مد أركون -(أر شيفية)فاطمة حاتميشتغل الباحث المغربي علي أبطاش في هذه الدراسة على أهم القضايا التي انشغلَ بها المفكر الجزائري الراحل محمد أركون؛ أي مشروع الإسلاميات التطبيقية في معرض تعامله وتحديده للتراث، فهذا الأخير إنما يتمّ رسم معالمه ودلالاته في علاقته مع الحداثة. فالتراث -كما جاء في هذه الدراسة- له ثلاثة مستويات: التراث الذي يعني التراث الإسلامي المقدس، والتراث الذي يعني العادات والتقاليد، وثالثاً؛ التراث الذي هو التراث الإسلامي الكلي. فأمام هذه التصوّرات، استثمر محمد أركون مقاربات علمية معاصرة من أجل إعادة بلورة مفهوم جديد للتراث.
جاء ذلك في دراسة نشرت في موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث تحت عنوان"مفهوم التراث في الخطاب العربي المعاصر: محمد أركون أنموذجاً"، وافتتحها الباحث بالإشارة إلى أنه ليس من قبيل المصادفة أن تحتلّ إشكالية قراءة التراث، من منظور معاصر وحداثي، المكانةَ الرئيسةَ في الفكر العربي المعاصر، منذ ما سمّي "صدمة الحداثة"، أو ما اصطلح عليه بـ «عصر النهضة» العربية في منتصف القرن التاسع عشر؛ أي منذ تلك اللحظة التاريخية، التي دُهِشَ فيها العالم العربي من تقدّم الآخر، واكتشف معها حالة جمود العقل العربي الإسلامي، ما أدّى به إلى البحث والمساءلة عن أسباب تقدّم الغرب، وتأخر العرب، ويضيف الباحث أن جهود ومشاريع الباحثين والمفكرين، في الفكر العربي المعاصر، اتجهت إلى التراث بُغية إعادة قراءته، ودراسته دراسةً أقرب ما تكون إلى الإنصاف والموضوعية، عن طريق دراسة أبعاده المختلفة، والعمل على فهمها وتمثلها، كلّ حسب مرجعيته، وأدواته المنهجية الخاصة، التي يراها مناسبة لإعادة إحياء هذا التراث، دون الوقوع في أسره وغياهب ماضيه. فإحياء التراث، وإعادة قراءته قراءةً حداثية، ضرورةٌ ملحّة لتجاوز حالة الركود.
ومن المؤكد أن مشروع محمد أركون، حسب الباحث، لا يخرج عن هذا المشهد، وعن السجالات الحاصلة في الساحة الفكرية حول إعادة قراءة التراث. فما قدّمه من أعمال قد وضع الفكر العربي الاسلامي أمام تساؤل جذريّ وعميق يمسّ، بالدرجة الأولى، أسس العقل العربي الإسلامي، الذي صار، فيما بعد، مساهماً في خلق حوار حقيقي ينتقد الذات، ويبحث في أسباب النهوض والرقيّ بالعالم العربي والإسلامي.
ويرمي مشروع محمد أركون في "نقد العقل الاسلامي" إلى بلورة لاهوت إسلامي جديد يستجيب لنشأة الحداثة، ويتناسب مع معطيات العلم الحديث، حيث استشعر أركون ضرورة توسيع النظر الحداثي للظاهرة الدينية حتى يشمل الإسلام. لذلك، يعتبر الباحث علي أبطاش أن مشروع أركون هو استكمال للمشروع الغربي الحداثي، فما قام به أركون - حسب هاشم صالح - بالنسبة إلى التراث الإسلامي، يشبه، إلى حد بعيد، ما يفعله علماء أوروبا ومفكروها بالنسبة إلى المسيحية، حيثُ يرى أنّ النقد العلمي سوف يطبّقُ على تراثنا عاجلاً أم أجلاً، طالَ الزمن أم قصر، على اعتبار أن طريق التحرير يمرّ من هنا لا محالة، وسوف يثير هذا أهل التقليد عندنا، مثلما أثاره عند المسيحيين الأوروبيين، فأزمة الوعي الإسلامي المتفجّرة، حالياً، تشبه، في ملامحها العريضة، أزمة الوعي الأوروبي مع الحداثة، وهي في بداياتها الصاعدة.
