يسلّط تيموثي ج.ماديغن[1] الضوء على مفهوميْ الرّحمة والشفقة عند شوبنهاور ونيتشه مشيرًا إلى بعض المحطات من حياتهما وأسباب انفصال نيتشه الفكري عن شوبنهاور. (المترجم) نصّ الترجمة:
“أنتَ تريد لو بالإمكان- وليس ثمّة أكثر جنونًا من “لو بالإمكان”- إلغاء المعاناة، ونحن؟ -يبدو حقًّا أننا نفضّل زيادتها وجعلها أسوأ ممّا كانت عليه في أيّ وقت مضى!”
– نيتشه، ما وراء الخير والشر
كان مقدّرًا لفريدريتش نيتشه أن يصبح قسّيسًا لوثريًا كما كان والده وجدّه من قبله. وقد غرق منذ نعومة أظفاره في بيئة مسيحيّة ونشأ في عائلة من النساء التقيات اللاتي كنّ يشجعنه على قراءة الكتاب المقدّس وأعمال اللاهوتيين البروتستانت. حتّى أنّه حصل على لقب “القس الصغير” لشدّة ورعه. من كان ليتوقّع أن هذا الشاب التقيّ سيكبر ويصبح أكثر أعداء المسيحيّة شراسةً ومؤلّف كتاب يحمل عنوان “نقيض المسيح”؟
حينما كان بحثُ نيتشه القلق عن المعرفة يقوده إلى الانفصال النهائي عن نشأته الورعة، كان عثوره -مصادفةً- على كتابات الفيلسوف آرثر شوبنهاور (1788-1860) أحد الأسباب الأساسيّة لرفضه الدّين. عندما كان نيتشه طالبًا في جامعة لايبتزغ في خريف عام 1865 اقتنى نسخةً من كتاب شوبنهاور “العالم إرادةً وتمثّلًا” من متجر لبيع الكتب المستعملة. “لا أدري أي روحٍ همست لي: خُذْ هذا الكتاب إلى البيت”، كتب هذا في سنوات لاحقة، لكن قراءته الكتاب غيّرت حياته. “لاحقًا في المنزل”، يكمل نيتشه “اتّكأت في ركن الأريكة رفقة كنزي الجديد، وأذنتُ لهذه العبقريّة الديناميكيّة البئيسة بأن تعملَ فيَّ. “كان نيتشه بمواجهة رؤية للعالم لم تخطر على باله من قبل- رؤية ملحدة صميمة. وبالفعل، كان نيتشه يدعو شوبنهاور أوّل ملحد نزيه في الفلسفة الحديثة.
بينما كان شوبنهاور نفسه قد غادر الحياة منذ خمس سنوات (لحسن حظ نيتشه، فالفيلسوف الهرم لم يكن يحتفي بالأتباع، وكان من المحتمل أن يقابل رسائل التقدير بازدرائه وسخريته المعهودة)، كان هنالك في ألمانيا الكثير من المعجبين الذين شاركوا نيتشه في تقديره، وكان من أبرزهم الموسيقار المثير للجدل ريتشارد فاغنر (1813-1883)، الذي كان سعيدًا بمعرفة اهتمام الشاب بالفيلسوف الذي كان يزعم قراءة أعماله كلّ ليلة. فاغنر، الذي أرسل إلى شوبنهاور بعض مؤلّفاته الموسيقيّة، كان محظوظًا لعدم معرفته بعدم تقدير هذا الأخير لها، على سبيل المثال، عندما كتب فاغنر في سياقٍ مّا من أحد مؤلّفاته “يسقط الستار”، كتب شوبنهاور إلى جانبها معلّقًا/متهكّمًا “بعد أن كاد الأوان أن يفوت”.
وبالرغم من ذلك، لم يكن نيتشه القلق ليبقى متبعًا لشوبنهاور أو صديقًا لفاغنر. سنة 1876 فاجأ كوزيما فاغر، زوجة الموسيقار، برسالة يعلن فيها رفضه تعاليم شوبنهاور. لقد قطع نيتشه مع أحد جوانب فلسفة شوبنهاور الأكثر إلهامًا لفاغنر- التأكيد على الرحمة.
إنّ الرحمة، أو الشفقة (Mitleid) التي دافع عنها شوبنهاور هي الأساس الحقيقي للأخلاق بدلا من القواعد العقلانيّة أو الوصايا الإلهيّة. يتكوّن السلوك الأخلاقي من إدراك حدسيّ مفاده أنّنا كلّنا تجلّيات ل”إرادة الحياة”. لقد شعر بأنّ الديانات الكبرى جميعها كانت محاولات للتعبير عن هذه الحقيقة الميتافيزيقيّة، لكنّها جميعًا فقدت هذه البصيرة بسبب الخلافات العقديّة التي لا تنتهي. ما يوحّدنا جميعًا هو إدراك أنّ هذه الحياة نفسها تتضمّن معاناة لانهائيّة خلال السعي نحو أهداف لا تُدرك أبدًا. سعيٌ يؤدي في نهاية المطاف إلى موت عبثيّ.
