مدخل
لقد مضى، حتى الآن، زمن منذ انتهى بعض الباحثين من وضع تصور عام يشمل مجمل القضايا والمسائل والأفكار التي تمت بصلة إلى علم النحو العربي. وقد صنفوها في المجمل إلى اتجاهين. ووفقا لهذا التقسيم فإن القضايا والمسائل التي تنتمي إلى ما يُعرف بالنحو التعليمي تهدف إلى غاية تُعْطي النحو تصوّرا معينا، وهي الغاية التي يجري الحديث عنها تحت فكرة صيانة اللغة.
يوصّف مفهوم النحو التعليمي الفكرة الجوهرية في التراث النحوي العربي الكلاسيكي التي ترى أن دراسة النحو تؤدي دورا فاعلا في تجنّب الخطأ اللغوي إذا ما حُدّدت مجموعة من القواعد؛ لذلك فقد يُعرف بالنحو المعياري، ولأنه يُعنى بمكونات التركيب فإنه قد يُعرف بالنحو التحليلي.
أما مجموعة القضايا والأفكار والمسائل الأخرى التي لها صلة بمعاني الجمل اللغوية وتركيبها، ووصف النظام اللغوي فتقع ضمن الاتجاه الآخر الذي يُعرف بالنحو العلمي، وهو مفهوم يوصّف دراسة النظام اللغوي وتركيب الجمل ومعانيها العامة؛ لذلك فقد يُعرف بالنحو الوصفي.
وعلى الرغم من أن هذا التقسيم له جذوره التاريخية العميقة، إلا أنه لم يُعرف ويُبلور إلا في القرن الماضي (القرن 20) عندما عُرضت قضية ” تجديد ” النحو، واُطّلع على تطور مناهج الدراسات اللغوية الغربية، والتعارض الذي قام بين مّن يريد تجديد النحو أو بقائه في صورته الكلاسيكية.
غير أن الملاحظ أن كلا الاتجاهين التعليمي والعلمي تجاهلا تاريخ النحو؛ ذالك أن الحيز الذي أُفرد للحديث عن قضايا ومشكلات ومسائل النحو العامة أو التفصيلية واسع، وارتبط في الغالب بحياة هذا النحوي أو ذاك لاسيما في الرسائل الجامعية، إلى حد يحق للمرء أن يتحدث عن معتقد علمي جامعي يبدأ بحياة النحوي عند الحديث عن النحو ، وقد تدرّب جيل كامل على هذا.
يتضمن هذا التناول -الذي يبدو أن حسا مشتركا يحكمه -مسلمات أبرزها فكرة أن تاريخ النحو مرتبط بتاريخ النحاة. وقد كفّت هذه المسلّمةُ تاريخَ النحو عن أن يكون تاريخا لعلم النحو ذاته. ولم يعد السؤال سؤال النحو من حيث هو علم، إنما سؤال النحوي من حيث هو عالم.
طيف تاريخ النحو
لن أبدأ برفض تصور تاريخ النحو الذي يربطه بتاريخ النحاة، ولن أتعامل معه كخصم للتاريخ الذي اقترحه لعلم النحو؛ لذلك لن أتجاهله إنما سآخذه مأخذ الجد، وسأبحث عبره وأنطلق منه؛ لذلك يجب أن أبدأ باعتراف هو وجود طيف لتاريخ النحو ؛ أعني تاريخ النحو في شكله التقليدي الذي يؤرخ للنحاة وطبقاتهم وتراتبهم ومدنهم وأقاليمهم. غير أن حصّة تاريخ النحو قليلة في هذا الإجراء الذي يعجز عن أن يدرك البعد التاريخي للنحو من حيث هو موضوع تاريخ النحو.
لم يعد تاريخ كهذا مرضيا، وليس واضحا في البداية كيف يمكن أن يُنجز تاريخ آخر، بيد أن ما هو مؤكد أن إنجاز تاريخ مغاير لن يُنجز عن طريق تفكير مضمون النتائج؛ إنما من الواجب أن يغامر الباحثون. ذلك أن العقل البشري إذا لم يكن موجها بالمغامرة فإنه لا يستطيع أن يتغلب على ما كان يُعتبر حقائق مقررة نشأ عليها، وفي العلوم الإنسانية المفتوحة على بعضها البعض لن يكون من المناسب لعلم معين ألا يخرج من كهفه إلى ما تشمله العلوم الإنسانية الواسعة.
