سورة الأنفال
سورة النّساء
سنحاول في هذه المقالة التطرق لموضوع الإيمان، وهو موضوع شائك في علم الكلام، هذا إن لم يكن هو سبب ظهور هذا العلم في الثقافة العربيّة الإسلاميّة، لاسيّما وأنّنا نجد أن علم الكلام يعرّف أيضاً باسم علم الإيمان. وسنؤطر موضوعنا من خلال الأسئلة التّاليّة: ما معنّى الإيمان؟ وهل للإيمان حد؟ وهل الإيمان يزيد وينقص؟
للإجابة على هذه الأسئلة وغيرها سنتطرق إلى تعريف الإيمان، ثم سنسرد آراء بعض الفرق الكلاميّة حوله، وسنناقش رأي الأشاعرة حول موقفهم من كون الإيمان تصديق قلبي وفي كونه يزيد وينقص، وسنختم مقالنا بالتفكير في مسألة الإيمان من زاوية نظر فلسفة الدّين.
إن الإيمان، في اللّغة، يحمل معنّى الاعتقاد والتّصديق. وأمّا في الاصطلاح الشّرعيّ فإنّ تعريفه يختلف من فرقة كلاميّة إلى أخرى. ومن هنا، فإن أطروحة هذه المقالة، الّتي ستظهر فيما سيأتي من مناقشة، تقوم على كون مسألة الإيمان من المسائل الخلافيّة بين المسلمين.
فالإيمان عند الفقيه أبو حنيفة النعمان هو المعرفة بالقلب والإقرار باللسان معاً، والأعمال عنده لا تسمى إيماناً ولكنها شرائع الإيمان[1].
وأما الإيمان عند الحنابلة فهو جميع الطاعات الباطنة والظاهرة. يقول أبو يعلى الفراء الحنبلي:
«أما حده [ أي الإيمان ] في الشّرع فهو: جميع الطاعات الباطنة والظاهرة، فالباطنة أعمال القلب وهو تصديق القلب، والظاهرة هي أفعال البدن الواجبات والمندوبات»[2].
والإيمان عند أهل السّنّة وأصحاب الآثار هو عقد وقول وعمل[3]. وهو عند الخوارج: تصديق بالجنان، وإقرار باللّسان، وعمل بالجوارح. وهو عند أكثر المعتزلة جميع الطاعات الباطنة والظاهرة، الواجبة والمندوبة. ونلاحظ أن الإيمان الشّرعيّ عند المعتزلة والسّلف والخوارج يتشابه من حيث التّعريف[4]، إلا أن هناك اختلافات في بعض الأمور الجزئيّة. أمّا الإيمان عند الأشعريّة فهو التّصديق في الشّريعة. إذ يرى الأشاعرة أن الأفعال والأعمال من شرائع الإيمان لا من نفس الإيمان[5]. ومن هنا، كان الإيمان عندهم هو التّصديق القلبيّ فقط. يذكر ابن حزم (994م/1064م) في كتاب الفِصَل ما يلي:
«اختلف النّاس في ماهيّة الإيمان فذهب قوم إلى أن الإيمان إنّما هو معرفة الله تعالى بالقلب فقط وإن أظهر اليهوديّة والنّصرانيّة وسائر أنواع الكفر بلسانه وعبادته فإذا عرف الله تعالى بقلبه فهو مسلم من أهل الجنّة وهذا قول أبي محرز الجهم بن صفوان وأبي الحسن الأشعري البصري وأصحابهما.» [6]
والباحث في مسألة الإيمان يجد رأياً شاذاً قال به محمد بن كرام السجستاني، وهو أن الإيمان إقرار باللّسان فقط، ويعني هذا أن المسلم وإن اعتقد الكفر بقلبه، فهو مؤمن من أهل الجنّة [7].
لقد حظي موضوع الإيمان باهتمام كبير من طرف المتكلّمين وعلماء الدّين، ذلك لأنه أساس العقيدة، وفساده يعني فساد العقيدة الّتي تميز المسلمين عن غيرهم من أصحاب الدّيانات الأخرى. ونحن نجد في كتب المتكلّمين نقاشات كثيرة حول الفرق بين الإسلام والإيمان. فالإسلام شيء والإيمان شيء آخر. وقد يكون الإنسان مسلماً لكنه غير مؤمن، كما جاء في الآية الكريمة:
«قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ»[8]
كذلك نجد نقاشات عن أركان الإيمان السّتة الواردة في حديث جبريل[9]. فضلاً عن شعب الإيمان، فالحياء، مثلاً، كما ورد في الأثر، شعبة من شعب الإيمان. ونحن نعلم أن الحياء، مسألة أخلاقيّة، ومن هنا، يمكن القول إن الإيمان مرتبط بالأخلاق. فللمؤمن أخلاق تميزه عن غيره، وهي أخلاق ينبغي أن تنعكس على سلوكه اليوميّ، أي أنّها عمل، كالحياء وإماطة الأذى عن الطريق..إلخ، فضلاً عن الاعتقاد بشهادة التّوحيد، أي: ” لا إله إلا الله “[10].
