[rtl]حينما تذكر الضمير «أنا» لا تشعر بأي غموض فيما تعني، فأنت هو أنت. بل إنه ضمير إبتدائي جدًا نتعلم معناه ونكون معتادين عليه منذ أن نبدأ بتعلم الكلام. وها قد قرأت عنوان المقالة هذه «من تكون أنت؟» وبدأت بالتفكير في إجابة عن هذا السؤال… «من أكون انا؟». ربما تفكر حاليًا في ما تعنيه الكلمة الثانية من السؤال: «أكون»، وستشعر أن «أنا» واضحة، لا حاجة لنا بالدخول في تفسير معنى لهذه الكلمة. ولكن حينما تتوقف قليلاً وتفكر حيال الكلمة الثالثة في السؤال – ماذا عن الـ «أنا»، يبدأ تفكيرك يأخذ مسارًا غريبًا بعض الشيء. من تكون أنت؟ هل أنت جسدك؟ هل انت عقلك؟ هل أنت معلوماتك؟ هل انت جزيئة من الـ DNA؟ ما الذي يحددك «أنت»؟ لنبدء بما يعرف بمشكلة عدم الكينونة للفيلسوف الإنكليزي جون لوك[1].[/rtl] [rtl]نساء شريرات وبشر مخربون[/rtl]
[rtl]دعني أولا أطرح عليك بعض السيناريوهات[2]:[/rtl] [rtl]السيناريو الأول: لو فرضنا أن لدينا إمرأتين، واحدة تدعى «صبرية» تسكن بغداد والأخرى تدعى «فخرية» تسكن طوكيو. تمتاز كلاً من صبرية وفخرية ذا معاش قليل جدًا يكاد أن لا يكفيهم الأكل ودفع الفواتير. وبغض النظر عن بعولتهن قررت كلٌ من صبرية وفخرية الحمل، ولكن تساءلتا عن من سيدفع فواتير أطفالهن. وبعد مدة من التفكير حلت كل من صبرية وفخرية المشكلة… فكلٌ من حكومتي اليابان والعراق توفر دعما ماديًا كبيرًا للمعاقين، فالفكرةُ كانت أن تحمل صبرية وفخرية بأطفال معاقين، وأن يتعمدوا إعاقة أطفالهن المستقبليين. الفرق بين صبرية وفخرية كان في الطريقة التي إستخدموها لكي يحملوا بأطفال معاقين. فبالنسبة لصبرية، قامت بأخذ حبوب ممنوعة من الحوامل مما أودى بطفلها «صبري» أن يكون معاقًا، وبهذا حصلت على دعم الرعاية الإجتماعية وحصلت أيضًا على وظيفة حكومية ذو مرتب عالي. أما بالنسبة لفخرية، فكانت تعمل في مختبر للهندسة الوراثية وأطفال الأنابيب فجاءت ببويضاتها المخصبة وبدأت بفحص جيناتها حتى وجدت أحدها ذو جين يسبب إعاقة فإختارت البويضة المخصبة لكي تحمل بها وتنجب «فخري». ربما نتفق على أن كلا من صبرية وفخرية نساء شريرات، وربما نتفق على أن من حق صبري أن يتاعب أمه صبرية، ولكننا لن نتفق على حق فخري أن يعاتب أمه فخرية. فعلى فرض ان جميع الحيوات – جمع حياة – تستحق العيش، فلن تكون لفخري فرصة أن يحيا لو لم تكن أمه تبحث عن إبن معاق.[/rtl]