لا يمكن أن تكون إعادة كتابة تاريخ النحو العربي بلا فائدة مثله مثل إعادة كتابة التاريخ العام. لقد اعتقد جوته ” أنه يتعين من وقت إلى آخر إعادة كتابة التاريخ العام، لا لأننا نكتشف وقائع جديدة، ولكن لأننا ندرك جوانب مختلفة، ولأن التقدم يأتي بوجهات نظر تفسح المجال أمام إدراك الماضي والحكم عليه من زوايا جديدة [1]؛ لذلك رأيت أن كتابة تاريخ جزئي للنحو ستضفي على هذا الجزء الحيوية والنشاط الذي يتولد عن إدراك تاريخ النحو من زاوية جديدة. ولكي نعيد كتابة تاريخ علم النحو العربي نحتاج إلى أن نتخلى عن الأحكام المسبقة، وإلى عدسة جديدة. يشبه هذا استخدام نظارة طبيّة تحول الإحساس بالمنظور، بحيث تكاد تُلمس الأجسام بعد أن كانت بعيدة وغائمة. وأن ننتقل من مرحلة عاطفية إلى مرحلة عقلانية . من مغامرة فكرة إلى أمان معقوليّتها. ومن هذه الأفكار فكرة أن يؤرخ للنحو العربي استنادا إلى تطور مفهومه.
مناطق تاريخ علم النحو المُقترحة
لكن فكرة كهذه إذا ما نُظر إليها من الجانب الذي تبدو عليه ضمن تاريخ النحو العربي فإنها تبدو فكرة واحدة ووحيدة؛ ذلك أن أفكار تاريخ النحو العربي يمكن أن تكون أكثر منها بكثير. يمكن أن أضع تحت تاريخ النحو العربي تحليل صراع النحاة المتعلق بقضايا النحو ومسائله العلمية، والتساؤل عن الفكرة التي كونتها كل جماعة نحوية، وتتبّع بناء مفاهيم النحو المؤسّسة والنحاة الذين ساهموا في تأسيسها، وتتبّع المفاهيم الموجهة للنحو والنحاة الذين ساهموا في تأسيسها.
تتضخّم أفكار تاريخ النحو العربي بقدر ما نغامر في عرض أسئلة جديدة أو إعادة التفكير في أجوبة قديمة ومعادة ومألوفة؛ فكتب مراتب النحويين تتيح لمؤرخ النحو تحليل الكيفية التي قام بها النّحاة بوصفهم أساتذة وشيوخا لنحاة آخرين ، وكتب الطبقات تتيح له الكيفية التي تترابط بها جماعة نحوية ما. والشروح والحواشي تعطينا صورة تخطيطية لعصور المعرفة النحوية، ومساهمات النحاة الكبار تعطينا تاريخا لتكوّن أو تطوّر أو تفكّك أو حتى تنقيح المفاهيم النحوية.وكتب الخلاف تعطينا فكرة عن مشكلات النحو الكبرى، ومخططا تاريخيا لتطور تلك المشكلات.
تتيح مناطق عمل كهذه أن تنقذ تدهور تاريخ النحو العربي الذي تعود إنجازاته التي نعرفها إلى قرون قديمة، وإلى إنجازات أقل في القرن الماضي. وبالرغم من كل الملاحظات التي أبديناها تحت كلمة ” طيف ” إلا أن الذين ألفوا في الخلافات النحوية، ومراتب النحويين وطبقاتهم والمدارس النحوية وفروا للباحثين مادة مهمة يمكن أن يجد فيها مؤرخ علم النحو نفسه في وضع يسمح له أن يرى تاريخ النحو من وجهة نظر غير مألوفة ومختلفة عن تلك التي أراد أولئك أن نراه.
أسئلة تاريخ علم النحو المُقترحة
وهكذا إذا نظرنا إلى كتب النحو وشروحها وتلخيصاتها، وإلى كتب تراجم النحاة وطبقاتهم ومراتبهم، وخلافهم من حيث هي كتبٌ أخرى أكثر من كونها تشرح أو تختصر قضايا ومسائل نحْوية، أو تترجم لحياة هذا النحوي أو خلافه ، فإن ذلك قد يؤدي إلى تحوّل في تصورنا عن تاريخ النحو الذي يأسرنا الآن. ويحاول هذا المدخل أن يُظهر تصوّرا آخر ومختلفا لتاريخ النحو .
لن تُكشف هذه الصورة إذا ظللنا نسأل الأسئلة ذاتها: متى وُلد نحوي ما؟ وأين؟ ومن شيوخه؟ وما كتبه؟ وهي الأسئلة النمطية التي تفرضها الصورة المألوفة لتاريخ النحو؛ ذلك أن التراجم والمراتب والطبقات بدت لنا مقتطفات متعلّقة بسيرة حياة النحوي مخلوطة بفكره النحوي.
