا وسائل تنقلنا ونوع مساكننا ، وأنواع أكلنا ووسائل استماعنا .
بالطبع السلاطين ازدادوا عددا وأشكالا وتعددت مناصبهم طولا وعرضا ،
وارتفاعا وانخفاضا، وكثر الطلب على الدلالين والمداحين ومنظمي الكلام .
وبما ان الشعر والشعراء هي أشهر ما تبقى في الذاكرة من موروثات تاريخ
"الأمجاد العربية"، لذا طمع السلاطين بحشد الشعراء في صفوف "السحيجة "
,ارادوا اخضاعهم لسلطانهم (بصفتهم حافظوا على مكانتهم كأهم وسيلة اعلامية
الى جانب الدعاة والشيوخ الأجلاء ، في مجتمع سماعي يرفض استعمال كماليات
القراءة ) ، فاستأجروا قرائح الشعراء وذممهم ، بصفتهم ممثلي الاعلام الشعبي
، بعد ضمان الاعلام الألهي باعلانهم الرسمي المتكرر اسبوعيا أولي الأمر
على الناس ، وأصحاب الحق الألهي بالطاعة وما يميزهم من ورع وطاعة الله
هوتقديمهم قرابين بالدولارات للوطنيين المخلصين لأنظمة السلاطين.
ربما تكون بعض الحكايات التي نقلها التاريخ على ألسنة الشعراء، مجرد تشويه
للحقيقة التاريخية وتحريفها بما يتلائم وحجم العطاء ( القربان ) الذي يهبه
السلاطين . حجم العطاء يقرر نوع المديح واعلاء شأن السلطان ، وتمجيد كل
ترهاتهم الكلامية وبطشهم واستبدادهم وجعل غبائهم وضيق أفقهم استجابة لأوامر
ربانية ، وبالطبع تعداد بطولاتهم الحربية ( مثل انتصاراتهم على الصهاينة
والأمريكان ) وفحولتهم الأسطورية ،وتعداد صاحبات النعمة اللواتي فض
السلاطين بكاراتهن .. وأمنوا لهن الجنة !!
ومع ذلك ، تاريخنا يحدثنا عن شعراء لم يخونوا كرامة الكلمة وكرامتم، وكان
مصيرهم الجوع والعوز أو الموت بسيف سياف السلطان.
ويبدو أن الحال لم يتغير في بلاد العرب وفي بلادنا،التي كانت من بلاد العرب
وذهبت جفاء، وصارت نسيا منسيا الا في مؤتمرات القمة .
ومع ذلك ما زال الشعر مزايدة تهدف الى احتلال المكانة في رأس الصف، والحصول
على المراد بالموهبة وقوة الصوت ( السنا شعوبا سماعية؟) ، وهو مجد ما بعده
مجد ، وتذكرة تسمح بالصولان والجولان في دنيا السلاطين ودنيانا كلها
سلاطين... من السلطان الكبير ووريثه حتى سلاطين الأحزاب والتنظيمات القومية
والالهية.
هل بالصدفة أن أهم شعراء العرب البارزين في العصر الحديث، قضوا جل حياتهم
بعيدًا عن بلادهم وعن سلاطين بلادهم حتى لا يطولهم سياف السلطان بحربته
الجاهزة لقطع الرؤوس؟
وهل بالصدفة ان سائر رافضي نعم السلاطين ، مشردون في بلاد الغرب الكافر ،
او مقيدون في سجون السلاطين ، تلافيا لشرهم على أمن السلطنة ؟
قرأت للكاتب العراقي الساخر خالد القشطيني مقطوعة عن معاناة الشاعر العراقي
معروف الرصافي الذي تمسك بالوطنية والصدق ورفض كيل المدائح الشعرية للملك
فيصل في العراق وزلمه امثال نوري السعيد ...فجاع، ولولا الجيران والاصحاب
لمات جوعًا.
الرصافي اختار الموت معوزًا جائعا عن الموت في بحبوبة السلطان، وكان معروف
الرصافي يستدين من بقالة في الأعظمية لشخص اسمه جمعة العطار، ولكنه يعجز عن
سداد دينه، حتى قرر جمعة العطار وقف تزويد الشاعر بما يسد رمقه ، حتى يسد
ما تراكم عليه من ديون. ولكن من اين للرصافي ان يسد ديونه المتراكمة... وهو
يرفض الخضوع لسلطان زمانه، الملك فيصل ، ويمدحه بغير وجه حق...؟! فما كان
من الرصافي إلا أن كتب بيتين من الشعر يُنفس فيهما عن مشاعره، على الظلم
والتعسف الذي لحقه من جمعة العطار،الذي ربما رأى فيه الرصافي تجسيدا حديثا
لتعسف السلطان ، ولبطش سياف السلطان ، الذي يقطع الرؤوس بالجوع ، وهي
تكنلوجيا حديثة ابتكرها العرب ، ولم يحصل مبتكرها على نوبل ، ولو كان
مبتكرها يهوديا لجاء نوبل من قبره ليقدم الجائزة المرجوة.