[rtl]السيناريو أعلاه لا يناقش مشكلة أخلاقية أو معضلة دينية. ولكنه يعطيك تصورًا بسيطا عن إجابة السؤال الذي بدأنا منه هذه المقالة: «من تكون أنت». ففخري لم يكن ليوجد، لم يكن ليكون، لو لم تفكر أمه بإنجاب إبن معاق. قم بعكس السؤال على نفسك. فكر بكل الإحتمالات الممكنة التي كانت ستودي بطفل أو أخ بدلا يولده أباك وأمك بدلا منك. ماذا لو لم يفكر أباك أو لم ترغب أمك بالإنجاب في ذلك الوقت؟ ماذا لو لم يتم تخصيب تلك البويضة التي أردتك موجودًا تحيا على الأرض؟ ماذا لو تزوج أباك من أمٍ أخرى؟ جميع هذه الإحتمالات كانت لتودي بطفل أخر ربما يكون شبيه لك في بعض المواصفات، ربما يشبهك حتى في تصرفاتك، ولكنه ليس أنت. فمن تكون انت؟[/rtl]
[rtl]إن كان السيناريو أعلاه مستبعدًا وتراه ربما مستحيلاً، خذ السيناريو التالي:[/rtl]
[rtl]السيناريو الثاني: جميعنا نعلم مخاطر إستخدام الوقود العضوي المستخرج من الأرض على البيئة وما يؤديه من إحتباس حراري. إنها بالفعل مشكلة رهيبة تعرض الإنسان، بل الحياة بأكملها، بل الأرض بأكملها لتغيرٍ جذرية قد تكون غيرُ قابةٍ للحل. حسنًا، فكر بها، جيلنا يقوم بإستخدام النفط، الإحتباس الحراري يحصل، النشاط الإنساني يتغير، وضائف يتم إلغاءها، وضائف جديدة ربما ستكون موجودة، ربما سيكون هنالك مناطق من الكرة الأرضية غير صالحة للسكن، فينتقل ساكنيها الى مناطق أخرى. ربما يتغير النشاط الإنساني بالكامل، فيقضي الإنسان أعماله وأشغاله ليلاً ويرتمي على السرير لكي ينام نهارًا. نتيجة لهذه التغييرات في النشاط الإنساني، سيلتقي بشر ببشر مختلفون عن من كانوا سيلتقون بهم لو لم يحصل الإحتباس الحراراي. فلو لم يحصل الإحتباس الحراري لا وضائف ستتغير ولا نشاط إنساني سيتغير وسيلتقي مجموعة البشر «أ» بمجموعة البشر «ب» ليتزوجوا وينجبوا مجموعة الأطفال «س». ولكن إذا حصل الإحتباس الحراري سيلتقي مجموعة البشر «ج» بمجموعة البشر «د» ليتزوجوا وينجبوا الأطفال «ص». والسؤال يطرح نفسه هنا: «هل يحق لمجوعة الأطفال ص أن يعاتبونا لأننا سببنا الإحتباس الحراري؟». قد تكون إجابتك بـ «نعم» على هذا السؤال ولكن فكر قليلأ… لو لم نقم بتسبيب الإحتباس الحراري لولد أطفال مختلفون تمامًا «مجموعة الأطفال س»، ولكن الإحتباس الحراري سبب لنا ولادة مجموعة الأطفال «ص».[/rtl]
[rtl]أكرر ملاحظتي هنا، السيناريو أعلاه ليس معضلة أخلاقية، بل ما هو لأبين كيف تبدأ كينونة الإنسان بالوجود. ولاحظ كيف يمكن أن يؤدي تغير عالمي مثل الإحتباس الحراري الى ولادة كينونات مختلفة تمامًا، وبإمكانك أن تتخيل كيف يمكن لتغير بسيط في حياة والدك أو والدتك أن يؤدي الى ولادة كينونة مختلفة تمامًا عن كينونتك. فمن تكون أنت؟[/rtl]
[rtl]نظرية الجسد[/rtl]
