"إذا كان ثمة من صدمة قد أحدثها الحادي عشر من أيلول .. فإنها لا تقوم على الأثر الجارح الناجم عما جرى فعليا وعما جرى حاليا وقد يتكرر مرة أخرى بل من تصور يقيني لخطر أسوأ مقبل"1[1] لقد ضرب الإرهاب مجددا في عاصمة الأنوار والحرية وخلف القتل والرعب والحيرة على وجوه الناس وارتبط بالالتباس والألغاز والغموض وحالت عدة صعوبات وعراقيل وتحفظات دون فهم هذه الظاهرة ولعل هذه العملية المدانة قد عرفت من جهة التنفيذ والضحايا ولكنها تظل مجهولة من جهة المخطط والمستهدف، ولذلك استنجد المتابعون بالصحافة والإعلام وعلماء السياسية والاجتماع والنفس والأنثربولوجيا الثقافية والأديان للمساعدة والتعمق في التحليل والتوضيح، ولكن للفلاسفة رأي سديد ومنهج فريد ولقد سبق لجاك دريدا أن حاول تشخيص هذه المعضلة إبان أحداث 11 سبتمبر 2001 وقدم نظرة تفكيكية عن هذا المرض المزمن وتوقع قبل غيره الانتشار العالمي لهذه الظاهرة واستفحالها.
في هذا الصدد تتوقف الفلسفة كثيرا أمام الأحداث الحاسمة في التاريخ التي تولد الدهشة والذهول وتمارس فن التفكير بحذر شديد ولكنها تقدم جوابا يضع هذا الحدث الهائل موضع مساءلة جذرية وتنقيب مستمر وتقليب من جميع جوانب وجوده ولا تتسرع إلى تعويم المسألة وتلخيص الأسباب والدوافع وتحديد الأدوات والأساليب ولا تنتهي بسرعة إلى توقع النتائج والتداعيات ولا تبادر بعجالة بتقديم وصفات علاجية مفترضة. بطبيعة الحال مع جاك دريدا هذا الحدث الإرهابي لا يوقظ الفلسفة من سباتها الدوغمائي فحسب بل يدفعها إلى التفكير في نفسها، كما لا يمكنها التفكير فيه بالمسلمات المفهومية المنقوشة في الخطاب المعتاد والمكرر وإنما تنحت تفكير فلسفي جديد تساءل فيه موروث الفلسفة السياسية وعدم التعويل على الخطاب الذي يتم تداوله من قبل الميديا والخطابة الرسمية الذي يستسهل تعريف مفاهيم دقيقة وشائكة مثل الحرب والإرهاب[2].
في هذا الصدد يعود دريدا إلى تمييز كارل شميث بين الحرب الكلاسيكية التي تتفجر بإعلان المواجهة بين دولتين عدوتين والحرب الأهلية بين المجموعات داخل الدولة الواحدة وضدها في الآن نفسه. ولكنه يخالفه في مصطلح الحرب على الإرهاب ويعتبره مصطلحا غامضا ويحمل الكثير من المغالطات والمصالح وعاجز عن تحديد العدو الذي يحاربه والجهة التي تعلن الحرب وأكثر من ذلك لا يعتبر العنف المتفشي الآن سليل ظاهرة الحرب فقط بل يتأتى من مصادر متنوعة وتغذيه روافد نفسية واجتماعية وثقافية. يتحدث دريدا عن الحرب الجديدة التي وقودها الشبكات الإرهابية ويتم فيها استعمال أكثر التكنولوجيات الحربية شراسة وقسوة ويندلع الصراع بالأساس حول امتلاك المعلوم والسيطرة على الدعاية والإعلام.
لقد تحول الإرهاب إلى خطر مجهول وغير حكومي ومصدره القادم من بعيد ويهدد الجميع دون استثناء وذلك لقدرته الفائقة على التدمير وإحداث الصدمة وسيطرته الدقيقة على المكان وسرعة احتجاز الرهان.