ولكي تتضح الصورة الجديدة يجب أن تتغير الأسئلة إلى: لماذا يشرح النّحاة كتبَ بعضهم بعضا؟ لماذا يختصرون كتب بعضهم بعضا؟ ما علاقة النحوي المتأخر بالنحوي المتقدّم؟ هل عارضه أم وافقه في آرائه النحوية؟ وأسئلة أخرى ستبدو من نمط مختلف. إن تغيير الأسئلة يغير الإجابات ، وحينما نجيب عن أسئلة كهذه فإن تصوّرا لتاريخ النحو سيبدو مختلفا.
تشبه هذه الأسئلة تساؤلات الفيلسوف كارل ياسبرز في آخر نص فلسفي كتبه [2] عن معنى المعارف والنصوص التراثية بالنسبة إلينا، وعلى أي نحو تمثل عندنا كلا متكاملا، والكيفية التي تتّسق بها فيما بينها، وتذكّر في الوقت ذاته باقتراحه أن الإجابة عن أسئلة كهذه تكون تالية لفهمنا معارف التراث ونصوصه، وأن تصورنا للتراث وتأويلنا له هو ما يجعله حاضرا أمام عقولنا. ما الذي يمكن لهذا النص الفلسفي أن يقدمه لموضوعي؟ الفكرة الموجّهة لذلك الكتاب؛ أعني أن تاريخ النحو العربي يشبه تاريخ الفلسفة من حيث هما كل متكامل. لكن إذا ما بحثنا تفتّت هذا الكل إلى وجهات نظر أفراد ” فكروا في معاني ومضامين، وعاشوا قضايا وإشكالات، وبذلك يصير تاريخ الفلسفة هو تاريخ إشكالات تحاوروا حولها، وطرحوا أسئلة، وقدموا إجابة عنها [3]“. إن كل واحد من هؤلاء الأفراد مميّز ولا ينوب عنه آخر، ومكانته في تاريخ الفلسفة الكلي تخضع لأسلوبه ونوع فكره. كل واحد من هؤلاء له علاقة بغيره؛ فهو يقرؤهم، ويستوعبهم، ويتصارع معهم، وبذلك يكون تاريخ الفلسفة تاريخ تواصل وحوار في إطار ما يسميه ” الفلسفة الخالدة “.
هذه الفكرة الموجّهة لكتاب ياسبرز هو ما أريد أن أتحسسها في تراث النحو العربي، شرحا واختصارا ونقدا ومعارضة وتراجم للنحاة ، ثم أقترح بين فكرة وأخرى أفكارا عامة تشكل في نهاية المطاف ما أراه مخططا ممكنا لتحليل التصور التاريخي للنحو العربي الذي لم يقم به أحد حتى الآن.
شعب النحو المرجانية
يشعر قارئ التراث النحوي العربي أن الكتب النحوية التي كتبت عن الكتب النحوية شرحا أو تلخيصا أكثر من الكتب المشروحة أو الملخّصة، حتى يخيّل للقارئ أن كتب التراث النحوي لا تقول شيئا سوى شرح أو تلخيص بعضها بعضا. على سبيل المثال أحصى عبدا لسلام هارون في مقدمته لتحقيق كتاب سيبويه (23) كتابا في شرحه و(11) كتابا في شرح شواهده و(3) كتب في اختصاره أو اختصار شروحه و(4) كتب في الاعتراض أو رد الاعتراضات، ومجموع هذا كله (55) كتابا ، شارك فيها كبار علماء العربية كالمازني وابن السراج و السيرافي.
قد يعترض قارئ ما أن كتاب سيبويه يستحق ذلك؛ لأنه من الكتب المؤسسة للنماذج العلمية. وكما هو معروف فهدف مثل هذه الكتب هو الحفاظ على نموذج نحوي متماسك. ويترتب على ذلك أن مهمة تلك الكتب تتمثل في أن تصفي نموذج نحو سيبويه، وأن تشذبه، وأن تصقله.
غير أن حجة كهذه يترتب عليها أن مهمة النحاة في تاريخ النحو العربي لن تكون إبداع المفاهيم النحوية الجديدة، ولا تطوير النحو من حيث هو علم بالإضافة إليه أو توليد نماذج أخرى، إنما مهمتهم أن يحافظوا على نموذج نحوي معيّن، ويفنوا أعمارهم في تشذيبه وتنقيته وصقله.