[rtl]من تكون أنت؟ سنبدأ بالإجابة التي يرضى أغلب الناس بها، الجسد المادي بحد ذاته. تقترح نظرية الجسد أن ما يكون كينونتك وهويتك المستقلة هو جسدك، وهذا يمكن أن يكون منطقيًا ربما، فبداية كينونتك التي ناقشناها أعلاه كانت في بداية تخصيب النطفة للبويضة، وتخصيب النطفة للبويضة هي عملية فيزيائية بحتية بدأ بعدها جسدك بالنمو، وخلاياك بالتكاثر وأنسجتك بالتخصص، حتى وصلت الى شخص – يمكن أن نفترضه بالغًا – يجلس أمام شاشة ليقرأ هذا المقال. إن توقف جسدك عن العمل فستموت. إن مررت بتجربة معينة سيقول عنك أصدقاءك وعائلتك أن فلان ليس فلان نفسه سابقًا، لا يقصدون بهذه الجملة أنك شخص مختلف حرفيًا، لقد تغيرت نعم، ولكن جسدك – جسد فلان – لا يزال هو جسدك وانت لا تزال أنت.[/rtl]
[rtl][/rtl] [rtl]عادة ما يحاول الإنسان أن يفكر بنفسه بأكثر من مجرد قطع لحم وعظام، ولكن جسد السنجاب يكون سنجابًا، جسد النملة يكون نملة، وجسد الإنسان يكون إنسانًا. هذه هي نظرية الجسد، دعونا الآن نختبرها:[/rtl]
[rtl]حسنًا، ماذا يحدث لو قطعت إصبعًا لك؟ لقد غيرت جسدك، بشكل صغير الى حد ما، ولكن أنت لا تزال أنت. حسنًا ماذا لو قمت بزراعة كلية؟ ها قد غيرت جزءًا أكبر من جسدك ولكنك أنت لا تزال أنت. وإن زرعت قلبًا أيضًا فأنت لا تزال أنت – وبطريقة جميلة جدًا ستدخل حبيبتك الى قلبك الجديد مرة أخرى. ماذا لو أصبت بحادث ما وكنت تعاني من مرض مزمن ما وقمت بإجراء جراحة لتغير لك كبدك وقلبك وكليتك ورئتيك وبعض من أنسجة وجهك حتى إحتجت قبل وأثناء وبعد العملية الى قدر كبير من نقل الدم. وبعد أن نجوت من العملية الجراحية – التي لا أستطيع أن أتخيل كلفتها في الحقيقة، نيالك! – أنت لا تزال أنت. هل ستقترح عائلتك بأنك قد مت وهذا شخص جديد؟ كلا أنت لا تزال أنت، لم تكن بحاجة الى أيٍ من هذه الأعضاء لتستمر في كينونتك ذاتها.[/rtl]
[rtl]حسنا ربما هو الحامض النووي الرايبي منقوص الأوكسجين – او ما يعرف إختصارًا بالمادة الوراثية او الـ DNA – هو من يحدد هويتك وكينونتك. ولم تكن بحاجة الى أيٍ من هذه الأعضاء لأنه لا تزال الكثير من الخلايا لديك تحتفظ بنفس المادة الوراثية وهي تحافظ على هويتك المتميزة. ولكن لدينا هنا تحدٍ لهذ المقترح: وهو أن التوائم المتماثلة تتشارك بمادة وراثية متماثلة إلا أن كل من الشقيقين هو كيان منفصل ذو هوية منفصلة.[/rtl]
[rtl]حتى الأن نظرية الجسد لا تبدي بلاء حسنًا، قمنا بتغيير أمورٍ عدة في جسدك، ولا تزال أنت هو أنت.[/rtl]
[rtl]أعلم بالضبط ما تفكر به، الدماغ… حسنًا لنتناول نظرية الدماغ.[/rtl]
[rtl]نظرية الدماغ[/rtl]
[rtl]فلنفترض أولا أن معمر القذافي لم يتم قتله، بل تم إختطافه. ولنتخيل أن هنالك عالمًا يقوم بتجارب مجنونة وغير قانونية قام بإختطافك أنت وإختطاف معمر القذافي ليجري عليكما تجاربه ووضعكما في غرفة وأغلق عليكما الباب.[/rtl]
[rtl][/rtl] [rtl]وبعد يوم أو يومين من الإحتجاز وبمساعدة ممرضة عجوز – قد تكون أمه – قام بأجراء التجربة ألا وهي ان يقوم بنقل دماغك الى جسد معمر القذافي ودماغ معمر القذافي الى جسدك بطريقة ما أبقتكما على قيد الحياة.[/rtl]
