كانت مادة القرآن والتربية الإسلامية جزءًا من المقرر الذي فرض عليَّ في المدرسة الابتدائية والثانوية، حفظت الكثير من النصوص القرآنية وأجزم أنني لم أكن أعلم ما تعنيه معظم هذه السور، حتى قصارها، فما الذي يعرفه تلميذ الصفِّ الثاني الابتدائي ذو السبع سنواتٍ عن إيلاف قريش وعن رحلتي الشتاء والصيف؟ وما هو العلق؟ ومن هم النفـّاثون في العقد؟ لقد تمت تربيتنا في هذه المدارس على ألا نجادل – وفي بعض الأحيان لا نسأل أساسًا – في أمور الدين وكانت هذه نقطةٌ أساسيةٌ من عملية التلقين indoctrination، فينشأ وينضج المسلم وهو يقرأ آيات القرآن دون أن يفهم معناها أو يعلم أسباب نزولها، ومع ذلك لا يشكُّ ولو للحظةٍ في مصداقيتها ويضع عبئ التفاسير وإيجاد الأعذار والبحث والتقصّي على فئةٍ مختصةٍ من النّاس لتضع له منهاجًا يُقيم عليه حياته بأكملها، ولربما هذا هو بالفعل ما يعينه الإيمان.
لقد كنت قادرةً على قراءة تعابير وجه مدرِّسي القرآن، وهم يلوِّحون بحرجٍ محاولين إخفاءه بنظراتٍ من الجدِّية في محاولة الإجابة، وتختفي الابتسامة على محيّاهم حين أسألهم عن المقاطع الغريبة التي تبدأ بها بعض السور مثل: “كهيعص” و “حم” و”المص”، على الرُّغم من أنَّ الإجابات كانت متشابهة – وهي التذكير بأنَّ القرآن نزل بحروفٍ عربيَّة – ولربما كانت إجابةً مقنعةً لهم، لكنّها لم تكن مقنعةً بالنسبة لي.
من الأمور الإيجابية التي يحصل عليها الملحد، أنه يطّلع على شتى الأراء وشتى المصادر دون أن يتوقع أي عقوبةٍ إلهيةٍ نتيجة قراءته، وبإمكانه أن يبني قناعاته بحريةٍ شخصيةٍ مطلقةٍ وفق أيِّ قراءةٍ كانت، وبإمكانه أيضًا ألا يبني قناعة مطلقـًا، فالإلحاد يقوم أساسًا على عدم الاقتناع (بحسب التعريف)، وبطبيعة الحال بعد تركي للدين – استفاقتي أو رِدَّتي إن شئتم – حصلت على هذه الحرِّية في تفسير الطّلاسم القرآنية التي بدأت بها 29 سورة من القرآن.
[size=44][size=44]حروفٌ مبهمة[/size][/size]
توجد في بداية 29 سورة من القرآن حروفٌ مفردةٌ أو مجموعات حروف، يعتبرها التراث جزءًا من الوحي الإلهي المنزل، وهي التالية:
- الر: في مطلع سورة يونس، سورة هود، سورة يوسف، سورة إبراهيم، سورة الحجر.
- الم: في مطلع سورة البقرة، سورة ال عمران، سورة العنكبوت، سورة الروم، سورة لقمان، سورة السجدة.
- المر: في مطلع سورة الرعد.
- المص: في مطلع سورة الأعراف.
- حم: في مطلع سورة غافر، سورة فصلت، سورة الزخرف، سورة الدخان، سورة الجاثية، سورة الأحقاف.
- حمعسق: في مطلع سورة الشورى.
- ص: في مطلع سورة ص.
- طس: في مطلع سورة النمل.
- طسم: في مطلع سورة الشعراء وسورة القصص.
- طه: في مطلع سورة طه.
- ق: في مطلع سورة ق.
- كهيعص: في مطلع سورة مريم.
- ن: في مطلع سورة القلم.
- يس: في مطلع سورة يس.
بذل المسلمون الكثير من الجهد للكشف عن سرِّ هذه الحروف، ويرجع كثيرٌ من التفاسير المقدَّمة إلى مشاهير القرن الثاني الهجري، لكن أحاديثهم شأنها شأن الروايات التفسيرية بمجملها عرضةٌ للشكِّ المُلح كونها من وضع اللاحقين لتكون تصديقًا لأراءهم الخاصة، مما يدفعنا إلى الاعتماد في نقدها على أسبابٍ مضمونيةٍ فقط.