غير أن الشرح لم يقتصر على كتاب سيبويه، فقد شرح النحاة كتبا تعليمية ميسّرة أشهرها كتاب ” الجمل في النحو ” للزجاجي . وقد أحصى محقق الكتاب (41) كتابا في شرحه يتراوح حجمها بين مجلدين وبين تعليقات . كما أحصى (18) كتابا في شرح أبيات الكتاب وشواهده.
وعلى أي حال ليس هذا الجرد السريع أعلاه بلا دلالة ، إذ يمكن أن أستنتج التصور الذي يتحرك خلف التراث النحوي؛ حيث يستند –في غالبه-إلى أن المعرفة النحوية هي ما ينقل من أسلوب إلى أسلوب، وأنها تقوم على التشابه؛ لأن الشرح والاختصار يشبهان ما شرحاه أو لخصاه.
لكن ومن جهة أخرى، وهي الجهة التي تهم مؤرخ النحو يشبه تلخيص الكتب وشرحها ” الشعب المرجانية ” التي تتكوّن من طبقات عديدة من حيوان المرجان، لكن الطبقة الأخيرة هي التي تكون على قيد الحياة. تموت هذه الطبقة بعد عدة سنوات لتحل محلها طبقة جديدة. وبعد أن تلد كل طبقة حية يتغير نوعا ما شكل الشّعب؛ يصبح” أعلى قليلا، أكبر قليلا، ويبدو مختلفا قليلا [4]” . يعطي هذا الشبه مؤرخ النحو العمق التاريخي لشرح الكتب النحوية وتلخيصها؛ ذلك أن كل تلخيص أو شرح مرتبط بما يلخّصه أو يشرحه؛ ما يعني أن مفهوم النحو بُني وتكوّن عبر الأجيال. يموت جيل ويأتي جيل، لكن الجيل الجديد لا يبدأ من جديد، إنما يواصل البناء على أساس ما تركه النحويون السابقون. وبالمقارنة مع الشعب المرجانية يُحافظ الجيل الجديد على مفهوم النحو، لكن في الوقت ذاته يتغير قليلا. يستمر مفهوم النحو لكن مع المدد المديدة يتغير قليلا.
من هذا المنظور تصبح شروح الكتب النحوية وتلخيصها مهمة لمؤرخ النحو؛ لأن التواصل مع الماضي عنصر مهم فيها. ويمكن أن أعبر عن حالة كل ملخّص أو شارح بما عُبّر عن واقع الثقافة التي تمثل شيئا كالشعب المرجانية فـ” أن يكون الفرد من عائلة مرموقة؛ فإن ذلك يعطيه مكانة اجتماعية، لكن المطلوب منه أن يتطور حتى لا تتعفن جذوره. النشء يفتقد إلى النمط والأسلوب، ويحتاج إلى أبعاد إضافية من العمق “. وأظن أن هذا ينطبق على النحوي الشارح أو الملخص.
اختصار الكتب النحوية
ويمكن أن أجمل ما يعنيه اختصار كتب النحو لمؤرخ النحو في الأفكار التالية
– يلخص بعض النحاة كتب نحاة آخرين، وكما نعرف فإن التلخيص لا يحتمل التجاوز، لأن التلخيص يحمل صدى المؤلف الأول و محاكاته، ومن ثم فالتلخيص موقف تعليمي أكثر منه موقفا ” تأليفيا”. فإن يلخص نحوي ما كتبه الآخر يعني – أولا – إيمانه بجدوى ما كتبه كما يعنى – ثانيا – إيصاله إلى أكبر قدر ممكن من الناس، ويمكن أن أضيف – ثالثا – تسهيل درس الكتاب المُلخّص وتحصيله لتسليم الملخِّص بأهمية الملخَّص.
–هناك إطار عام للتلخيص؛ ذلك أن المشكلة المعروضة على المهتمين بالنحو هي: كيفية التعامل و السيطرة (مع/على) المعرفة النحوية المتراكمة. لا يمكنني هنا إلا أن أفكر إلا في إمكانية الاستغناء عن ضخامتها بملخصات تمثل حلا مقبولا يستجيب لشرط الذاكرة. ومن هذا المنظور وُلد الملخص من سؤال هو: كيف يمكن استيعاب المعرفة النحوية المتراكمة؟.
–ولد الملخص وهو يحمل معه عملا مريبا ، فعند مستوى ما تبدو الرغبة في تلخيص كتاب ما رغبة في تجاوزه، إذ أن الكتاب هُوية لا تقبل الاختراق مادام يحمل اسم وتوقيع مؤلف آخر، وكل تلخيص هو بمعنى ما تجاوز ينطوي على إدانة المؤلف بالجهل و القصور.
