عند الحديث عن التطوّر البشريّ، ربما سيفكّر الواحد فينا بمعرفة سبب التطوّر، لكن تميل الناس بالعموم للتفكير الفوريّ بماذا سنكون في المستقبل؟ إلى أين سيقودنا التطوّر؟
يكون الجواب البسيط والسريع والعلميّ: لا أحد يعلم، فالتطور يكون احتماليّاً. لكن في الواقع، نمتلك ثمّة اتجاهات في التطوّر البشريّ قد تحقّقنا منها وتؤثر بنوعنا الحيّ خلال آلاف أو ملايين الأعوام، وتتابع فعلها راهناً. بالرغم من عدم توافق علم المُستقبل futurología مع التطور بشكل جيّد، تسمح لنا هذه الإتجاهات المُلاحَظة من الإقتراب قليلاً من علم المستقبل هذا.
يشكّل مستقبل السلالة البشريّة موضوعاً ثابتاً في أدبيات الخيال العلميّ، وقد صار شائعاً وشعبياً بين بعض الفلاسفة التطوريين الذين يرغبون بتقديم تقديرات علمية حول هذا الموضوع. من المعتاد الوقوع بالخطأ هنا، حيث يتخيلون بشراً برؤوس كبيرة وأدمغة هائلة وذكاء خارق، بينما يرى آخرون بأنّ التطوّر قد انتهى عمله علينا كبشر، حيث أننا ومن خلال التكنولوجيا والثقافة قد امتلكنا زمام تطورنا الخاص. أحياناً يوجهون انتباههم لاتجاهات واقعيّة يمكن ملاحظتها بالتطور البشريّ ويتطرفون بها. لكننا نحن بهذا الموضوع لن نُقارب علم المستقبل، بل سنكتشف خمس اتجاهات في التطور البشريّ، عبر اتباع طريق أتينا به كنوع حيّ منذ ملايين أو آلاف الأعوام وبحسب الوضع القائم.
الإتجاه الأوّل: يتقلّص دماغنا
نبدأ بتفنيد إسطورة الانسان ذو الدماغ العملاق في المستقبل، حيث نمتلك واقع مُتحقَّقْ منه، بأنّه خلال عشرات آلاف الأعوام الأخيرة، الدماغ قد بدأ بالتقلُّص تدريجيا عند الإنسان العاقل Homo sapiens. فيما لو ندرس الأحفوريات منذ الإنسان الاول، الذي هو الإنسان الماهر Homo habilis، سنتمكّن من رؤية اتجاه تطوريّ من هذا الإنسان حتى نوعنا يتمثّل بازدياد في حجم الدماغ. لكننا ومنذ 100000 عام قد بلغنا الذروة، وهي اللحظة التي بلغ بها الدماغ حجمه الأقصى، سواء عند نوعنا، كما عند أقربائنا النياندرتال Neandertales.
بمجرّد قول هذا، يكون واضحاً أنّ التطوّر لم يتوقف عن العمل عندنا. لا نمتلك أدلّة على أننا خاضعين للإنتقاء الطبيعيّ فقط، بل نحن نتطوّر كل مرّة بسرعة أكبر. أحد هذه الادلّة يأتي من تحليل الجماجم وتحليل جيناتنا، والتي تُشير لأنّه خلال أواخر 10000 عام قد تقلّص الدماغ البشريّ بما يعادل قيمة متوسطة تعادل 150 سنتمترمكعّب. ولكي يكون لدينا فكرة واضحة، يكون متوسط حجم الدماغ الحالي 1350 سنتمتر مكعّب. في الماضي، امتلكنا 10% على الأقل كحجم أكبر من متوسط الحجم الراهن. هل هذا يعني بأننا نتجه لنكون أكثر غباء؟ كلّا، فلا يمكن النظر للدماغ وربط حجمه بالذكاء فقط. يُرى بأنّه ربما ساهم المجتمع المستقرّ المميّز للكائن البشريّ خلال العشرة آلاف عام الأخيرة مع نمو الزراعة، قد فضّلا عملية تكيُّف مع دماغ أصغر. فيما لو نُمعن النظر بالدماغ بوصفه مُستهلك شره للطاقة، بالتالي من الطبيعيّ أن يعمل الانتقاء الطبيعي على تقليصه، سيما حينما لا نحتاجه بكل هذا الحجم الكبير. وبحسب ما يجري اكتشافه، فإنّ ارتباط الحجم الكبير غير حصريّ بالذكاء فقط، بل بقدرتنا على التكيُّف لنكون نوع حيّ ديناميكيّ ونشيط بفعالية.
الإتجاه الثاني: نفقد حاسة الشمّ
نحن تصنيفياً من الرئيسيات، وككل أنواع الرئيسيات، لم نتميّز عن باقي الثدييات بحجم دماغنا الكبير، بل بسبب حاسة النظر المميّزة إلى جانب حاسة الشمّ. يمكن ملاحظة هذا الاتجاه التطوريّ في أواخر 55 مليون عام من تاريخ الرئيسيات. عند أنواع أخرى من الرئيسيات، مثل الشمبانزي والغوريللا، لم يُلاحظ حصول تغيرات بحاسة الشمّ عندهما، بينما سُجِّلَ عندنا الملاحظة. فمن بين 1000 جين كسؤول عن حاسة الشمّ قد ورثناها عن أسلافنا المُشتركين مع باقي الثدييات، قد فقدت وظيفتها 300 جين على الأقلّ بسبب طفرات قد أثّرت على بنيتها بحيث يصعب إصلاحها بأيّ طريقة ممكنة، وهذا ما تبيّن عندما قام علماء الوراثة بفكّ شيفرة جينومنا بشكل كامل. ولهذا نجد أنّ القدرة على الشمّ عند الكلب تتفوّق بمليون مرّة على قدرتنا على الشمّ كبشر.
تُشير دراسة حديثة منشورة في Molecular phylogenetics and evolution لأنّ هذا الإتجاه يتابع فعله، ما يعني أنّ حاسة الشمّ عندنا ستتدهور جيلاً بعد جيل.