لم تعد العمليات الإجرامية تتم بإلقاء القنابل واختطاف الطائرات وتفجير المباني وطريقة الكاميكاز وإنما أصبحت تجري على الصعيد الرقمي باختراق المنظومات الإعلامية والهجوم الالكتروني والتشويش على الفضائيات وإحداث البلبلة في المصادر المعلوماتية والمالية والعسكرية لدولة معينة وممارسة الضغط الديبلوماسي والحصار الاقتصادي والتضييق التجاري وفرض منظومة من الرقابة القانونية الدولية. هنا يظهر إرهاب الدول ضد إرهاب المجموعات والأفراد ويرتقي التعنيف الممنهج إلى درجة الاستراتيجيات. لقد غيرت التثنية الصناعية العلاقة بين الأرض والأرضية وأدخلت اضطرابا في التمييز بين الإرهاب والحرب وزادت من قدرة الفتك وطاقة التدمير وضاعفت من احتياطي الإمكانيات الكارثية للفوضى. هذه الشبكات الجاهلة بالعالم تكشف بين الفينة والأخرى مشاهد من العنف على المسرح العالمي تصدم الخيال.
تساعدنا الفلسفة على فهم ما حدث حسب دريدا بالتأكيد على أن الهجوم الإرهابي أينما وقع وفي أي اتجاه مورس ومهما كانت عواقبه ومخلفاته وبأي الطرق والتكتيكات تم تنفيذه هو حدث من قيمة مضافة يحمل بطريقة مجهرية ولغة صامتة وبسرعة غير متوقعة وبشكل لصوصي إلى غد البشرية شرا لا يمكن تحمله. أي دولة في العالم مهما كانت عظمتها وقوتها المادية والأمنية معرضة للخطر الإرهابي ويمكن أن تصاب حياتها الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية بالشلل والعطالة عند وقوع أي هجوم إجرامي داخل أراضيها. هل الهجمات الإرهابية هو واحدة الأشكال المخففة من الحرب الأخيرة في الأزمنة الغابرة قد أعيد إحيائها؟
يبدي دريدا دهشته من الدقة والناظم في التنفيذ ويشير إلى تقنية النانو والمنطق الذري وعالم البكتيريا والمجهريات ونظام الهائل والعظيم في الفنون الذي يجعل اللاوعي يصاب بالرعب ويحس بالخوف ، وينتهي إلى القول بأن الإرهاب تسمية جديدة لمفهوم جديد يصعب تمييزه بصورة دقيقة لكونه يختلف عن الحرب الكلاسيكية بين الدول وعن حرب التحرير التي يخوضها السكان ضد الاحتلال وعن الحرب الأهلية ولأنه يجوب الأرض بالطول والعرض ويعشش فوق المسطح بلا مركز وينتشر في الفضاء. كما يدعو دريدا إلى الحذر من هذه الظاهرة وعدم الخلط بين الحرب الباردة والحرب الساخنة وبين الحرب الغاشمة والحرب العادلة والتمييز بين الرعب والخوف والقلق والانتباه إلى الأشكال الواعية واللاواعية والظاهرة والمخفية للعنف والمخاطر التي تحمل تهديدا عاجلا وآجلا لمستقبل الحياة البشرية على الكوكب.
لقد دخلنا إلى مرحلة سبرنيطيقية تتحكم وتوجه وتغذي الإرهاب عن طريق التقنية الصناعية وظهر الإرهاب المنظم والمسلح بأكثر الوسائل تطورا والمثار بمنهجية وفي أوقات عصيبة ومنتقاة ببراعة. لقد تحولت الدولة نفسها من شرط سياسي لتنفيذ سلطة القانون إلى أداة تمتلك لنفسها حق الردع وتبادر بالدفاع عن نفسها بالقوة الكافية التي ترهب بها المتطاولين على هيبتها والخارجين عن مؤسساتها ونظامها العام. لقد ساعدت تحليلات هوبز وشميث وبنيامين على تحديد العلاقة بين القوة والقانون وبين الدولة والعنف ولكن خصوصية تجربة الإرهاب لا تستند إلى تقليد سابق ولا يمكن اشتقاقها من الرعب الثوري طالما أننا لازال يمارس باسم الدولة أو ضدها ويتضمن طاقة من العنف الشرعي أو غيره من وجهة نظر القانون.