– حينما يتوسط الملخص بين مؤلف الكتاب وبين القارئ إنما يعتبر ذاته أعلم من المؤلف والقارئ معا؛ ذلك أن القارئ من وجهة نظره قاصر لأنه لا يستطيع أن يقرأ ويستوعب كل الكتاب ، والمؤلف أيضا قاصر لأنه عجز أن يقدر المعرفة باللفظ الذي يناسبها.
– إن التلخيص بمعنى ما هو اتهام مبطن بالثرثرة والهذر، والملخصون إذ يقيمون بين ( المؤلف) و(القارئ) – من حيث هم وسطاء – يزعمون إنقاذ المؤلف من تشوهات وانحرافات، ولذلك لا يخلو عملهم من عنف مشروع لم تكن المؤسسة الثقافية – حينئذ – تجرمه أو تدينه.
شرح الكتب النحوية
أما شرح الكتب النحوية فيمكن أن أجمل ما تعنيه لمؤرخ النحو في الأفكار التالية
– إن الشارح هو الملخص معكوسا. فالرغبة في شرح كتاب ما رغبة في تجاوزه، إذ الكتاب هوية لا تقبل الاختراق مادام يحمل توقيع آخر، و كل شرح ينطوي على إدانة القصور. وإذ يتوسط الشارح بين الكاتب وبين القارئ إنما يعتبر ذاته أعلم منهما معا، فالقارئ قاصر لأنه لا يستطيع أن يقرأ ويستوعب الكتاب، والمؤلف قاصر لأنه عجز أن يقدر المعرفة باللفظ الذي يناسبها.
– الشرح بمعنى ما هو اتهام مبطن بالغموض، والشارحون إذ يقيمون بين(المؤلف) و(القارئ) – من حيث هم وسطاء – يزعمون إنقاذ المؤلف من تشوهات وانحرافات، ولذلك لا يخلو عملهم من عنف مشروع لم تكن المؤسسة الثقافية – حينئذ – تجرمه أو تدينه.
– يخفي الشرح تصورا يتعلق بالتأليف والحقيقة. وإذا ما تأملت الكتب التي شرحت كتاب سيبويه فسيتضح أن المطلوب من تأليف تلك الكتب الشارحة أن تكشف عن المبهم والخفي والمشوش في كتاب أصلي ككتاب سيبويه، وأن الحقيقة مبهمة ومختفية، ومهمة التأليف هي البحث عنها في ذلك الكتاب الأصلي.
مراتب وتراجم وطبقات النحاة
يُحتمل أن تكون بدهية؛ تلك التي مفادها أن كل نوع من أنواع الإنتاج الأدبي التي ينتجها مجتمع ما تعبر عن دافع من دوافع المجتمع الواعية أو غير الواعية. ولتفهّم هذه البدهية فيما يتعلق بالتراجم يفترض هاملتون جوب [5]أن ما يكمن وراء التراجم العربية هو أن تاريخ الثقافة الإسلامية هو في الأساس إسهام أفراد في ثقافتهم النوعية. يعكس هؤلاء الأفراد وليس السياسيون القوى الفاعلة في المجتمع الإسلامي، وإسهامهم الفردي جدير بأن يُسجل ويبقى للأجيال القادمة. لا يمكن أن ننسى تخليد الذكرى الذي بدأت به فكرة التراجم في التراث العربي لاسيما الصحابة غير أنها اتسعت فيما بعد إلى الدور الفئوي الاجتماعي عوضا عن السياسي. ترتب على هذا أن المؤهل الأساسي للمُترجَم له هو إسهامه الفردي في التقليد الثقافية للمجتمع الإسلامي. ثم تبع ذلك أن توسعت فكرة التراجم إلى الثقافة العربية كالأدباء والشعراء واللغويين والنحاة.
في إطار هذا التقليد تُرجم لعدد كبير من النحاة. بدأ ذلك المبرّد وثعلب، وتبعهما ابن درستويه، والمرزباني وغيرهما. غير أن أهم كتابين عرفا في هذا المجال هما ” مراتب النحويين ” لأبي الطيب اللغوي، و” طبقات النحويين واللغويين ” لأبي بكر الزبيدي . فقد ترجم الزبيدي تحت مفهوم “الطبقة ” لعشرات النحويين، وكذلك أبو الطيب اللغوي تحت مفهوم ” المراتب “.