[rtl]بعدها تلتئم جروحكما وتصحون أنت ومعمر. تصحو انت وترى نفسك بجسد مختلف تمامًا – وفي ملابس غريبة تمامًا أيضًا – وتجد أن جسدك يقبع أمامك ويتصرف كما يتصرف معمر القذافي. تنظر الى المرآة وتجد نفسك معمر القذافي بذاته.[/rtl]
[rtl][/rtl] [rtl]هل انت لا تزال انت؟ منطقيًا نعم. أنت لا تزال أنت ولكن بجسد معمر القذافي. فما زلت تحمل نفس الذكريات ونفس الشخصية الفارق الوحيد أصبح شكلك يقترب الى حد مخيف من شكل واحد من أكثر الحكام العرب إثارة للجدل. فلتذهب الأن الى عائلتك وتشرح لهم الموقف – حظًا سعيدًا.[/rtl]
[rtl][/rtl] [rtl][/rtl] [rtl]إذا وبخلاف الكثير من الأعضاء، والتي يمكن لجسدك أن يستبدلها تمامًا وتبقى أنت هو أنت، دماغك لا يمكن أزالته أو إستبداله. إذا دماغك بشكل أو بأخر هو ما يحدد هويتك؟ ربما… فلنتابع…[/rtl]
[rtl]نظرية البيانات[/rtl]
[rtl]فلنتخيل التالي: ماذا لو لم يقوم ذلك العالم المجنون بالعملية الجراحية. ماذا لو كان لديه جهاز حاسوب متطورٍ جدًا جدًا الى الدرجة التي تمكنه فيه من أخذ نسخٍ إحتياطيةٍ من المعلومات الموجودة داخل دماغيكما ومن ثم يقوم بمسح كل من دماغيكما، ثم يقوم بتنصيب معلومات دماغ معمر القذافي الى دماغك ومعلوماتك الى دماغ معمر القذافي. سيصحو كلا منكما – أنت ومعمر – ويجد نفسه في جسد الأخر ويستخدم دماغ الآخر. فدماغ معمر القذافي الآن يحتوي على كلٍ من أفكارك وذكرياتك ومخاوفك وأمالك وأحلامك وعواطفك ومشاعرك وشخصيتك. والأن جسد ودماغ معمر القذافي سيهرع راكضًا الى عائلتك كما فعلت أنت بجسدك ودماغك في السيناريو السابق. ومرة أخرى بعد مدة طويلة من الشرح والتفسير ستقنع عائلتك أنك أنت فلان ولست معمر القذافي. وعاجلاً أم أجلا سيتقبل أصدقاءك وعائلتك أنك ما زلت حيًا ولكنك تحيا في جسد معمر القذافي.[/rtl]
[rtl]تقترح نظرية الذاكرة للفيلسوف جون لوك[3] بأن ما يحدد هويتك وما يجعلك أنت هو أنت هي ذاكرتك للتجارب التي مرت بك. وبحسب تعريف لوك فإن النسخة الجديدة من معمر القذافي – في السيناريو الأخير – هي أنت، على الرغم من أنها لا تحتوي لا على جسدك ولا على دماغك. بل ربما على نشاط دماغي مختلف.[/rtl] [rtl]مما يقترح نظرية جديدة لتحديد هويتك – بعد سقوط نظرية الجسد وسقوط نظرية الدماغ – ولنسمي هذه النظرية الجديدة بـ «نظرية البيانات».[/rtl]
[rtl]كما رأينا أعلاه فاننا نقوم بعمل مجموعة من الإفتراضات ثم نقوم بفحصها بواسطة سيناريو تخيلي. والآن فلنقم بفحص نظرية البيانات أيضًا بسيناريو جديد. السيناريو التالي تم وضعه من قبل الفيلسوف بيرنارد ويليامز[/rtl]
الجمعة مارس 11, 2016 3:30 am من طرف حمادي