تجربة أسر مروعة دامت خمس سنوات
كيف تحول سرفانتس الى كاتب وروائي عظيم
ترجمة ميسون أبو الحب
يحيي العالم هذا العام ذكرى وفاة الكاتب الاسباني ميغيل دي سرفانتس، مؤلف رواية دون كيشوت وكانت وفاته في 22 نيسان (ابريل) 1616، وقبل يوم واحد فقط من وفاة واحد من اعظم ادباء اللغة الانكليزية وهو وليم شكسبير (23 نيسان/ابريل 1616). ويركز التقرير التالي على الاثار التي خلفتها على كتابات سرفانتس وادبه وجل اعماله، خمس سنوات من حياته امضاها اسيرا في الجزائر. يعتمد التقرير على تجربة خبيرة في أدب سرفانتس تعرضت هي الاخرى الى تجربة مشابهة.
عرفوه من ضلعه “عندما رأيت ضلعه، قلت في نفسي، ها قد عثرنا عليه أخيرا” هذا ما قاله خبير الطب الشرعي فرانسيسكو اتسابارايا، وبعدها انتبهوا الى حرفي م.س. المحفورين في احد جوانب التابوت المتآكل. وكان الضلع المتضرر والذراع اليسرى المعوجة من آثار معركة ليبانتو. حدث ذلك في عام 2015، عميقا تحت ارضية دير يعود تاريخه الى القرن السابع عشر وكان البحث يجري بهدوء تام كي لا يزعج 12 راهبة معتكفة اعتدن العيش هناك في ظل سكينة شاملة، وكان أعضاء الفريق المكون من علماء آثار وانثروبولوجيا وخبراء في الطب الشرعي قد اضطروا الى إزاحة رفاة 15 شخصا على الاقل قبل الوصول الى القبر المطلوب. وقال اتسابارايا “كان الفريق كله في حالة صمت كامل، هناك تحت الارض، كنا نتفحص ما عثرنا عليه، ثم ما لبثنا ان عرفنا كلنا”. وقال اتسابارايا إنه كان متيقنا من اسم صاحب البقايا التي تم العثور عليها حتى قبل تسلم نتائج تحليل الحمض النووي. وبالفعل، في قبو دير ترينيداديس في مدريد يرقد الكاتب الاسباني العظيم ميغيل دي سرفانتس (1547-1616).
أسر
في عام 1575 وبعد مشاركته في حملات عسكرية ضد الاتراك العثمانيين في البحر المتوسط، أسر قراصنة من البربر جنديا اسبانيا واقتادوه الى الجزائر حيث امضى خمسة اعوام ولم يطلق سراحه إلا بعد دفع فدية جمعتها راهبات دير ترينيداديس الذي سيدفن لاحقا في قبوه وعندها فقط تحول هذا الجندي الى الرجل الذي كتب واحدة من اهم الروايات في التاريخ. وتقول الخبيرة في شؤون سرفانتس ماريا انتونيا غارسيس “تركت سنوات اسره الخمس في الجزائر أثرا مهما جدا في كتاباته إذ نلاحظ تكرر هذه التجربة الصعبة في كل اعماله التي وضعها بعد تحريره، مثل مسرحيته حياة في الجزائر 1581-1583، ثم روايته لا غالاتيا 1585، ثم روايته التي نشرت بعد وفاته وهي محاكمات بيرسيليس وسيغيسموندا 1617”. وتدرك غارسيس، استاذة الدراسات الاسبانية في جامعة كورنيل ما معنى أن يعيش المرء تجربة الأسر المريرة فبين كانون اول/ديسمبر 1982 وتموز/يوليو 1983 وقعت في قبضة جماعة مسلحة في كولومبيا احتفظت بها كرهينة. وتقول عن ذلك “كنت اقرأ بكثافة طوال حياتي وكان الادب سلوتي الوحيدة واعتقد انني تمكنت من تجاوز فترة الاحتجاز بفضل كتب طلبتها ممن أسروني فجلبوها لي ومنها ترجمة لم تكن جيدة تماما لمجمل اعمال اوسكار وايلد في اللغة الاسبانية. وعندما لم يكن لدي ما اقرأ، كنت أفتح قاموس لاروس الاسباني وأمر على كلماته كلها واحدة واحدة من اعلى الصفحة الى أسفلها، فلطالما فتنت بسحر الكلمات”.