وقد احتفى محقق كتاب ” طبقات النحويين واللغويين ” بنهج الكتابين معا، واعتبر كل واحد منهما فريدا من نوعه بين كتب تراجم النحويين . يقول عن الأول ” لم يسلكه أحد من قبله، ولا نهج نهجه ممّن جاء بعده “. غير أن المؤرّخ الحديث لعلم كعلم النحو سوف يتساءل عن معنى الكتابين، وعن الهدف الذي جعل المؤلفيْن يقيمان كتابيهما على فكرة الطبقة والمرتبة.
يرتبط الترتيب والتبويب والتصنيف بتفكير الزبيدي وأبي الطيب اللغوي نفسيهما، وهو التفكير الذي لا يرتبط بالمؤرخ الحديث لعلم النحو الذي يعرف أن الأسئلة التي عرضت عن نشأة النحو العربي وغايته ومعناه وتاريخه كانت موضعا للتأمل منذ قرون طويلة كتاريخ النحاة، والجماعات العلمية النحوية(الطبقات) والمدارس النحوية (الكوفة والبصرة وبغداد إلخ …) إلا أنها لا توفر تصورا تاريخيا لمفهوم النحو؛ إذ لا يوجد سوى تراجم النحاة وحكاياتهم.
ويبدو لي أن مفهومي ” الطبقة ” و” المرتبة ” هما مفهومان وصفيان، ولا يحملان أي دلالة تحليلية؛ فهناك أسئلة لا يجاب عنها كالنتائج المترتبة على الطبقة والمرتبة، والمفاهيم النحوية المشتركة بين أعضائهما، وبالتالي فهما عنوانان وليسا مفهومين لأنهما لا يقولان لنا شيئا أكثر من حكايات النحاة وأساتذتهم إلخ …. ومع ذلك فإنني أظن أن هذين المفهومين مفيدان عند مستوى التفسير المألوف للنحاة على أساس الأجيال كأن يقال الجيل الأول أو الثاني .. وفيما لو أراد مؤرخ النحو الحديث أن يستفيد من ذلك فبإمكانه أن يتوقف عند كل جيل ومفاهيمهم التأسيسية للنحو، واستكشافها واختلافها من جيل إلى جيل مما يعني إثارة قضايا نحوية مهمة وتنتمي إلى تاريخ النحو العربي. ومثل الأسئلة التي تُعرض على التراث النحوي يمكن أن يكون سؤال المؤرخ الحديث للنحو العربي لهذا النوع هو: على أي نحو يمكن أن يمثّل الكتابان تاريخا للنحو وليس للنحاة؟ ذلك أن كتابين كهذين يحتفيان بالنحاة قد يكونان محفّزين لدراسات في تاريخ النحو، فالكتابان يربطان علاقة بين ماض النحو في النحاة المنتمين إليه ومستقبل النحو في النحاة الذين جاؤوا فيما بعد. وكما هو معروف تكمن الصعوبة التي تواجه الإجابة عن سؤال كهذا في أن يوسع المؤرخ مفهوم الجزء المتعلق بالنحوي إلى مفهوم الكل المتعلق بالنحو، وبهذه الطريقة أتصور أن كتابين كهذين يمكن أن يكونا موضوعا للتأمل من زاوية غير مألوفة في تاريخ النحو.
من جهة أخرى تختلف بنية كتب التراجم عن بينة كتب الطبقات، ذلك أن كتب التراجم اتّبعت تريبا مختلفا، فقد ترد ترجمة النحاة مع غيرهم من أصحاب العلوم مثل كتاب ” تاريخ بغداد “، ويُرتب النحاة ترتيبا هجائيا حسب أسمائهم الحقيقية. وقد تغلب بعض المؤلفين كالسيوطي على صعوبة البحث عن النحوي تحت اسمه الحقيقي في كتابه ” بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة ” حيث خصص الباب الأخير للكُنى والألقاب والإضافات [6]. والغالب على هذه الكتب هو أن ينقل المؤلف التالي عن المؤلف السابق، وبالرغم من أن غالبها لا يضيف جديدا سوى في نواح جزئية لا تكاد تذكر، إلا أن أهميتها الحقيقة تكمن في أن بعضها قد ينقل عن كتاب لم يعد متاحا ككتاب المبرّد الذي نتعرّف مادته من نقولات السيرافي.
