دون أن نعاين الأمر بدقَّة كبيرة انتبهنا خلال ثورات شمال إفريقيا والشَّرق الأوسط لطرفة معرفيَّة ليست بالجديدة مفادها أنَّنا لا نثور على واقعنا فحسب، بل واقعنا المزيد؛ أي واقعنا الإنساني غير المشرف والعادل. إنَّنا إذن ودون أن نخجل في التَّعبير عن ذلك، أصبحنا اليوم مؤمنين بالقدرة المعنويَّة لفعلنا على إيجاد موطئ قدم لنا في العالم، يمكننا القول أنَّ عمليَّة استعادة الثّقة قد بدأت، لأنَّنا ولأوَّل مرَّة نستشعر كوننا جزءا من الفعل العالمي، ولسنا رقعة شطرنج للَّعب. فمن لا يزال يعتقد بأنَّه يحرّك هذه الجموع الَّتي هي “النَّحن” المختلفون عنه اختلافا جغرافيًّا وثقافيًّا وحضاريًّا، فهو يتنافى مع الحقيقة الَّتي باتت واقعنا العالمي اليوم، ألا وهي امتدادنا في كلّ شيء وتداخلنا مع كلّ شيء يحدث، وعودتنا للنُّقطة الَّتي جعلتنا نعتقد خطئا أنَّنا هوّيات متقابلة، ونقصد تحديدا فكرة/إيديولجيَّة اختلافنا التَّمايزي الموهوم.
ثمَّ هي الفكرة ذاتها جعلتنا نحاول أن نصنع ما نسيطر به على هذا التَّعدّد لنوجهه من قبل أحاديّة هوياتية متحكّمة، تحت رهاب ضياع المصالح والهوّيَّات والخصوصيات، بينما الفكرة في كينونتها إنَّما كانت تسير نحو حتفها ودون أن تعاكس حقيقتها العميقة/المستقبليَّة دائما، الكامنة في ارتباطنا الإنسانيّ غير القابل للفكاك والتَّحوُّل. لهذا، فنحن نتشارك اليوم همومنا كما سبق أن تشاركناها وإن لم ندرك المسألة قبلا، بل تعاودنا الحضور بوقع تشاركيّ أكبر، سواء أكثرتنا للأمر أم لا، لأنَّها ببساطة تسير وفق مبدأ الطبيعة الإنسانيَّة الانسيابي الَّذي يجيئ دوما لنقطة الالتقاء الَّتي منها يعاود الحركة.
هذه الطريقة في التَّفكير، والَّتي حاولنا شرحها ليست حقيقة وليست تأويلا، لكنَّها المعيش كما نتلمسه اليوم من لحم ودم، وكما نعاينه من خلالنا، هي على الأصحّ تفكير فينا ووصف لطريقتنا حسب ما تراه الأعين وترقبه شجون المخيّلة فيما سيأتي.
قد تفسّر هذه الرُّؤية باعتبارها نتاجا للغضب على الكثير ممَّا يقع في عالمنا الحديث، وما سيقع فيما نتوقَّعه. ولعلَّه كذلك، فلا أخفي حنقي وانفعالي الهائل بما يحدث من مآسي قيميَّة وماديَّة في عالمنا، ولا أخفي هوسي ككائن معاصر بفكرة “الغاضبون” في حقّها الطَّبيعيّ لأن نغضب، ولأن نغضب، ونقول الكلمة السَّاحرة “لا”.
سؤال قد يلخّص الفكرة إجمالا: كيف يمكننا أن نعاود الصّياغة للكثير من أشيائنا والتَّفكير كيف آلت لما هي عليه؟ وهل يمكن مجدَّدا أن تتَّخذ منحى آخر؟
2
ليس سهلا أن ترقب الموت ينتشر في الكثير من بقاع العالم، وليس سهلا أن تتقبَّل وقوفك أمام هذه المشاهد كمراقب تسجّل يوميات العالم وهو ينتحر بيديه أمامك. لهذا فمشاعر الغضب ليس أمامها إلاَّ أن تكون سيّدة الموقف.
لكنَّها في المقابل قد تحجب عنك الكثير من مميّزات عالمنا المعاصر في حجم الحريَّات الَّتي نتملكها اليوم والَّتي أصبحت مثار قلق كبير لمن اعتقد خدمتها لمصالح تخصُّه، فإذا بالتكنولوجيا تتحوَّل تبعا لتطوّر العلم إلى خدم لانعتاق الإنسان وعبوره نحو مزيد من تحرّره، فلكلّ شيء من الموجودات الَّتي نستحدثها مخاتلاتها المرتبطة دوما بأصل الفكرة الَّتي ذكرنا، نقطة الالتقاء حول المشترك الإنسانيّ، منه والعودة إليه، كما التَّعبير عن سيولته وانسيابيته الجوانيَّة اللاَّمحدودة.
