تطيع أن يتصور شكل قريتنا
المحفورة على رأس جبال خرجت هاربة من «خبت الرجاع» الممتد عالي باب
المندب.. ربما كانت قريتنا في عصر التغيرات القديمة جزيرة صغيرة تعوم في
الماء الذي انحسر اليوم إلى خليج عدن.. فعلت الأمواج بقريتنا الأفاعيل..
جاء الماء يزفها إلى هذه المنطقة العالية ثم تركها للشمس والمطر والبرد،
لكنه نسي في طريق عودته مجموعة كبيرة من الأسماك والسرطانات البحرية والشعب
المرجانية، وشكلت هذه المجموعات كلها بذور أجدادنا الذين تناسلنا منهم بعد
ذلك هناك، وفي الخط الذي يقسم القرية قسمين بنى جدي داره الكبيرة وإلى
جواره بنى أبي داراً آخر مكوناً من طابقين تقف أمامه شجرة «اثآب» تمد
أذرعها، إنها أم متجمدة تصلّت في لحظة إشفاق بعيدة، أظنها ولدت في تلك
الفترة التاريخية التي تقهقر فيها الماء حاملاً أمواجه المهولة.. ولا أدري
ما سر الجنون الذي ربطني بتلك الشجرة العتيقة، ثم من الذي اختار الآخر أنا
أم هي؟ وصلنا ذروة العشق ذروة الرقص، ذروة الروح، كم طرنا، كم دخنا، كم
سلونا، وكم بكينا، كم أخذنا صوراً للذكرى، وكم تهنا، دائماً أشعر بأمومتها
لي واخوتها وأحس تجاهها بمشاعر غريبة لم أستطع تحديدها إلى اليوم.
2ـ الشجرة شكل اليابسة حين يكر نحوها الماء فتظل تراوغه
ليبقى البحر بحراً، ولتبقى اليابسة يابسة، قد تتبدل الأدوار، لكن كل واحد
منهما في مكانه؛ يذهب البحر إلى السلطة، تخرج السلطة إلى المعارضة، والعكس
صحيح؛ الشجرة جناح نورس يصفق للموج ضوء الرجل التائه يبحث عن لونه وطعمه
وعرفه.
3ـ في تلك الطفولة المبكرة لم أكن أمتلك شيئاً سوى هذه
الشجرة التي أذهب إليها كلما توعدني أبي وأهرول إليها إن فعلت أمي مثله،
كنت أشكوهم كثيراً وأظل فوقها أقلب أوراقها وسيقانها المتفرعة من عودها
الضخم، ألجأ إليها كلما ضاقت الاتجاهات بي، وكلما اشتدت في دواخلي مواجع
القلب أو كلما استعرت وتيرة الحزن في كبدي، كنت أنظر إلى أغصانها متفحصاً
أشكالها المدببة الحمراء التي أشبّهها اليوم «بأحمر الشفاه» ثم أنظر إلى
تلك الأغصان وهي تتحول إلى أوراق خضراء وقد أعادت ذلك الشكل المدبب ثانية
لإنتاج أوراق جديدة.
أتذكر اليوم وأنا في شتات المدن «تلك الشجرة مثلما يتذكر الرجل الميت وهو
في قبره أبناءه القصّر فيبكي ناهضاً مكسراً أحجار القبر الذي نام فيه يومين
متتابعين لكنه ميت خرج أم بقي هناك».
تمنيت وأنا بعيد عنها لو أن جنّياً يحضرها إليّ، ولكن من أين لي بهذا
الجني؟!.
ولو حدث ذلك هل ستكون هنا مثلما هي هناك؟!
أشك في ذلك: كيف ألاعبها إذن.. كيف يمكنني أن أضاحكها.. فتهرول خلفي..
أحضنها فتتملص مثل أنثى.. كيف أسلخ جلدي من جسدها، هل هي الإنسان وأنا
الشجرة.. أم هي الشجرة وأنا الإنسان، أم كلنا في هذا الفضاء أغصان
خضراء؟؟!.
4ـ افتقدك الآن أيتها الشجرة.. أشعر بوحدتي القاتلة لأنني
كلما توقفت أمام أشجار الزينة في هذه المدينة المطلية بالغبار والعوادم..
تذكرت إلى أي مدى كنت تفتحين جوانحك وأوردتك الضاربة في دماغ الأرض وأكتافك
المفتوحة أمام أبواب السماء.. أفتقدك الآن لأن الأشجار هنا مغلقة على
سوادها يتدخل لحمها بالاسفلت، لذا فخضرتها باهتة وبوحها مكظوم وعطرها لا
يطير.