وقرأت غارسيس كتب سرفانتس ايضا وهي تعتقد ان لها الفضل في مساعدتها على تجاوز الازمة والاستمرار في السنوات اللاحقة. وبعد الافراج عنها بدأت غارسيس بدراسة اعمال هذا الكاتب وتقول “اصبحت خبيرة في اعمال سرفانتس بعد الافراج عني وحصولي على ما يمكن ان اسميه عقدا جديدا مع الحياة” وتضيف “تمكنت من البقاء والاستمرار بعد ان امضيت سبعة اشهر في الأسر وكنت محتجزة داخل زنزانة صغيرة بلا نوافذ وكان سجانون مسلحون يحرسونني بشكل متواصل ويهددني من اختطفوني بالموت بشكل متكرر. حبي للأدب هو ما سمح لي بالبقاء حية، وبعدها اردت الاستفادة مما بقي من حياتي .. فأصبحت خبيرة في كتابات وأعمال سرفانتس”.
سرد متكرر
في عام 2005، نشرت غارسيس كتابها “سرفانتس في الجزائر: قصة أسير” عرضت فيه فكرة ان الناجين من احداث صعبة ومريرة يشعرون برغبة متواصلة في اعادة سرد ما حدث لهم، وهي تعتقد ان سرفانتس سرد واعاد سرد تجربة الاستعباد التي عاشها سواء في مسرحياته ام في شعره ام في رواياته وبضمنها رواية “الفتاة الانكليزية الاسبانية”، و”العاشق الليبرالي” اضافة الى ما تعتبره غارسيس اهم سيرة ذاتية كتبها سرفانتس ونجدها في الجزء الاول من روايته “دون كيشوت”. ونلاحظ هذه الحاجة الملحة للتكرار وإعادة السرد لدى اشخاص مروا بتجارب مريرة مشابهة وهو ما نبه اليه بروفسور الطب النفسي في جامعة ييل دوري لوب الذي كتب في تقرير اعتمد فيه على مقابلات اجراها مع ناجين من تجربة الهولوكوست يحمل عنوان “تحمل الشاهد او تقلبات الاستماع”، كتب يقول إن الشخص الذي يمر بمثل هذه التجربة “يظل خاضعا لسلطتها لانها تتكرر داخله دونما رغبة منه وكأنها تحدث مجددا مرة تلو مرة”، ويضيف لوب بالقول إن الناجين من تجربة عصيبة “لا يعيشون مع ذكريات من الماضي بل مع حدث لم يبلغ نهايته ولم ينقض أمده ولم يصل خاتمته ولم تطو صفحته بعد ولذا فهو مستمر في حاضر هؤلاء الاشخاص متمتعا بميزة الحدثية من جميع الجوانب”. ولكن اعادة سرد القصة ليست مجرد عملية تحدث قسرا بل هي أيضا فعل يساعد في شفاء اصحاب التجربة العسيرة. وقال الكاتب بريمو ليفي الذي نجا من معسكر اوشفيتز “رويت قصتي لكل شخص ولاي شخص، ومن لحظة تعرفي على اي شخص ابتداءا بمدير المعمل وانتهاءا بالعمال، مثل قصيدة البحار العجوز”. وتقول غارسيس “قد تكون هناك آثار علاجية لإعادة سرد القصة مرة تلو مرة إذ يعتقد فرويد ان شيئا ما يتغير كلما رويت القصة من جديد. وبالنسبة لحالة سيرفانتس، اعتقد ان هذا ادى الى استبطانه ذاته والى اهتمامه بحالات الجنون، إذ نلاحظ ان اثنين من اعماله العظيمة فيها مجانين وهما دون كيشوت والخريج الهش”. وربما يكون هذا الاستبطان والاهتمام المتعمق بالجنون هو ما جعل من دون كيشوت اول رواية اوروبية معاصرة حقا. وكتبت غارسيس في مؤلفها سرفانتس في الجزائر “يمكنني القول إن اهتمام سيرفانتس المعلن والواضح بقضية الجنون نابع من مواقف واحداث مر بها وعانى منها خلال فترة اسره، ومن مواجهته موتا محققا ثم نجاته وبقائه”، وهي تعتقد أن أفكاره عن الجنون “حولته الى رائد في مجال سبر اغوار النفس وتأمل بواطنها قبل مجئ فرويد بثلاثة قرون”. وتشير غارسيس الى ان تركيز الكاتب على تجربة الاسر يظهر في ما تسميه “احتجازات رمزية” مثل حالات الهذيان التي يمر بها دون كيشوت، او حالة الخبل التي تسيطر على الطالب فيدرييرا المجنون. وهي تعتقد ان سرفانتس يستعيد فترة استعباده ويسردها ويحييها عبر شخصيات رواياته. وتقول غارسيس “التجربة القاسية اشبه ما تكون بجرح في النفس لم يلتئم على الاطلاق” وتضيف “أعمال سرفانتس تبدو مسكونة باعادة تفعيل الحدث والالم المرافق له حيث تسيطر عليها صور مستمرة ومتواصلة وأحلام تهاجم الناجي من تجربة مريرة”.