علاوة على ذلك، فإن الإيمان، باعتباره مسألة أخلاقيّة واعتقاديّة، فإنّه يتفاوت من شخص لآخر، ولهذا تحدث المتكلّمون في هذه المسألة عن زيادة الإيمان ونقصانه. بيد أنّهم اختلفوا في هذه المسألة أيضاً، فرأى تيار من الأشاعرة أنه إذا كان الإيمان هو معرفة القلب وتصديقه فهما عرضان من الأعراض، وصفتان من صفات القلوب، والزيادة والنقصان لا تجوز على الأعراض، وإنّما الأجسام هي الّتي تزيد وتنقص”[11]. ورأى تيار ثان من الأشاعرة أن الإيمان يقبل الزيادة والنّقص من حيث التّصديق دون الأفعال، لأن الأفعال عند الأشاعرة ليست من نفس الإيمان كما تقدم[12]. وهنا يذكر أبي خمير السبتي (550هـ /614هـ)، في كتابه مقدمات المراشد، بعد أن يقدم لفكرته بكون أن جميع الموجودات آحاد لا تنقسم، لأن القسمة لا تعقل إلاّ في تفرق أعداد الأشياء لا في أنفسها. وبما أن هذه القاعدة مثبتة منطقياً، فإن أعداد الإيمان الحقيقي الّذي هو التّصديق بخبر القلب، عند أبي خمير السبتي، تزيد وتنقص، وذلك من أربعة أوجه: أولاً: أن يستدل النّاظر بالعقائد أعداد معلوماته وأعداد تصديقاته بمعلوماته، أو يسمع من الرسول أو عنه خبراً فيصدقه ثم يسمع خبراً آخر فيصدقه فتزيد أعداد تصديقاته كذلك.
ثانياً: توالي أعداد التّصديقات على المحل بالخبر الواحد، مع توالي أعداد العلوم به من غير أن يخلفه ضدّ من أضداد العلم به والخبر عنه. والمقصود هنا بتوالي أعداد العلوم علم اليقين. غير أن الشكوك والغفلات تتخلل العلوم في بعض الأوقات، ولهذا ينبغي، حسب السبتي، درء الغفلات بالمعلومات والمراقبات، ودرء الشُّكوك بالدّلالات.
ثالثاً: زيادة أدلة بالمدلول الواحد، فإذا غفل النّاظر عن ذلك رجع إلى آخر.
رابعاً: العلوم اللّدنيات الّتي يقول بها الصّوفيّة، وهي علوم يخلقها الله في القلب، من غير واسطة خبر ولا نظر بعد تصحيح العلم بالمعقولات.
هذه هي الأوجه الأربعة التي يصح بها زيادة أعداد الإيمان ونقصها بالعدديات حسب ابن خمير السبتي[13]. ومن خلال هذه الأوجه يظهر لنا موقف بعض الأشاعرة من الشكّ والغفلات، فالشكّ وارد على المؤمن، وينبغي عليه في حالة الشكّ أن يبحث عن الدّلالات، بيد أنّه إذا فاجأه الموت، وهو شاك، فإنه معدوم الإيمان. يقول أبو خمير السبتي:
«من عزا إيمانه إلى الغفلات أو إلى الشّكوك فيردعها بالدّلالات فهو مؤمن بالإجماع، وإن فاجأه الموت في شكّه فهو معدوم الإيمان، لأن من شكّ فيما يلزمه توحيده من المعقولات، أو في خبر متواتر عن الرسول، ومات على ذلك فهو كافر، نعوذ بالله من الخذلان»[14]
وأمّا ابن حزم فيرى في كتاب الفِصَل أن التّصديق بالشيء، أي شيء كان، لا يمكن البتّة أن يقع فيه زيادة ولا نقص، لأنه لا يخلو كلّ معتقد بقلبه أو مقر بلسانه من أحد ثلاثة أوجه: إمّا أن يصدق ما اعتقده، وإمّا ألا يصدقه، أي يكذبه، وإمّا أن يشكّ، وإذا كان شاكاً، فهو غير مصدق. أمّا في الأعمال، فتكون الزيادة والنقصان[15].