إذن فالمعادلة ليست سهلة في أن نجرّم الولايات المتَّحدة أو نجرم أنفسنا أو روسيا أو التراث أو الشَّرق أو الغرب..الخ. الأمر قد يخالف كلّ ذلك، لأنَّنا ببساطة إذا ما استوعبنا قيمة عيشنا لحظة ما بعد القوميات والهوّيات المغلقة، سندرك حدود انفتاحنا على أنفسنا مجدَّدا، نحن البشر الَّذين جُبلنا – قد تكون الجبلة هنا بمعنى النّسبي فينا العصي على التَّحكم والتَّوجيه – كونيا على طباع وخصال ومستقبل نتوحّد فيه رغما عنَّا. لم يتوقع الإنسان أن يتمَّ الالتقاء عند هذه النُّقطة، لكنَّ سخرية العالم الَّذي نسكنه كانت تدفعنا نحو ردّ الاعتبار لفكرة المجموع الَّذي نكونه، فنحن نختلف على وقع الاشتراك، وننفصل لنتوحّد، ونتوحّد في انفصالنا، وننتشر لنصبغ العالم بصبغيات البشريَّة المرنة.
هذه الفاعليات المؤثّرة حاصرت واقعي منذ مدَّة، فكنت مترنحا كغيري من شباب العالم بين التَّفاؤل الَّذي يميّز مرحلة العمر الَّتي أمثلها، وبين دوافع التَّشاؤم الَّتي أعذر الكثيرين عند اعتناقها، لأنَّ النَّظرة المنبنية على التَّشاؤم سهلة الاعتقاد والتَّبرير، حيث تكتفي بصبّ جام غضبها على جهة أو نظريَّة أو أي شيء كان، بينما التَّفاؤل النَّقدي خيط دقيق يصعب عليه الانسلال للفكر دون استئذان، لأنَّه قناعة يلزم عنها أن تسير صوب تفاؤلك في تحدّ لكلّ ما قد يسدّ أمامك أفق الأمل الممكن.
3
هذه المشتركات العالميَّة الَّتي أردت تفسيرها والاقتناع بها قبل غيري، قدَّم فيها الباحث التَّونسيُّ فتحي المسكيني في كتابه الماتع “الهويَّة والحريَّة” وجهة نظر ذات رجحان كبير، تكمن في استثماره مقولة (الجمهور) باعتبارها عقلا عموميًّا كونيًّا لما بعد القوميَّة وما بعد الهوياتيَّة (ص 36)، “عقل عمومي كوني يحمي البشريَّة في كلّ مكان من الكوكب من أي تعصُّب هووي إزاءها مهما كانت طبيعته” (ص 37). ولذا لم يجد حرجا في مدح ابن خلدون والإعلاء من قيمة فكرته القديمة/الجديدة عن “علم العمران” الَّتي يمكن لنا حسب المسكيني السَّماح للتَّأويل الخلاَّق بأن يعتبرها مدوَّنة لحماية النَّوع الإنساني من نفسه (ص37).
لا يمكننا إذن أن نستمرَّ في طمس روحنا القلقة حول المستقبل، ليس بدافع الخوف أو التَّشاؤم. وإنَّما بدافع التَّساؤل المشروع حول توجهات “الجمهور” الَّتي بالفعل أصبحنا نتقاسم فهومه في كلّ شيء، حتَّى الزَّمن لم يعد الزَّمن حسب استيعابه الكلاسيكيّ، وبفضل من التكنولوجيا الحديثة صار زمنا جمهوريًّا آنيًّا نتقاسمه سويَّة في كلّ أبعاده الممكنة.
هذا الفهم الجمهوريُّ نفسه من جعلنا نتقبَّل حقيقة أنَّنا جزء من العالم، قادرون على التَّواصل معه وفق بنيات هذا الفهم المشترك اليوم، وقادرون على التَّأثير فيه والإسهام في تطويره، في تجاوز لكلّ مقولات أنَّنا عالم ثالثي لا يزال يبحث عن الغذاء والمجد والعلم الَّذي أضاعه. والفكرة هنا في نظري ذات أبعاد معرفيَّة/ثوريَّة حقيقيَّة، لأنَّها في عمقها تحبل بقيم الحريَّة الإنسانيَّة الَّتي ستعبر إلينا دون حدود تمايزيّة عبر هذا الفهم الجمهوري التَّشاركي بين ربوع البشريَّة.
لذا، فالتَّساؤل عن صلاحيات النَّموذج التَّصوري لنا حول العالم، نابعة عن الإحساس بانغلاق هذا النَّموذج حول نفسه ودورانه في حلقات مفرغة لا يريد الخروج عنها، ليس على مستوى العجز في تقديم الإجابات لمشاكلنا فحسب وإنَّما في عدم القدرة أيضا على التَّوقف وحبس الأنفاس للتَّساؤل والتَّفكير في احتمالات التَّغيير الممكنة، لهذا، فهو نموذج يسير في اتّجاه وثوقيات ذاتية حول العالم تخالف طبيعة العالم السَّائلة ذاتها.