تفهّم النحاة وتواصلهم وصراعهم
إضافة إلى ما قلناه أعلاه يمكن المؤرخ الحديث للنحو العربي أن يتأمل كتب النحو العربي المؤلفة أو الشارحة والمختصرة وتراجم النحاة في ضوء الأفكار العامة التالية
– أن يكون للتلقي أسبقية منهجية؛ أي أن يكون تاريخ النحو سلسلة من سلاسل التلقي، ومفاهيم ترتبت على تلقيه. إن كل كتاب نحوي صيغ في محيط ثقافي يستقى منه الشارح أو المؤلف تصوره النظري، وكلما ابتعد النحوي عن زمن تأليف كتاب ما صعُب عليه أن يفهم دقائق المؤلف؛ فالسيرافي مثلا ينطلق من محيط ثقافي له مصادره المعرفية؛ ذلك أن عصر السيرافي الذي شرح كتاب سيبويه، أو عصر الزجاجي الذي كتب مؤلفا في رسالة كتاب سيبويه، ليس بالضرورة هو عصر سيبويه؛ أي أن عقلية السيرافي وتكوينه الثقافي ليس هي عقلية سيبويه وتكوينه [7]. –يمكن أن يكون تاريخ النحو سلسلة من المفاهيم تشكل ذخيرة إنجازات التلقي. لذلك فتحليل التلقي والاستجابات يزودنا برؤية النحاة للنحو في فترات تاريخية متلاحقة، وبتصوره التاريخي لاسيما إذا ما انتبهنا إلى الاستجابات المميزة والمعبرة.إن التحليل من منظور الاستجابات المعبّرة والمميّزة يساعد على أن نفهم نظرات المراحل التاريخية، والسياق والكيفية التي يتحدث بها العلماء عن فكرة النحو العلمية ما، وكيف تحدثوا عنها.
– غير أن إنجازات النحاة لا يعني أن هؤلاء النحاة –هم أنفسهم -لا غنى عنهم ولا بديل، وأن قولا أن سيبويه كان لابد من أن يكون سيبويه –هو نفسه-أو ابن جني أو غيرهما قول غير يقيني، ذلك أن علما كالنحو متى ما نضجت الفكرة واكتملت ظروف الزمن ستتحقق الفكرة على يد عالم ليس شرطا أن يكون ذلك الذي حققها في التاريخ.
– يمكن أن يعبر كل عالم من علماء النحو عن فكرة نحو عربي مكتمل يحمل طابعه الشخصي، ويشير إلى أصالة أسلوبه في تحليل القضايا النحوية. إن كل نحو من نحو هؤلاء يمثل مجموع قضايا نحوية متماسكة، ويبقى لكل واحد منهم قيمة مميّزة في سياق تاريخ النحو العام.
-يتحاور هؤلاء العلماء حوارا عقليا؛ ذلك أن الماضي عند كل واحد منهم لا غنى عنه لكي يستوعبه . يلوذ النحاة الموتى بالصمت، ولا يسمعهم النحاة الأحياء إلا من خلال كتاباتهم. يتكلمون عنهم، لكنهم لا يجيبون إلا بما سبق أن قالوه في مؤلفاتهم النحوية [8]. -يُعد أحد هؤلاء نموذجا للآخر . وكما نعرف الآن فإن سيبويه نموذج ابن جني. ولا أبالغ إذا قلت: إن فهم ابن جني لكتاب سيبويه لا يماثله أي فهم آخر في التراث النحوي العربي.
-وربما يكون أحد علماء النحو خصما لعلماء آخرين مثلما كان ابن مضاء خصما لسيبويه وابن جني، وقد اخترت هذين النحويين لكونهما أسسا المفاهيم المؤسسة للنحو العربي، وما ترتب عليها من بدهيات النحو العربي كما سنعرف فيما بعد
– يشترك علماء النحو في المعاني والخبرة. إن العلاقة بين هؤلاء العلماء علاقة فكرية وعلمية كتبادل المعلومات والأفكار، من خلال الإشارة، أو العزو، أو التهميش، وهي علاقة تسهم في بلورة قضايا النحو وتطوير مفاهيمه، وتساعدهم على التعرف على الجديد، وما إذا كان يحتاج إلى شرح أو تأويل. إنها علاقة من نوع خاص؛ تثري المعرفة عن نشوء الجماعات العلمية كما هي في طبقاتهم. يتوج هذا كله بمظاهر تمسك هؤلاء النحويين بمفاهيم النحو العلمية.
-هناك وجه آخر يبرز لهذه العلاقة العلمية بين هؤلاء العلماء ذلك أن أحدهم قد لا يكتفي بأن يدعي أن يكون الحق معه في تحليل قضية نحوية، وأن تكون حججه وبراهينه أقوى، إنما يريد أن تكون حججه وبراهينه ضد عالم آخر يخالفه ولا يتفق معه. من وجهة النظر هذه فتاريخ النحو العربي تاريخ صراع، وخلفيته العميقة التي صدر عنها هو الصراع الخفي الذي يكنه كل عالم لآخر. تليق وجهة النظر هذه بهؤلاء العلماء الكبار، وتبرر محاولة تجاوز بعضهم بعضا.