ومع ذلك ذهبت بلغت عملية سرد سرفانتس تجربته القاسية مدى ابعد بكثير من مجرد اعطاء شهادة حية إذ يصف مؤرخ الثقافة الاسبانية اميركيو كاسترو اسر الكاتب بكونه “أهم حدث مر به سرفانتس على صعيد تكوينه الروحي”، فيما يرى الناقد خوان بوتيستا آفالي-آرسي، ان الاسر “كان المفصل الذي دارت وانتظمت حوله حياة سرفانتس الكاملة رغما عنه”. أما الشاعر والروائي الاسباني خوان غويتيسولو فيعبر عن تجربة سرفانتس المريرة بهذه الكلمات “فراغ – حفرة، دوامة، امتصاص لولبي، كل هذا يمثل النواة الاساسية في ما يدعى بالاختراع الادبي العظيم”. ويلاحظ غويتيسولو أن السنوات الخمس التي أمضاها سرفانتس في الجزائر كانت التجربة التي غيرت حياة بأكملها ويقول “طور سرفانتس خلال فترة احتجازه في ارض افريقية منظوره المعقد الذي يستحق الاعجاب عن اسبانيا، مقارنة بالانموذج المنافس الذي دخل في اشتباكات معه”. ومن الواضح ان استعباد الكاتب لم يوسع منظوره الى الامور بشكل عام بل وسع مفهوم الرواية واسلوبها ايضا وتعتقد غارسيس أن رواية دون كيشوت تمثل “ولادة عصر جديد في فن السرد الروائي من خلال عرضها جماعات مهمشة ومبهمة الملامح ثقافيا” ومنهم المورسكيون (المسلمون الذين بقوا في اسبانيا تحت الحكم المسيحي وتحولوا او اجبروا على التحول الى المسيحية) والمحتالون الذين يعتمدون على دهائهم في العيش والخارجون على القانون (الذين نلاحظ وجودهم في عالمه الادبي) وهو ما تعتبره غارسيس نتيجة مباشرة لاستعباده، وتضيف “تجربته في الاسر في دور استعباد في الجزائر وعلاقاته الشخصية بالمسلمين وبالخارجين على القانون وتقاطعه مع حضارات وأديان مختلفة في مدينة متعددة الثقافات كانت تستقبل قراصنة من مختلف انحاء العالم منحته القدرة على تأمل هذه الامور انطلاقا من زاوية فريدة من نوعها”. وتعتقد غارسيس ان تجربة سرفانتس المريرة “فتحت أمامه باب الابداع”. وفي المقابل، وقدر تعلق الامر بغارسيس، ساعدتها التجربة الصعبة التي اعاد سرفانتس سردها في كل رواياته ومسرحياته وأشعاره في تجاوز واحدة من اصعب سنوات حياتها إذ كتبت “سرفانتس في الجزائر” خلال الفترة التي اعقبت وفاة ابنها البكر. وتقول غارسيس في مقدمة الكتاب “كانت كتابتي عن سرفانتس اهم ملاذ لي في فترة الحزن وتجاوز المحنة ومن خلال قراءتي وكتابتي عن خيالاته وقصصه، وجدت في سرفانتس اعظم معلم واعظم معالج ساعدني على عقد خيط حياتي المقطوع”. وتضيف “خصوبة ابداعاته التي تدور حول دوامة تجربة مريرة ارتني ان في الامكان تحويل الالم الى اغنية.. والاعلان عن حقيقة من المستحيل احتواؤها، إنها قصص جرح يصرخ ويضعنا امام محاولة للتعبير عن واقع لا يمكن وصفه”. وهنا، وانطلاقا من كل هذا، قد يؤدي سرد قصة الى إنقاذ حياة بالفعل وإن اردنا استرجاع كلمات صامويل تيلور كولريدج في قصيدة البحار العجوز “منذ ذلك الوقت، في ساعة غير محددة، تعود المنازعة، وحتى تروى قصتي المروعة، سيظل هذا القلب الذي احمل داخلي يحترق”