الجميل في الفكرة، أنَّها ليست بالجديدة كما سبق التَّقرير، وكما هي حال أفكار كثيرة قد نتداولها، فمحصلة البشريَّة في وعيها الجمعي غنيَّة بقدر لا يمكن لنا تصوُّره، لهذا، ستعاود الفكرة اللّيبرتارية الَّتي ذكرنا بها الباحث الاقتصادي رشيد أوراز في حديث له عن المواهب الفرديَّة وإنتاج الثورات اجتذابنا، إذ لا تزال ذات راهنيَّة بالغة، وأقصد تحديدا سؤالها الجوهري المشكل في ذاته حول علاقتنا بالسُّلط والحكومات قبلا واليوم، باعتبارها أس الشُّرور الَّتي أصابتنا، نظرا لما يعيشه الكثير من سكان المعمور تجاه هذه الهيئات المنتخبة غير القادرة على تقديم حلول ممكنة وإن ادَّعت ذلك، إلى جانب الإسهام في دمج دول كثيرة في مسارات تصاديمة هووّية مأزومة لا زالت تقسم العالم وتمايز بين أطرافه، في كلّ حين بمسميات عديدة (العالم الحرّ، الإرهاب، العالم الحديث..الخ).
هذه الفكرة اللّيبراليَّة ليست مقحمة هنا من باب تمجيدها، لكنَّها تقول الكثير ممَّا نحاول قوله، أي أنَّنا ينبغي أن نعاود التَّفكير في النّظاميَّة الذَّاتيَّة الَّتي تميّزنا نحن البشر، بعيدا عن كلّ الأوهام الَّتي تصوَّرنا كائنات قابلة لأن تفترس بعضها البعض دون تفكير. قد يحاججنا البعض بما يعيشه العالم من سفالة قيميَّة اليوم، وما تعرفه مفردة المصالح من بشاعة. لكنَّه جزء مبتسر من الصُّورة، أي أن ما نعيشه ليس فوضى وليس نظاما وفق بنيات التَّفكير الَّتي تحكمنا، بل قد نعدّ الأمر – بنفس تفاؤلي نقدي – ولادة طبيعيَّة لما بعد بنياتنا الهوويَّة المغلقة، ولما بعد مدنيتنا الحديثة، ولما بعد فكرتنا التَّقليديَّة عن أنفسنا وعن العالم.
السُّؤال نفسه أو فيما يشبهه طرحه الحكيم برتراند راسل عندما حاول أن يفهم العلاقة الَّتي قد تربط الفرد بالسُّلطة؟. بالأخصّ حين نلحظ تعارض هذه السّلط مع حريَّات الأفراد. ما يهمني في عبارات راسل قيمتها التَّساؤليَّة المستمرَّة في الرَّاهنية، فعندما تجد الشَّباب يهب نفسه لفكرة انعتاقه وتحرّره من الاستبداد والظُّلم، ويهب العالم أفكارا تبرز أنَّهم جزء لا يتجزأ من هذا المعمور فكيف لا يكونون صورته الجامعة دون تمايزات سمجة وعنصريَّة، وإن كانت مسمياتهم عربيَّة من قبيل “البوعزيزي” أو تعبيراتهم عربيَّة من مثل “الشَّعب يريد”...إلخ. وفي المقابل ورغما عن كلّ جهودهم تتسلَّط على حرّيَّاتهم حكومات وسلط ومصالح محليَّة وعالميَّة بمسميات عدَّة، تؤكّد لهم ولنا بما لا يدع مجالا للتَّردُّد بأنَّ تصوُّرنا الَّذي شكلناه عن العالم وعن أنفسنا وعن العلاقات فيما بيننا قد استنفذ جميع صلاحياته الممكنة، وهو يترنح أمام واقع يتشكَّل لم يستطع فكَّ رموزه بعد، لذا، لابدَّ أن يعاد تشكيله.
الفكرة الهاربة عينها الَّتي نحاول أن نقولها في مقالتنا هذه، للهارب عينه، نعاين ملامحهما في لوحة الفنَّان الإيطالي الشَّهير رافئيل (Scuola di Atene) “مدرسة أثينا”، نعاينهما من الماضي الَّذي هو مستقبلنا، حيث تجتمع أرواح فلاسفة كثر، كما تجتمع أفكارهم، من عصور مختلفة، وأمكنة مختلفة، لكنهَّا من الانتماء الإنسانيّ عينه، أرسطو وسقراط وأفلاطون إلى جانب ابن رشد وابن ميمون، تتحاور أفكارهم حول صياغة العالم الَّذي نعيش فيه وسنعيشه وفق ما قد تنسجه تصوراتنا غير المتناهية والممتدَّة عنه.