قال الرصافي:
عجبت لأهل الأعظمية كيف لا يرضون جيرة جمعة العطار
جاورته زمنًا وكان جواره في منتهى الانصاف، شر جوار
ولكن جمعة العطار لم يتراجع عن موقفه... ومات الشاعر فقيرًا معوزًا جائعًا،
ولم يخن كرامته الوطنية ومصداقيته... وخلد في شعره سلطان جمعة العطار ،
قاطع الرقاب بالجوع ..
واليوم أصبح الكثير من الشعراء بغنى عن جمعة العطار ومقربين كالمحظيات
لبلاط السلطان ، يملأون بطونهم وعقولهم بالماكدونالد والتشيكين ويندز
والهات دوجز ، ويشربون الكوكا لتخفيف ضغط المعدة والدماغ، وللهضم السريع ،
ويلقون شطاراتهم في الأمسيات ، وينشرون على صفحات الجرائد والأنترنت
قصائدهم ونثرياتهم وخطاباتهم القومية التي تطفح بالاعتزاز العروبي
والفلسطيني ، مؤكدين بديهية انتمائهم للحضارة العربية الشرقية ... ولكنهم
أكثر بعدًا عن الرصافي واعتزازه بنفسه وأدبه ... أصبحت الوفرة سنة الحياة ،
ولم تعد مجاهرتهم بفلسطينيتهم وانتمائهم القومي العروبي ، وشتم الصهيونية
قبل وبعد الوجبات الدسمة ، يجر الويلات .. بل ويشاركون شعبان عبد الرحيم في
مبادئه الغنائية " انا بكره أمريكا " و " انا بكره اسرائيل " انه لنصر
عظيم تحقق منذ أطلوا من جحورهم التي ناموا فيها نومة أهل الكهف خمسة عقود
فقط ، والحق يقال بعضهم لم يصبر أكثر من عقدين !!
فقدت الكلمة قيمتها ، وباتت الصفحات مليئة بالمدائح لمن لا يستحقون أكثر من
بصقة ... وأصبحت الوطنية تقاس بعدد الكلمات وضخامة معانيها . وأصبح
التهريج مقياسا للوطنية ، وصار كل مكتشف لسر صياغة الكلام شاعرا وكاتبا
وطنيا يفضل الزيت والزعتر ( أحيانا ، وخاصة أمام الجماهير الغفيرة –
والغفورة) عن المكدونالد والهات دوجز بعد ان كانوا منخرسين حفاظا على
سلامتهم ومصالحهم ومداخيلهم .
انخرسوا حين كان شعبنا وطليعته النضالية ، يدفعون ثمنا رهيبا بحريتهم
وبلقمة خبزهم .
اليوم يريدون اقناعنا بمصداقيتهم الوطنية والشخصية .
أقنعوا "جمعة العطار" الملأى رفوف دكاكينه بما لذ وطاب من نعم ، بأنهم
خير الزبائن .. فابشروا وانشروا تفاهاتكم ، ما تزال جوارير السلطان ملأى
بالدولار واليورو والشيكل .
أين من ينشر ويكتب اليوم من التحدي السياسي الوطني مثل :"سجل أنا عربي"
التي اطلقها محمود درويش في ظل أشرس هجمة للسلطة الغاشمة ، على الذين وقفوا
بصدورهم المتحدية ، وأكفهم العارية يتحدون بطش وعنصرية وارهاب السلطة في
أيام سطوتها ، مصرين أن امهاتهم ولدتهم أحرارا، وما كان لأي بطش أو سجن أو
ملاحقة حتى لفراش النوم ، ان يكسر عزيمتهم واصرارهم على حقوقهم وحريتهم ؟
لم يكسرهم تعسف السلطان ، واغلاق جمعة العطار ابواب سد الرمق امامهم وأمام
أطفالهم .
شعراؤنا ومثقفونا ومناضلونا وشبابنا وشيوخنا ونساؤنا ورجالنا لم يهادنوا
السلطان حتى في أحلك ايامه على شعبنا وأكثرها سطوة وتعسفا وارهابا وقمعا.
لا أحبائي لم نصل الى ما نحن به من دمقراطية وحقوق ، رغم نقصانها الفاضح
... لأن بطلا قوميا ظهر فجأة ، وأرعب الصهيونية في عقر دارها. أو لأن
العواصم العربية أصبح يحسب حسابها .
كانت طليعة آمنت بدرب معروف الرصافي ، واجهت وأفشلت بأجسادها ، مؤامرة
الطرد من الوطن ، حين كان المتنعمون اليوم "يقرفصون" على عصاعيصهم أمام
عتبة السلطان . أين هم من شعراء وسياسيين صلبوا في الزنازين وشتتوا بالسجون
والمنافي ؟! اين هم اليوم من مثقفين لم يرضوا حتى بالصمت ، وجاهروا
بمواقفهم وطردوا من التعليم ومن العمل ، وضيق السلطان مصادر الرزق والتعليم
عليهم ، ولم يشتروا رضاء السلطان حتى بكلمة خادعة ؟!