أتذكرك الآن وأتذكر أول يوم مدرسة كنت أتعلق بين أصابع اليد اليمنى لأبي
مثل قط يموء ويلتفت وينظر إلى الهدف.. قبلها كنت قد خلقت فوق جسدك ألف قبلة
وألف لمسة وألف حكاية، خلقناها أنا وأنت في المدرسة والتلاميذ يأتون
للمعلم بالعصي المنزوعات من شقيقاتك، كنت أحس بالإشفاق عليهن.. مهملات
يصارعن مع الأطفال الأشقياء والمعلمين اللامبالين، لم أحب البقاء يا سيدتي
لأن شقيقاتك الحزينات يتألمن خلف هذا المبنى، تسللت ثم ألقيت بحقيبتي
المصنوعة من قماش رديء في باب الفصل المليء بالضوضاء، ورحت أركض مخلفاً
دفاتري الجديدة والكتب الأنيقة التي تسلمتها يوم ذاك.
هرعت إليك بسرعة البرق، كنت أريد أن أنقل إليك كل شيء عما حدث منذ بدأ
المعلمون يضربون التلاميذ عند دخولهم بوابة المدرسة وأثناء الطابور الذي
تكلل بالتمارين الرياضية وحتى انتهاء الحصة الثالثة.
استقبلتني يومها استقبال الأبطال، لكن أمي التي شاهدتني نادت عليّ مؤنبة:
«ليش أصحابك ما رجعوش وانت قد رجعت، أين وليد، وأين رشاد وأين نبيل؟!».
ثم رفعت صوتها الممتلئ بالفجيعة ضاربة على صدرها: «أين سيّبت الشنطة يا
اهبل؟!».
بعدها عرف أبي بفعلتي تلك؛ فأقسم أنه سيضربني حتى الموت، وذهب ينادي عليّ
من نوافذ الدار بصوت غضوب عرفت من خلاله ألا أمل لي غير الشجرة، تسلق أبي
جميع درجات الدار وسقوف الغرف العلوية، فتش الحجرات كلها والصبول والكراتين
القديمة وتحت الأسرّة والأقمشة المعلقة فلم يجدني، هرع إلى دار جدي
المقابل، تساءل، فتش دون فائدة، لم يترك مكاناً إلا ودس رأسه فيه حتى
الزوايا المظلمة في الدارين.. الكوى من الداخل والقمريات من الداخل، ثم
التنور المطفأ والغرف المهملة الآيلة للسقوط، ولكن دون فائدة، عاد إلى
دارنا وهو يرعد ويتقافز، فمدّته أمي بهذه الفكرة معتقدة أنه قد يهدأ ويفكر
إذا استطال الوقت، قالت: «قد يكون فوق الشجري!».
جاء أبي محملاً فؤوس اللهثات، نادى عليّ معتقداً أنني سأجيب، قذف الشجرة
بالأحجار دون جدوى؛ لأن الشجرة كانت قد وارتني بين أحضانها، ظل يرمي
بالأحجار وينادي حتى كلّت يداه، راح ينظر بدقة إلى أغصان الشجرة العالية
فاتحاً سعة عينيه إلى الحد الأوسع، وفيما هو كذلك قام أحد أصدقائي العصافير
وفعلها فوق وجهه، ذهب منزعجاً ملقياً بشتائمه عليّ وعلى الأشياء كلها، ظل
في الطرقات يساءل العابرين عني «منو شاف علي يا عال، اللي شافه باجيب له
هدية» مسح بعينيه «شواجب» الحقول القريبة ماراً بأحواش الدور وجدران
البنايات ولكن دون فائدة أيضاً.
يومها أحببت الشجرة من كل قلبي، ورحت أرص القبلات عليها مغمغماً أهذي
كالمجنون، كنت أكافئها لأن غصونها خبأتني تماماً، احتضنتني باشتهاء، وغطتني
ببقايا أقماط الطيور وبقايا أعشاش العصافير وكسور البيض والأرياش
المتناثرة من أجساد قبرات غيرن أثوابها وألوانها قبل ساعات.
عندما هدأت ثورة أبي، تسللت إلى أمي وناديتها من إحدى النوافذ، صعدت إلى
السقف، وهناك نمت نوماً عميقاً حتى إذا جاء أبي ولّى محوقلاً في «الغدرة».
في اليوم الثاني كررت نفس الأحداث.. وصلت إلى الشجرة مخلفاً قسوة المعلمين
والمتحرشين الكثر، كان ثمة عصفور هناك "يضع يده تحت ذقنه" ويغني لوجه
الشجرة الكريم.
أصر أبي على ضربي هذه المرة، هرولت إلى حجر جدتي، لكنه لحق بي حاملاً عصا
خيزرانية رشيقة.. حذفتني جدتي إلى الخلف، أمسكت بالعصا وراحت تصد أبي بقوة
وهي تكز على شفاهها «شدعيلك يا عبده أحسن لك!!».