من الأفضل ألّا نوجد على الإطلاق، كما ذكر شوبنهاور، لكن بما أننا أحياء (بسبب رغبة الإرادة العمياء المستمرّة في إدامة الأنواع)، علينا على الأقلّ أن نلتزم أخلاقيًا بعدم زيادة المعاناة. يجب أن نتحلّى بالصبر والتّسامح وأن نظهر الإحسان تجاه رفقائنا في المعاناة. إنّه موقف مثير للإعجاب، لكنه غير منسجم مع تصرّفات رجل كان يستمتع بإهانة خصومه، ويتشاجر مع أمّه شجارًا عنيفًا حتى قطعت علاقتها به، واُتّهم بدفع مؤجّرته من أعلى الدرج حتى سقطت أرضًا. ومع ذلك، كما أشار شوبنهاور نفسه، علينا أن نحكم على النظريّة على أساس جدارتها وليس على أساس زلّات ممارسيها.
بينما كان نيتشه يشير منذ البداية إلى شوبنهاور بوصفه “الأخلاقي الجدّي الوحيد”، شعر بالحاجة إلى الابتعاد عن عقيدة الرحمة التي توصّل إلى اعتبارها ضربًا من التنسّك غير مقبول. لقد كان موافقًا على أنّه ثمة إرادة حياة كامنة في الوجود كلّه (فضّل تسميتها بـ”إرادة القوة”)، لكن، خلافًا لشوبنهاور، لم ينكص عنها. لقد توصّل نيتشه إلى اعتبار الرحمة ضعفًا وليس فضيلةً يجب الاعتناء بها.
في نظر نيتشه، ينبغي أن نتجاوز “الشفقة”. إن إظهار الشفقة تجاه الآخرين يعني معاملتهم بازدراء. من الأفضل أن نشجّعهم على مواجهة مصاعبهم ومصارعتها قدر الإمكان. كان نيتشه يرى أن المسيحيّة ديانة شفقةٍ مؤسّسة على صورة إله ينزف ويعاني. لقد قام بمقابلتها بالديانات الوثنيّة في اليونان القديمة وروما وآلهتهم البطوليّة التي كانت تستمتع بخوض الحروب وقصص الحبّ.
ليس من الجلي بأي حال أنّ ما أدانه نيتشه باعتباره شفقةً هو الشيء نفسه الذي دعاه شوبنهاور بالرحمة، وقد قُدّمت محاولات للتقريب بين رؤيتيهما. لكن نظرًا إلى تطوّر نيتشه كفيلسوف، كان من الضرورة بالنسبة إليه أن يقطع مع إنكار شوبنهاور السقيم لإرادة الحياة واستسلامه المتشائم بسبب اعتباره المعاناة شرًّا. كان نيتشه (الذي كان معتلّ الصحّة، وغير معترف به اجتماعيًا وفقيرًا مما أدى إلى جعل كَدَرهُ الشخصي أشدّ مما اختبره شوبنهاور صاحب القوة والشهرة والثراء) ينظر إلى المعاناة باعتبارها نتيجة حتمية للصراع من أجل الإنجاز.
ومع ذلك، ورغم انتقاده القاسي لشوبنهاور (أسلوب كان شوبنهاور ليثني عليه حتمًا، لأنه هو نفسه كان معروفًا باستخدامه للهجوم الشخصي)، استمرّ نيتشه في اعتباره “معلّمًا عظيمًا”. لقد أشاد دائمًا بهذا الملحد الألمعيّ الذي ساعده على الانفلات من ربقة اللاهوت وعلى إدراك أنه ثمة طرائق أخرى يمكن اتباعها في رحلة البحث عن المعرفة. لقد أشاد نيتشه -بطريقة غير مباشرة- بهذا المشاكس الفظّ في مصنّفه الرئيس، هكذا تكلّم زرادشت (1883-1885). لقد حثّ الحكيم زرادشت أتباعه على مغادرة حَرَمه والمغامرة بأنفسهم وحتّى على مساءلة التعاليم التي قدّمها إليهم.”إنها لمكافأة سيئة للأستاذ” ، يقول زرادشت، “أن يبقى التلميذ تلميذًا إلى الأبد.” لقد كرّم نيتشه معلّمه العظيم شوبنهاور عبر محاججة رؤاه ومن ثمّة خلق فلسفته الخاصة.