من المعلوم أن العقيدة الأكثر انتشاراً في العالم الإسلاميّ هي العقيدة الأشعريّة، غير أن رأي الأشاعرة في مسألة الإيمان تعرض لانتقادات كثيرة، رغم أن الحجة الّتي يرتكز عليها رأيهم تقوم على اللّغة العربيّة، فقد قالوا إن الإيمان في اللّغة الّتي بها نزل القرآن هو التّصديق، بيد أن التّصديق، كما يرى خصومهم، ليس متعلقاً قط بالقلب دون اللّسان. يذكر ابن حزم ما يلي:
«وما سمي قط التّصديق بالقلب دون التّصديق باللّسان إيماناً في لغة العرب وما قال قط عربي أن من صدق شيئاً بقلبه فاعلن التكذيب به بقلبه وبلسانه فإنّه لا يسمى مصدقاً به أصلاً ولا مؤمناً به البتّة وكذلك ما سمي قط التّصديق باللّسان دون التّصديق بالقلب إيماناً في لغة العرب أصلاً على الإطلاق ولا يسمى تصديقاً في لغة العرب ولا إيماناً مطلقاً إلا من صدق بالشيء بقلبه ولسانه معاً فبطل تعلق الجهميّة والأشعريّة باللّغة جملة»[16]
ترتيباً على ما سبق، يمكن أن نقول إن مسألة الإيمان من المسائل الخلافيّة بين المتكلّمين المسلمين من حيث تحديد ماهيته، وأيضاً من حيث طبيعة زيادته ونقصانه. ولهذا سنحاول الآن أن نفكر خارج قالب علم الكلام القديم بخصوص الإيمان، فنفكّر في حدود الإيمان من منطلق آخر، أعني من منطلق فلسفة الدّين[17].
إن الإيمان، كما يبدو لنا، مسألة أخلاقيّة واعتقادية، مرتبطة كلّ الارتباط بالحرّيّة، فلا يتصور أن نفرض الإيمان على شخص ما، وكذلك، لا يتصور أن نضع مقياساً للإيمان، فنقول إن الإيمان يزيد عند شخص وينقص عند آخر. يبدو لنا الإيمان مسألة خاصة مرتبطة بكلّ شخص على حدة ومن المستحيل فرضه على الجميع وفق مقياس محدد، أي وفق اعتقاد وأفعال محددة، بل يظهر أنّه من العبث فرض الإيمان على الأشخاص، لأنّ الإيمان، كما ذكرنا، عند الأشاعرة هو اعتقاد قلبيّ، وما هو في القلب يظلّ مخفياً ولا يمكن معرفته، ويمكن أن نستحضر هنا ما ورد في الأثر أن أحد الصحابة قتل مشركاً رغم قوله لا إله إلا الله، فقال الرسول: أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله؟ ردّ الصحبي أن المشرك قالها متعوذاً وليس عن إيمان، فقال له الرسول معاتباً: أشققت على قلبه؟ وكذلك في الأثر أن خالد بن الوليد قال: رب مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فقال الرسول: إنّي لم أبعث لأشق عن قلوب النّاس.
علاوة على ذلك، فإنّ مسألة الإيمان، في الجانب الاعتقادي، تتعلق بالميتافيزيقيا، وقد أوضح إيمانويل كانط (1724م/1804م)، في كتابه نقد العقل المحض، أن المسائل الميتافيزيقيّة لا يمكننا أن نعرفها، لأن ما يمكننا أن نعرفه هو الظواهر، وليس الجواهر، ومن هنا كانت معرفتنا بالأمور الميتافيزيقيّة محدودة، لأنّها تتخطى كلياً قدرة العقل البشري[18]. لقد أراد كانط في كتابه نقد العقل المحض أن يضع للمعرفة حدوداً من أجل أن يفسح مجالاً للإيمان[19]، بيد أن آراء كانط هذه وما نتج عنها من آراء دينيّة أخرى أدت إلى أن يُفرض عليه حضراً رسمياً من طرف الحكومة البروسيّة.
في الختام، يظهر لنا أن مسألة الإيمان من المسائل الإشكاليّة، وأن أي رأي جديد في رؤيتنا الدّينيّة للإيمان يمكن أن يخلق خصومات فكرية كثيرة مع أصحاب الآراء التّقليديّة، رغم أن مسألة الإيمان، كما بيّنا في هذا المقال، قد اختلف حولها المتكلّمون قديماً.