لا أريد التعرض لعباقرة الشعر والنثر والفلسفة والسياسة اليوم ، ولا للذين
صاروا سحيجة لكل ما يصاغ نثرا أو شعرا أو تهريجا سياسيا ، بعملية تخريب
وافساد لم أجد في تاريخ الشعوب الثقافي أو السياسي مثيلا لها .
حتى اللغة فقدت قيمتها .. لا أهمية لما تنشر ، المهم ان تضبط قواعد اللغة
وتملأ صياغاتك بياض الجريدة أو صفحات الكتب.
والويل اذا القي القبض على خطأ لغوي .. مسموح لك ان تخطئ في استقامتك ، ان
تخطئ في مصداقيتك ، ان تخطئ في شرفك ، ان تخطئ في وطنيتك ، ان تخطئ في مدح
السلطان ،ان تبيع نفسك ببعض الفضة ، ببعض الشواقل ، ولكن الويل اذا أخطأت
بتشكيل آخر الكلمة.
الذين لا شعر أو نثر فيما ينشرون، ولا معنى لما يكتبون ، وبلا لغة مفهومة
... فما قيمة اللغة عندما تصبح كلمات لا معنى لها، كيفما قرأتها من فوق الى
تحت أو بالعكس، لا يتغير المعنى ، ويجب ان تقر رغما عنك ، انك امام مبدع
طال انتظارنا له ، أكثر من انتظار اليهود للمسيح .. المهم ان تضرب بسيف
السلطان ، مهما كانت مرتبته متدنية ، أو مجموعة سلاطين اذا كنت عبقريا مثل
المغادر قسرا الى جنة العرب ، وسنسميك شاعرا وكاتبا وناقدا وأديبا عبقريا
وفيلسوفا وسياسيا وطنيا بعثيا ناصريا ومناضلا لم يبدأ النضال والصمود الا
مع ظهوره وتجليه بعد أن صمت طويلا ، وحين صار ضامنا للدخل من سلطان أو أكثر
، تفتحت مواهبه الوطنية والابداعية واللسانية .
مكتشفو الأدب والسياسة بغفلة من الزمن اختاروا وهم بكامل قواهم العقلية ،
ان يكونوا وطنيين جدًا ، خاصة وانه لم يعد ما يخسرونه على آخر العمر...لا
يفهمون على الغالب ما يكتبون ، فكيف يفهم القراء؟! كان السلطان يستأجر
القرائح بالمال والخوف من سيف سيافه، فصار "السلطان" يستأجر القرائح
بالألقاب والنشر وتسهيل الوصول للمناصب لرفع المكانة والقيمة والوزن الأسمي
، وليس النوعي ، بعد ان اكتشف ان البطش يولد رد فعل مشابه له في قوة
التحدي . وصار السلطان يقوم بتصنيف السياسيين وطنيا حسب سلم ريختر ، يعلي
شأن أشدهم صراخا رفضيا ، وصار "الموساد" يصنف بعض القومجيين ، كأفضل مصدر
للمعلومات وخدمة سياسة الدولة .
هل الرأي الذي يطرح حين تزول المخاوف ، له نفس قيمة الرأي الذي يطرح ويتعرض
صاحبة لبطش السلطان ؟!
هل الراي الذي يطرح بتفكير واختيار صعب للمعاني ، للتحايل على قوانين
السلطان ، قيمته نفس قيمة الرأي الذي يقال بدون أي حساب وبدون أي تفكير
وبدون ملابسات تعرضك للبطش السلطاني ؟!
هناك شعراء قتلهم شعرهم، واليوم تقتل التفاهة الشعر ، تقتل الأدب الجيد ،
تقتل المواقف ،تقتل العقلانية ، تقتل الفكر ... وتقتل اللغة... وتقتل
الكرامة الشخصية... وتقتل رغبة القراءة لدى القراء. يقول الشاعر محمود
درويش:"الشعر هو الذي يعيد الحياة الى اللغة " هذا حق . والكرامة تعيد
الحياة الى الأنسان ، والصدق يعيد الحياة الى المجتمع البشري ، والاستقامة
تعيد للنفس البشرية تفاؤلها . وفي عصر ثقافي وسياسي مثل عصرنا المأزوم (
داخل اسرائيل على الأقل ) الذي استهلك اللغة وأهانها ، واستهلك الانسان
وأذله ، نحتاج حقًا الى إعادة تفكير، وإعادة ترتيب بيتنا الثقافي والسياسي ،
والفصل بين الأدب وبين الضحالة التي اغرقتنا، بين السياسة والتهريج الذي
أنزلنا الى القاع ، علنا نُعيد للكلمة رونقها وللنص جماليته، وللغة معناها
وقيمتها، وللشعر اسطورته، وللأدب قيمته التي نفتقدها ، وللعقلانية منبرها
ومكانتها، وللسياسة احترامها .
امنيات .. ولكن تجربتنا علمتنا انه لا شيء مستحيل !!