-من هذا المنظور فهؤلاء العلماء قلما يسعون إلى أن يكونوا محقين من أجل الحق ذاته، إنما أن يكونوا محقين تجاه علماء آخرين ، وحججهم العميقة إنما هي دليل على رغبتهم في أن يقولوا الحق من أحقاد دفينة، وضغائن خفية. بصياغة أخرى فبراهين وأدلة كل عالم منهم ليست بريئة كما يعتقد القراء، إنما هي براهين آثمة لأنها تجلٍ لرغبة خفية في أن يفرض ما يعتقده.
لا يجب أن نعتبر هذا عيبا في تاريخ النحو العربي، إذ يبدو أنه هذا هو السائد في المعرفة. يقول الفيلسوف الفرنسي باشلار في إحدى تبصراته النافذة ” لا يكتفي المرء أبدا بأن يكون الصواب إلى جانبه والحق معه، وأن تكون الحجة له لا عليه، بل إنك لتجده يتحرى دوما أن يكون محقا ضد شخص آخر يخالفه ويناقضه، وإنك قلما تجد المرء يسعى إلى أن يكون محقا تجاه القول الحق، بل إن مسعاه الدائم هو أن يكون محقا تجاه الغير. والحق أنه من دون ممارسة القناعة العقلية الممارسة الاجتماعية هذه، فإنه ليس يمتنع أن تكون أعمق الحجج العقلية، إن حقق أمرها وكشق شأنها، أقوى دليل على ما تحويه رغباتنا في قول الحق من أحقاد دفينة “.
****
[1] – نقلا عن : كانغيلام، جورج، دراسات في تاريخ العلوم وفلسفتها، ترجمة: محمد بن ساسي، الطبعة الأولى، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2007، ص 275-276 . [2] – ياسبرز، كارل، تاريخ الفلسفة بنظرة عالمية، نقله إلى العربية وقدم له: عبد الغفار مكاوي، الطبعة الأولى، بيروت، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، 2007. [3] – المصدر نفسه، من مقدمة المترجم، ص 15 . [4] – يلزم أن أذكّر هنا باستعارة عالم الاجتماع الأمريكي لـ ” الشعب المرجانية ” ليصف بها الثقافة ليعطيها العمق التاريخي الذي تفتقده النسبية الثقافية عند فرانز بواب. وصْف الشعب المرجانية وعلاقتها بالثقافة الذي استعنت به هنا موجود في : إريكسن، توماس هيلاند، مفترق طرق الثقافات، مقالات عن الكريولية، ترجمة: محي الدين عبدالغني، الطبعة الأولى، القاهرة، المشروع القومي للترجمة، 2012، ص 32 وما بعدها. [5] – جب، هاملتون، أدب التراجم الإسلامي، في: لويس، برنار و هولت، ب.م. مؤرخو العرب والمسلمين حتى العصر الحديث، نقله إلى العربية وقدم له: سهيل زكار، الطبعة الأولى، دمشق، دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر، 2008 . [6] – لاستزادة من وصف كتب التراجم والطبقات انظر: حجازي، محمود فهمي، علم اللغة العربية، مدخل تاريخي في ضوء التراث واللغات السامية، ب.ط . القاهرة، دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع، ب.د. ص 73-80 . [7] – انظر: الجهاد، عبد الله، ” رسالة ” كتاب سيبويه، في جذور( دورية تعنى بالتراث وقضاياه ) النادي الأدبي الثقافي بجدة، ج1،مج 1، ذو القعدة 1419هـ، فبراير 1999، ص 360 . [8] – أنا هنا أتصرف في عبارة الفيلسوف الألماني كارل ياسبرز المشهورة ” إن الموتى يلوذون بالصمت . ونحن لا نسمعهم إلا من خلال كتباتهم. نتكلم عنهم. ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبونا إلا بما سبق أن قالوه في مؤلفاتهم. وسنجد في هذه المؤلفات عبارات تبعث حية بعد رقاد طال أمده آلاف السنين؛ لأنها يمكن أن تقدم الإجابة عن أسئلة نطرحها اليوم. بل نستطيع أن نتوصل من قراءة النصوص المشهورة إلى كشوف قادرة على تغيير آراء كنا نحسبها = ثابتة ” . انظر ياسبرز، كارل، تاريخ الفلسفة بنظرة عالمية، نقله إلى العربية وقدم له: عبد الغفار مكاوي، الطبعة الأولى، بيروت، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، 2007، ص 60