إن سؤالا مثل من أسقط روما؟ قد يضع المؤرخين في حيرة تامة، تماما مثل السؤال عن هوية الغزاة الذين حولوا بقايا الإمبراطورية العظمى لمجموعة أقاليم متقاتلة. هل هاجرت حشود من البرابرة هجرة بعيدة المدى؟ أم أنها جيوش محلية متفرقة تحركت لملء فراغ السلطة الذي خلّفه ضعف العاصمة؟ أم كلا السببين معا.
ليس من قبيل العادة أن يطرح هذا السؤال في هذه الصفحات، فللمؤرخين صحف ولقاءات تخصهم. لكن الباحثين مستمرين بنقاشهم حول الماضي، و يحاول صنف جديد من هؤلاء شق طريقهم عبر تقنيات الحاضر. وتأتي رغبة هؤلاء الباحثين باستخدام تقنيات جينية حديثة للإجابة عن أسئلة تاريخية، في محاولة منهم للتقدم بحزم على خطى زملائهم في العلوم الإنسانية. ويعِد علماء الوراثة بإجابات على تلك الاسئلة باستخدام تحليل للحمض النووي، وذلك للكشف عما حدث بالفعل خلال العصر البرونزي، وملاحم الفايكينغ، وبدّل التواريخ “المتعصبة” ببيانات جامدة.
لا يحتضن كافة المؤرخين هذا العالم الجديد. ففي العديد من الدراسات التي كشف فيها الباحثون بعض التحول في التركيبة الجينية لسكان المنطقة، ثم افترضوا أن هناك حدثا تاريخيا ربما كان مسؤولا عن تغيير ديموغرافي، دعا بالمؤرخين للتذمر والمطالبة بمنهج “التسلسل أولا والتأريخ لاحقا”.
وقد نُشر في السنة الماضية -في هذه المجلة- بحوث أزعجت المؤرخين واللغويين على حد سواء. تُظهر تلك البحوث تشابها بين الشريط الوراثي (الجينوم) لأناس يعيشون في السهوب الروسية قبل خمسة آلاف عام، وأناس يعيشون في الغرب الأوروبي قبل أربعة آلاف وخمسمائة عام. وتكهنت تلك الدراسات بأن ذلك التعالق كان نتيجة هجرة واسعة لأوروبا من سكان السهوب، الذين قاموا بدورهم باستجلاب كافة لغات الهندو-أوروبية، لدرجة أن الأسر كانت تتحدث كل اللهجات المحكية في القارة تقريبا. (انظر Nature 522, 140–141; 2015).
قد يتوقع المرء من المؤرخين أن يكونوا معادين لسلسة الجهود الحديثة، والتي تهدف لتحليل الحمض النووي لألف ومائة مجموعة باقية من أنحاء إيطاليا، أستراليا، هنغاريا، وجمهورية التشيك. كل ذلك للكشف عمّن ملأ الفراغ الذي خلفه سقوط الإمبراطورية الرومانية، أو على الأقل كيف تحولت الإمبراطورية لمملكة لومبارد، والتي حكمت أجزاء من إيطاليا بين القرنين السادس والثامن ميلادي.
من ضمن حاملي لواء هذا المشروع، باتريك جيري مؤرخ القرون الوسطى، وعضو معهد الدراسات المتقدمة في برينستون (نيو جيرسي)، والذي شكل أسئلة المشروع وكيفية صياغتها. يناقش جيري ضرورة قتال زملائه لأجل روح هذا التخصص قبل أن ينهش، “إذا لم يتدخل المؤرخون ويقتحموا التقنية بشكل جاد، سنشهد مزيدا من الدراسات من قبل علماء الوراثة، يقابلها إسهام متواضع من المؤرخين، أو لنكون صريحين من مؤرخي الدرجة الثانية”
هذا الأسبوع في معهد ماكس بلانك للتاريخ البشري في جينا (ألمانيا)، سيقود جيري مجموعة عمل ستقوم بجمع عشرين مؤرخا من المؤرخين القدماء، وعلماء الآثار، وذلك لدراسة الحمض النووي القديم والوسائل النوعية التي تخلّ بكيفية استقصاء الباحثين للماضي.
إن القلق من استخدام التركيب الجيني للفرد بالتبادل مع هويته أو هويتها الأثنية، هي إحدى المشاكل التي تؤرق المؤرخين. فهم -أي المؤرخين- يفضلون رؤية مجموعة أثنية مثل الأنجلو-ساكسونية أو الفرنجة، كفئات سوائل تتطلب تحديدا مع مجموعة ورفض للأخريات. وبالتالي، لن يستخدم الحمض النووي للنظر في جهود لومبارد المتتابعة وتحديد التسلسل الجيني لمؤسسي المملكة، وإنما لطرح أسئلة لم تدرك بشأن أمر الهجرة واستمراريتها بين السكان الأوائل والمتأخرين، وما إذا كانت سلالاتهم تتعلق بكيفية ومكان دفنهم.
تجري جهود حالية لجعل المؤرخين وعلماء الوراثة يسيرون على خط واحد. ففي الجمعية التي يرأسها الباحث هانز شرودر -باحث في الحمض النووي للعصور القديمة- بجامعة كوبنهاغن، والذي ربح مؤخرا 1.2 مليون يورو (ما يعادل 1.3 مليون دولار أمريكي) نظير مشروع بحث تعاوني دعاه بـ CITIGEN، جاعلا مجاله في متناول المؤرخين والباحثين في العلوم الإنسانية. قلِق شرودر وجيري أيضا من الاستغناء عن المؤرخين في حال فشلهم بدمج علم الوراثة في أبحاثهم قائلا: ” سيجتازنا القطار إذا ما قفزنا داخله”، ويعمل شرودر الآن على دراسة تجارة الرق عبر المحيط الأطلنطي باستخدام الحمض النووي.
سينعم المؤرخون الشباب وعلماء الآثار في هذا الأسبوع أيضا بتجربة أولى للوراثة الجزيئية، ويؤمل أن يخرجوا منها بوسيلة جديدة تضاف لأبحاثهم. ويجدر بهم الاستعداد لفهم علم الوراثة وتحدي الرؤى المستقاة من الحمض النووي القديم، وصياغة كيفية استخدام التقنية لتفسير الماضي، وليس مجرد قراءة ورقة حول ذلك. وختاما نقول “البرابرة على الأبواب”(1)