لا أستطيع تقديم كلِّ التفسيرات الإسلامية هنا لكثرتها، ولكن سأقدم مجموعةً مختارةً من الأمثلة الجديرة بالاعتبار، إذ يمكن تقسيمها إلى مجموعتين كبيرتين:
[size=36][size=36]المجموعة الأولى:[/size] تعتبر الحروف مختصراتٍ لكلماتٍٍ أو جمل، وذلك كما يلي:[/size]
- الر: أنا الله أرى (1).
- الم: أنا الله أعلم، الله لطيف مجيد (1).
- المر: أنا الله أعلم وأرى (2).
- المص: الله الرحمن الصمد، المصور، أنا الله أفضل، أنا الله الصادق، ألم نشرح لك صدرك (1).
- حم: الرحمن الرحيم (1).
- حمعسق: الرحمن العليم القدوس الطاهر (1).
- ص: صدق الله، أقسم بالصمد الصانع الصادق، صاد يا محمد عملك بالقرآن، صاد يا محمد قلوب العباد (1).
- طس: ذو الطول القدوس الرحمن (1).
- طسم: ذو الطول القدوس الرحمن (1).
- طه: ذو الطول (1).
- ق: قاهر، قادر، قضي الأمر، أقسم بقوة قلب محمد، قف يا محمد (1).
- كهيعص: كاف هاد أمين عزيز صادق، كريم هاد حكيم عليم صادق، الملك الله العزيز المصور، الكافي الهادي العالم الصادق، كاف هاد أمين عالم صادق، انا الكبير الهادي على أمين صادق (1).
- ن: الرحمن، نور، ناصر، الحوت (1).
- يس: يا سيد المرسلين (1).
كما يبدو، تتحرك كل هذه التفسيرات في مجالٍ غير محدود، فأيُّ كلمةٍ قابلة لتختصر بحرفٍ أو أكثر من حرف وبمنتهى الحرية، وبهذه الطريقة يغدو تفسير المختصرات محض عبثٍ صرف، التفسير الوحيد المقنع هو “ن” تعني “الحوت”، ذلك لأن “ن” – نون – تعني الحوت في اللغات السامية الشمالية التي انتقلت إلى اللغة العربية، وفي نفس السورة يُذكر يونس المدعو “صاحب الحوت” (القلم: 48)، ويدعى أيضًا “ذو النون”، فقد تكون “ن” نوعًا من اسم أو عنوانٍ لسورة القلم. (3)
[size=36][size=36]المجموعة الثانية:[/size] يسود فيها اتفاق على أن الحروف ليست اختصارات:[/size]
وتختلف وجهات النظر اختلافا شديدًا في تفسيرها حين تخرج عن الاختصارات:
[list=rtl]
[*]الحروف هي أسماء سريةٌ للنبي لا يمكن تفسيرها، ففي كتاب “الإتقان في علوم القرآن” يذكر السيوطي أمثلةً عليها، مثل: “طه” و “حم” و “يس”. (1)
[*]الحروف أسماء سريةٌ للسور لا يمكن تفسيرها أيضًا، كما يذكر كتاب السمرقندي: “طس” و “حم” و “يس”.(4)
[*]الحروف أسماء سريةٌ لجبالٍ أو بحارٍ أو لأماكن أخرى ميتافيزيقية ولا يمكن تفسيرها أيضًا، والأمثلة على هذا يذكرها السيوطي في نفس كتابه السابق: “حمعسق” و “ق” (وهو جبلٌ يحيط بالأرض) و “ص” وهو بحرٌ يوجد عليه عرش الرحمن وينبعث فيه المائتون. (1)
[*]هذه الحروف تساعد على التنبه، فإمّا لتوجه اهتمام النبي – الكثير المشاغل– إلى صوت جبريل، أو لإدهاش المستمعين إلى النبي فيصغوا إلى الآيات بطريقةٍ أفضل. (5)
[*]تشهد الحروف على أن الوحي دُوِّن بالأبجدية العربية المعروفة والمفهومة عمومًا، واختيار هذه الحروف ليس بلا معنى، فهي معًا تشكّل نصف الأبجدية (14 حرفًا). (4)
[*]الحروف فواصلٌ بين السور. (1)
[/list]
كما يبدو للمتأمل، لا تقوم المجموعة الثانية على أساسٍ راسخ، شأنها في ذلك شأن التفاسير الأخرى الاعتباطية التي تزعم بانها اختصارات، يُضاف إلى ذلك السؤال التالي: لماذا بدأت 29 سورة فقط بحروفٍ مبهمةٍ كهذه وليس غيرها من السور؟
السبت مارس 05, 2016 2:45 am من طرف نابغة