الإرهاب يحيل إلى جريمة ضد الحياة الإنسانية باختراق القوانين الوطنية أو الدولية وعدم التمييز بين المدني والعسكري والتحرك وفق غائية سياسية تهدف إلى التأثير أو التغيير في سياسة الدول وقناعات الشعوب. ولا يعفي هذا التعريف الأنظمة السياسية والدول من مسؤولية التورط في ارتكاب هذا الشر وبالتالي يوجد إرهاب دولة مثلما يسطع إرهاب المجموعات ولا يمكن تبييضه مهما كانت المسوغات.
من يشجع الإرهاب؟ ومن يقف وراء انتشار الشبكات الإرهابية في أنحاء العالم؟ هل الفكر المتطرف الذي يستند إلى نص مغلق أم الدول الامبريالية ذات المصالح المادية؟ ومن المسؤول عن تخليف الأضرار؟
بعض الدول الكبرى والقوي العظمي ارتكبت مجازر وفضاعات في حق الشعوب البريئة وخاصة في مرحلة الاستعباد والاستعمار وأثناء الحروب العالمية ولما تم إلقاء القنابل النووية والعنقودية والصواريخ الباليستية العابرة للقارات وحيث تمت ممارسة التطهير العرقي والتصفية على الهوية وإبادة الأبرياء.
غير أن مصطلح حرب نظيفة ضد الإرهاب الدولي هو كلمة حق أريد بها باطل تشبه كثيرا مصطلحات الحرب العادلة والحرب المقدسة وحرب التخليص ومواصلة للصراعات السياسية بلغة عسكرية قاتلة وبالتالي الترحيب بمثل هذا المصطلح لا يبارح المكان الذي انطلقت منه صيحات التنديد والإدانة له.
ربما يندرج تنظيم حوار فلسفي من أجل التصدي لظاهرة الإرهاب على الصعيد الدولي ضمن الدفاع على القيم الكونية والإنسانية التقدمية باعتبارها خيارا إيتيقيا لا محيد عنه للتعايش السلمي بين الدول والشعوب. لقد مورس الإرهاب من طرف الدول ضد دول وشعوب أخرى في الجزائر وفلسطين وايرلندا الشمالية ولا يمكن نعت الثوار المطالبين بالاستقلال في الجزائر من الاستعمار الفرنسي بكونهم إرهابيين ولا يمكن معالجة قضايا التحرر الوطني وتقرير المصير عن طريق القوة العسكرية، وقتها تصبح الدولة إرهابية.
خلاصة القول لا يقبل بتاتا الحكم على النسق المعياري لخصوصية ثقافية معينة من منظور سلم قيمي كوني ساهمت كل الخصوصيات الثقافية في تشكيله على مر التاريخ وراكمته الحضارة الإنسانية مدة قرون، ولا يمكن الإساءة إلى المقدسات وتدنيس الرموز الدينية باسم حرية التعبير وحرية الضمير ولا يجوز الذب عن العقائد والدفاع على القناعات العقدية باستعمال القوة الغاشمة وارتكاب العنف المروع ولا يجب تحويل الرؤية القدسية للحياة إلى منظومة مراقبة ومعاقبة تقيد من حرية الاستعمال النقدي للعقل.
لكن كيف يستطيع المرء التمييز بين عمل إرهابي مرعب ومقاومة مشروعة ضد الاحتلال والاستعمار؟ ومتي يستوطن السلم في البنية القانونية والمنظومة القيمية للعلاقات بين الشعوب والدول والثقافات؟ أليس من المطلوب الكف عن الاستغلال والهيمنة وإنهاء الاحتلال والاستيطان ثم نتحدث عن العيش المشترك؟ لماذا يزج بالإسلام من جهة الاعتقاد في معركة ضد الشعوب المسلمة من جهة الثقافة والاجتماع البشري؟
الثلاثاء أبريل 12, 2016 6:00 am من طرف سميح القاسم