رد أبي: «والله اليوم ما جزعت له» ترفع جدتي حديثها الموجه إلى أبي ـ
«موتشو من الابن آذا كل يوم تبكموه» مط أبي يده الممسكة بالعصا، فوقعت فوق
جسدي الأمر الذي جعل جدتي تضاعف من قوتها وتصده ألقته أرضاً.. لم تكن جدتي
إلى تلك الساعة تعرف ماذا يجري، لكن أبي الذي نهض من الأرض قال لها ـ يا
عجوز تشتوه يكون ابن مدرسته ـ ابن مدرسة» وترد هي بصوت خفيض: «مله خلموه
للسنة الثاني عادو جاهل».
لحظتها تدخلت أمي موجهة كلامها إلى أبي: «خلاص خلوه يروح يرعي الغنم» وفيما
هم يتراشقون الكلام تسللت أنا خارجاً من البيت، خفية صعدت الشجرة وأنا
أبكي وأقول مغمغماً: «مشتيش أكون ابن مدرسة.. اشتي أكون ابن شجرة.. ابن
شجرة» ورحت أصعد.. أصعد حتى وصلت إلى الإرتفاع العالي، إلى الحد الذي كنت
أتمنى فيه أن أسقط وأريح نفسي وأريح الشجرة، وأريح أبي وأمي، لم أكن أنظر
إلى الأسفل مطلقاً، كل ما كنت أفعله هو التنقل من غصن إلى آخر، ومن جناح
إلى جناح حفيفاً، كنت مثل طير، لكن ما كدّرني لحظتها هو هذه الديدان التي
بدأت تزحف ببطء فوق الشجرة إذ هذا هو موسم «القحط» ومن هذا اليوم ستبدأ هذه
الديدان الخضراء المائلة بطونها إلى الاحمرار بالتنقل فوق الشجرة لقضم
أوراقها وعليّ أن أتكيف مع الطور الذي رأيته في العام المنصرم وذلك عبر
التعامل مع هذه الديدان على أنها جزء من أشياء الشجرة، وهي على كلٍ لن تطول
سوف تموت هذه الديدان بعد عشرات الأيام قد تقل وقد تزيد لكن الشجرة ستعود
لي أنا وحدي، وبالفعل لم أتأذى من مرور الديدان فوق جسدي وان حاولت أقدامها
الكثيرة إثارة تقززي، لأن ذلك يعد تغيراً فسيولوجياً متعلقاً بتقلبات
الجسد لدى الإنسان والنبات، ولعل ذلك يشبه حدوث دورة الطمث عند النساء إلا
أن هذا التغير لا يعني هجرها مثلما يحدث للمرأة .
إن إصابة الشجرة بهذه الديدان لم يكن يعني لي سوى البقاء إلى جوارها في هذه
المحنة مثلما تفعل هي حين أتعرض لمكروه، إضافة إلى أن الأوراق ستعود أكثر
خضرة وأكثر طراوة وأكثر بريقاً.
5ـ ضرب ساقي نتوء يابس حاد عندما تسلقت الشجرة.. تدفق
الدم بغزارة على الأوراق الخضراء عاكساً لوناً داكناً، تدحرجت قطرة الدم
الأخيرة من الغصن الأعلى فالأسفل، فالأسفل محدثاً نغماً إيقاعياً جديداً،
قطرة أخرى وقفت في الهواء متجلطة من أثر البرد ومن أثر دم الشجرة الأبيض
الذي رحت أخلطه بدمي حتى أنسد الثقب الذي أحدثه النتوء تماماً.
6ـ بقيت هناك، صرت ابناً لشجرة لم تلدني.. أخاً لسماء
محشوة بالملائكة، أباً لعصافير لا بيوت لها، وأماً لسحب عاطلة عن الجنون
ومشبعة بالعمل.
7ـ لم يحدث أي شجار بيني وبين الطيور التي كانت الشجرة
تستضيفها؛ فقد كانت تشبهني إلى حد كبير.
هي أيضاً تجيء هاربة من الآباء والأمهات، إنها الملاذ الأخير للعصافير التي
جرحها الصيادون وتعابث بها الأطفال، ترتادها أيضاً في الليل السحالي
والزواحف و«الأخاضيب».. جميعهم يستقرون هنا، وجميعهم تعودوا على وجودي في
هذا العلو الذي كنت أستطيع الاستلقاء عليه نهاراً وليلاً، أحياناً كنت أغمض
عيني فيدور رأسي وجسدي وتدور الشجرة وتدور القرية وتدور الجبال، تنسلح
الشجرة من جذورها مخلفة غباراً كثيفاً في مشهد يشبه إقلاع المكوك الفضائي
«دسكيفري».
الأربعاء يوليو 28, 2010 3:27 pm من طرف هشام مزيان