دعوة محمد أركون إلى الحداثة لا تقتصر على مجرّد التحديث المادي؛ بل هي دعوة إلى التوغل في أعماق الحداثة لاستصحاب الأسس المعرفية، أو روح الحداثة وفلسفتها، التي لا تغيّر أشكال وأنماط الحياة العربية والإسلامية فحسب، بل، أيضاً، مواقفهم ورؤاهم تجاه الكون والعالم
إن دراسة المجتمعات الإسلامية الحالية تكشف لنا، أو تعرّي لنا حسب أركون، لعبة ثلاث قوى متنافسة: التراث بالمعنى العام والعتيق، أو المهجور القديم (وهذا النوع موجود في كلّ المجتمعات البشرية)، وهو سابق على التراث الكتابي المقدس الخاص بأديان الوحي (أي سابق على الإسلام)، والتراث الكتابي المقدس (أي التراث الإسلامي ذاته)، والحداثة التي تميل إلى إحداث القطيعة مع القوتين السابقتين"، وهذه هي الرؤية الأركونية الكفيلة بإعادة النظر في تراثنا العربي الإسلامي.
يخلص الباحث، انطلاقا من دراسة مؤلفات محمد أركون، إلى أن تاريخ الفكر العربي الإسلامي قد مر من فترات حداثة؛ حيث يُلاحظ أن هناك حداثة إسلامية؛ إذ عرف تاريخ الإسلام مرحلة إنسية مهمة ومضيئة، بلغت أوجها في القرن الرابع الهجري، الذي شهد أقصى درجات الحرية الفكرية، وأرقى مراتب العلمية؛ لذلك وهنا يعود أركون، دائماً، إلى عصر التوحيدي، وابن مسكويه، ليبيّن أهمية هذا العصر الذهبي، ويبين أنه النموذج الذي ينبغي أن يبني، من خلاله، العقل الإسلامي المعاصر حداثتَه؛ لذلك يعتبر محمد أركون التوحيدي وابنَ مسكويه رائدي "الإنسية العربية" humanisme arabe ليس في القرن الرابع فحسب، بل في كلّ العصور.
كما يخلص الباحث إلى أن دعوة محمد أركون إلى الحداثة لا تقتصر على مجرّد التحديث المادي؛ بل هي دعوة إلى التوغل في أعماق الحداثة لاستصحاب الأسس المعرفية، أو روح الحداثة وفلسفتها، التي لا تغيّر أشكال وأنماط الحياة العربية والإسلامية فحسب، بل، أيضاً، مواقفهم ورؤاهم تجاه الكون والعالم. وهنا تندرج عنده "مشكلة التفريق الضروري بين الحداثة والتحديث... ولا يدلاّن على الشيء نفسه، فالحداثة هي موقف للروح أمام مشكلة المعرفة، إنّها موقف للروح أمام كلّ المناهج التي يستخدمها العقل للتوصّل إلى معرفة ملموسة للواقع. أمّا التحديث، فهو مجرّد إدخال آخر المخترعات الأوروبية الاستهلاكية، وإجراء تحديث شكلي وخارجي لا يرافقه أيّ تغيير جذري في موقف المسلم للكون والعالم. ولهذا، كثير من التجارب التحديثية، في العالم العربي والإسلامي، قد باءت بالفشل؛ لأنّها "تحديث دون حداثة عقلية، أو فكرية، أو ثقافية. وإذا كان الفقيد محمد أركون يؤصّل للحداثة، في إطار تحديث العقل والوعي الإسلامي، على اعتبار أنّها الحداثة الإسلامية العصرية الأصيلة ذات الأبعاد المتعددة، وذات العقلانية المنفتحة على كلّ قوى التفكير، والإبداع، وذات الجذور القرآنية الإنسانية غير التقديسية، فإنّ ذلك لن يتمّ إلا من خلال "تحديث العقل الإسلامي لدليل قاطع على مدى ثورية وأهمية المشروع الذي يقترحه لإعادة بناء الفكر الإسلامي"، وهي "دعوة جادة وجريئة للانخراط في الفكر العالمي بشكل فعال وريادي".
لقراءة الدراسة كاملة على الموقع الإلكتروني لـ "مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث"، انقر هنا: